نسيم ضاهر *
أدمتْ جراح الحرب الحزب الشيوعي اللبناني، وحاصرته قوافل الطائف العائدة عبر دمشق. فلكل حرفة أربابها، ولكل ساعة شياطينها. درج طوال ما يقارب ثمانين سنة من حضوره على مقاربة الظاهرات وفك أسرارها عبر ثالوث منهجيته المتمثل بالوضع الدولي، نزولاً الى المشهد العربي، ووصولاً الى الواقع الداخلي: وشارف نهايات القرن العشرين على عكس ما رآه دوماً إطاراً لعلاقاته (وسنداً لنضالاته): أحادية قطبية أميركية جارفة تقطر عولمة متوحشة ونظاماً أمنياً جديداً، وعالم ثالث محطّم يسير الفرادى، وجمهورية تحت الوصاية.
ما التهم الحزب الشيوعي اللبناني يوماً أي فصيل سياسي، لكنه أحاط نفسه بأصدقاء وحلفاء، حلقات تنمي دائرة حركته، من بعض ممثلي «البورجوازية الوطنية» الى القوميين العرب والبعثيين والناصريين الى مجموعات الإصلاحيين المسيحيين، اقتربوا منه أو تباعدوا عنه في فترات (أو خاصموه ورشقوه بتهمة التعارض الأممي مع القومية، ومنهم من عمل على إبقاء دمّل الموقف من قرار تقسيم فلسطين نازفاً)، لكنهم احترموا مكانته وأسبقيته في المنظمات العمالية، واحترافه المتقن للتوليف الشعبي والحشد الخارجي المؤيد، وأقروا بإشعاعه بين الطلاب والمثقفين على رغم زلّاته التي طبعتها الحرب الباردة (عملاً بمقولات جدانوف التحريمية آنذاك). جهد الحزب واجتهد ليكون سيداً في رسم سياساته، الداخلية والعربية منها على الأخص. بنى ذلك على وطنية وقناعة سندتها خصائص الواقع اللبناني، تاريخاً وتطوراً، وعبّر عن انتمائية كيانية لبنانية منفتحة حملت التضامن الى أقصى الحدود، توّجهها بدفعه أبلغ الأثمان دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية. نقد التجربة الناصرية وميلها الى البونابرتية، وبكى عبد الناصر علماً وعنواناً لحركة التحرر العربية. فرّق عميقاً بين القيود التي لفّت الشيوعيين في مصر، والإنجازات التي حققتها الثورة المصرية، وقوّم التحولات بكليتها ودلالاتها، وعضّ على جراح فتحتها الأنظمة التقدمية وأثقلت نقلتها، وغلّب المحتوى على الشكل خوفاً على المكتسبات.
هكذا تبلورت صورته لدى الآخرين عاقلاً، مرناً في تحالفه ومخاصمته. وهكذا مدّ جسر عبور نحو الساحة الإسلامية، فيما أخفق حملة رايات العداء لليسار الدولي من جرّ المسيحيين الى لفظ غريزي له، فرذل هؤلاء، في أحلك أيام الحرب الأهلية، الخلط بينه وبين المشاريع الطائفية الفئوية التي عبقت بها حركة الصراع.
انخرط الحزب الشيوعي في الحركة الوطنية ركناً مؤسساً، واستعاد دوراً أدّاه في معارك الاستقلال والمؤتمر الوطني الذي قام آنذاك. شارك في حرب السنتين دفاعاً عن عروبة لبنان وعن الثورة الفلسطينية فصيلاً مقاتلاً وصدامياً على معظم الجبهات، وأطلق شرارة المقاومة الوطنية ومارسها لسنوات مقدّماً كواكب من الشهداء وملحقاً أكبر خسائر بالآلة العسكرية الاسرائيلية. في كل رحلة. إن خصال الحزب الشيوعي آنفاً، لا تعني أن مسيرته الطويلة كانت دوماً بساطاً من الورد. فصدقيته لم تحصّنه من أخطاء داخلية جسيمة طاولت الإنسان ـــ الفرد وارتدّت على مناضلين مخلصين صُنّفوا عشوائياً في خانة التخاذل والعداء. عرف الحزب الستالينية مدى عقود ثلاثة، كانت حصيلتها نزيفاً بشرياً أودى بالعديد من الشرفاء الى خارجه وتخومه. يضيق المجال بالبحث المفصّل عن كيفية بلورة السياسة داخل الحزب الشيوعي، ودور هيئاته وأعضائه، ومبدأ المركزية الديموقراطية الذي اعتمده طويلاً. وبموازاته فقدت ديكتاتورية البروليتاريا مكانتها كعقدة بحثية وتخلت عنها الأحزاب الشيوعية، وعن حزمة من المقولات شكلت مدار بحث ومنافسة وتدقيق لأجيال. لكن أغلى ما افتقر إليه الحزب الشيوعي على الدوام هو الربح الخالص وترجمة رصيده الشعبي والمعنوي تمثيلاً وحضوراً في الندوة النيابية أو اقتراباً من مواقع السلطة. هل تلك لعنة أم الحزب انطبع بالمازوشية أو نكران الذات؟
تعطينا العقود الثلاثة الأخيرة أصدق جواب عن هذه التساؤلات. فهذا حزب جماهيري نسبياً وناشط، يحرّك قطاعات واسعة من الكسبة والطلاب، ويغذّي بدايات الحركة النسائية، ويحتضنه سرب من كبار المثقفين والمبدعين، ويواكب كمال جنبلاط حميماً من 68 ـــ 77، وينسج شبكة عريضة من التحالفات، ومع ذلك تُسدّ في وجهه أبواب البرلمان. وهذا ممثل لتيار عريض فاعل في عمق المجتمع اللبناني، رقعة انتشاره على مساحة الوطن خلافاً لسائر التنظيمات بالمطلق، (باستثناء الحزب القومي ربما)، يضرب قواعده في كل الطوائف (ولو بتفاوت)، ولا يحظى بدور تشريعي مباشر. وهذا فصيل أساسي من الحركة الوطنية (ثم من المقاومة الوطنية) يستبعد كلياً بعد اتفاق الطائف، وهو من أوائل من أسهم في إرساء السلم الأهلي واقعاً سياسياً، على الأرض!!! هذه الإشكالية اللامعقولة تدعو الى الوقوف على جوهر الأمور، فأين مكامن الخلل؟؟
للمسألة وجوه متعددة وأسباب، منها ما يعود بالقطع إلى الحزب نفسه، فتؤرّقه وتجعله في مساءلة دائمة، ومنها ما نزل وينزل عليه بقدرية جغرافية وتاريخية. تتقاطع هذه الأسباب اليوم أكثر من أي وقت مضى لتطرح قضية عميقة تتناول وجوده (أو بالأحرى صيغته تحديداً) وخرجت من حقل النظرية منذ مدة حين جرى تداول مقولة العودة الى حزب الشعب مع ما تحمل من رمزية تاريخية تعود الى مرحلة ما قبل تأسيسه. ويمكن تلخيص المعادلة بالآتي: ما العمل لتحقيق نقلة نوعية تحافظ على المضمون والموروث، وتسوق الحزب الى المشروعية التامة! كيف يبقى على جوهر التمايز من سائر التنظيمات مع انسياب الحزب طبيعياً الى قلب النسيج السياسي عنصراً ثابتاً وحاضراً على كل مستويات الحياة السياسية؟ ما هي معايير المقبولية الكاملة لدى الآخر وكيف الوصول إليها؟
هنا بالتحديد نصل الى قعر المسألة لأن المراد ليس مجرد إعلان ذاتي أو إقرار، بل ما يتعداه في الحقل العربي وفي بلد تنخره العصبية المذهبية. قد يكون الاعتراف بالعوائق الموضوعية أولى خطوات حل الأحجية المستعصية. فالعالم المحيط بلبنان بإسلامييه وعلمانييه شديد الحساسية تجاه تعبير الشيوعية، يعبث به كلما اشتدّت أزمته وانغلقت آفاقه، ويسمح لكل صنوف أصحاب الغرضية بركوب موجة العداء وتسخين التشنّج وإثارة الغرائز، سواء تحت ستار الدين أو محاربة الأفكار المستوردة. وليس في الأمر من لفظ للقيم التي يحملها الحزب أو مناداته بمصالح الكادحين، بل إنه محاولة دائمة لجرّ النقاش الى الحقل الديني وإحلال التحريم بمنزلة التعارض مع البيئة والتاريخ. وللإنصاف، فإن جسامة الدعم السوفياتي والاشتراكي والمساعدات التي قدمت للبلدان العربية لم تفلح يوماً في تغييب دعوات العداء للشيوعية التي خمدت جزئياً وإلى حين، وبقيت كالجمر تحت الرماد، لتعاود ذرّ قرنها عند أول مناسبة، وتنفلش بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية.
وبموازاة ذلك، يؤدّي ضعف الطبقة العاملة العربية، وتخلّف البنى الاجتماعية دوراً حاسماً في غياب الديموقراطية وهزالة شيوعها. بذلك يفتقد الحزب الشيوعي أحد أهم مقومات وجوده، فيما يُفقده انحسار الديموقراطية سياجاً، ويعطّل حلبة الحراك السياسي، ويفتح الباب على مصراعيه للجاهلية ونظم الاستبداد. وفي لبنان، تجتمع هذه الأسباب نسبياً، ويضاف إليها وباء الطائفية، لتوقع الحزب بين نارين تعمل كلتاهما على تقويض الديموقراطية، وإفقاد الحوار (والصراع) حقله العقلاني، وتغليب الانقسام العمودي على الانقسام الأفقي الحقيقي المعبّر عنه بالصراع الطبقي.
يتطوّع حراس الهيكل دورياً لنبش مغالطات وإسقاط تهم بالية على «الأفكار الهدّامة» التي تنسب الى الشيوعية، وتقيم جداراً محكماً بينها وبين المقبول، وعبثاً اعتقد الشيوعيون في لبنان (والعالم العربي) بأن في إمكانهم احتواء هذه الحملات أو الردّ عليها ببيان إخلاصهم لقضايا الشعب والمراهنة على الوعي، غير أن هناك «جماهير» ما زالت تصغي عفوياً لنداءات التحريم والعنصرية الزائفة.
لم تتمكّن عقاقير الاعتدال في اللغة والخطاب ومساحيق مسايرة الفكر الديني السائد ومهادنة تجلّياته (كالقول بالأحزاب الوطنية والإسلامية) من كسر الطوق المضروب على الشيوعية «والمادية الملحدة»، ولن تدفن قريباً المنظومة الفكرية القروسطية المتحكّمة بأوهام التناقض المطلق بين الشرق والغرب، ولسوف تصطدم، ولحقبة طويلة، معايير الأمة ـــ المرجع ـــ مع أسس الدولة الحديثة وضرورة بنائها لبنة لبنة (والأحزاب من لبناتها والقبول بالآخر من شروطها). هذه، في المناخ العام، كتلة الأصفاد المقيّدة للحزب الشيوعي، يضاف إليها القصور الذاتي في تلفّق المتغيرات وأحداث التغيير.
فالحزب، اليوم، مهشّم ومتعثّر، يشكو من خلافات في الرأي وتباينات في الرؤى، تدير قيادته أزمة موروثة بصعوبة بالغة، بعدما صفّقت (أو سكتت واستكانت) لشعارات الحزب الجماهيري المقاتل، وطربت للزغاريد وطقوس الإشادة والتمجيد بالأمين العام، حاملاً للأزمة وقائداً للمسيرة.
يتخبّط الحزب يتيماً في انكفاء (وعزلة طوعية وقسرية في آن واحد)، ضائعاً في تعريف مبتغاه وتوحيده، غير معافى في صحته، ملؤه التساؤل عن المستقبل. معه، وفي مقابله، وبموازاته، تقف صفوف مبعثرة، لكنها ما زالت من أفعل القادرين على التعبئة والحضور الشعبي على رغم الخسائر التي لحقت بها على مرّ عقدين كاملين. هذا بالضبط ما يطرح ضرورة المراجعة والعودة الى الفرص الضائعة، وأخصها اثنتان على وجه التحديد.
كانت أولى الفرص أواخر عام 77 بعد اغتيال الشهيد كمال جنبلاط. كانت حرب السنتين قد انتهت محلياً آنذاك، وخاضها الحزب بصدق، مهما اختلفت تقويمات الخطأ والصواب في الأمر ومسبّباته. آنذاك تكرّست عوارض الانقسام (واستمرار الاقتتال الطائفي والمذهبي في ما بعد) صارخة، وتحطمت فعلياً الحركة الوطنية، وكان في مقدور الحزب (ومسؤوليته التاريخية) إعلان الخروج صراحة من الحرب الأهلية الطائفية، ونبذ كل اقتتال، والمراهنة المطلقة على وحدة الأرض والشعب وضرورة إحياء الدولة بمؤسساتها.
فوّت الحزب هذه الفرصة، وانغمس في بدائل الإدارة المدنية (بتحفّظ حقيقةً)، وسرعان ما انجرّ كلياً الى خنادق بعيدة من مبادئه وقواعد سياسته، فغازل الفريق «الإسلامي» وغالى في تقدير ضرورات المرحلة، وضيّع ميزة أساسية التصقت به تاريخياً كحزب علماني لبناني بامتياز، أقدر على المراجعة العميقة والمؤلمة من سواه.
فشل الحزب في قراءة المتغيرات، بهت لونه الوطني في تظهير عروبته من دون أن يكتسب ثقة المسؤولين السوريين المتلاعبين صعوداً ونزولاً بقوات الردع العربية. خسر، لا بفعل سوء تقدير، بل لتغييبه جوهر وجوده الوطني اللاطائفي الحاسم، ونسيان شمولية رؤيته. وإلى اليوم، يحصد الحزب نتائج تناقضه مع ذاته وفهم الآخر لصورة الحزب، حتى لو كان هذا الآخر شقيقاً (بدليل تطويق مقاومته وشلّها واستبعاده من الحقل السياسي بعد الطائف وحرمانه المطلق «حصةً» لهث وراءها من دون جدوى). ولا يفيد في هذا المجال إلصاق هذه السياسة وهذا السعي ببعض الحزب، ففيه تكرار للخطأ وتنصّل من المسؤولية. انهار الاتحاد السوفياتي، وتحطّم جدار برلين بداية التسعينيات. وإذا كان مؤمّلاً أن يقف الحزب عند هذا الزلزال، وأن يرصد موجاته الارتدادية، فإنه اكتفى ببعض الخلاصات والأفكار التزيينية، وغاب عنه التحليل العميق للمتغيرات التي سوف تحدثها العولمة في أشكال الصراع المقبل وأدواته. والحقيقة أن انحلال المعسكر الاشتراكي قد فاجأ الحزب (وهذا ما وجب تأكيده عميقاً) عوض التلطّي وراء الاستشرافات المزعومة والادّعاء غير الصادق. ما كان من عيب في ولوج جادة النقد الذاتي العميق (فالموضوع يطال صيغة الحزب نفسه وضرورته وكيفية ممارسته)، لأن الحزب، شاء أو أبى، ارتبط تاريخاً ومساراً بتجربة الأحزاب الشيوعية الحاكمة بعد تمايز جوهري مع الاشتراكية الثانية.
ولئن حتّمت آثار الحرب الأهلية الطويلة إمكانية بروز بعض هذه الظاهرات السلبية، فإن الانفجار الحاصل بفعل السياسات المتبعة وطبيعة السلطة الجديدة نقلها الى مستوى الخطورة القصوى.
هكذا ارتسمت صورة جديدة لمجتمع منكوب شرّع حدوده لليد العاملة الوافدة بأعداد هائلة من سوريين (بشفاعة النظام الجديد والوجود العسكري) ورعايا بلدان الفقر من آسيا وإفريقيا على السواء، وطارئين من كل حدب وصوب.
نسفت هذه العوامل تركيبة المجتمع اللبناني وتوازناته في زمن قصير، وشوّهت صورته التقليدية الراسخة. وبالطبع، كان الحزب الشيوعي من أبرز المتأثرين بها (والخاسرين من جرائها). فلقد أطاح نزيف الهجرة البشري فئاتٍ واسعةً من الطبقة العاملة (والأجراء والحرفيّين) وبدّل صورتها. حلّت العمالة الجديدة في مواقع كثيرة تعدّت قطاعيْ البناء والزراعة حيث العمل الموسمي كان رائجاً، وغلبت العمال والمستخدمين والأجراء المحليين في المصانع والمؤسسات الخاصة. وعليه، لم يعد في مقدور الحزب الشيوعي (وليس في مستطاعه) التعامل مع هذه «البروليتاريا الرثة» وتأطيرها، فهو ليس مرجعها، ولا هو بحاميها وحامل مصالحها بهذه السهولة، وهي بالمقابل تبحث عن فتات مجتمع الاستهلاك وتخشى النضال الاجتماعي مخافة البطالة. واستطراداً، فإن ميزان الحراك الاجتماعي مائل بالضرورة نحو الأبوية والحماية السلطوية، ورعاية الأجهزة المتحكمة بمصائر ضعفاء خائفين على إقامتهم (غير المشروعة عامة) وقوتهم اليومي.
فوق ذلك كله، عمّمت الأزمة الاقتصادية الحادة حالة الإفقار وطوت شرائح عريضة من المجتمع، من دون أن تلوح بدائل ممكنة، جاعلة الحوار الاجتماعي (والتخاطب الصراعي المطلوب) ترفاً غير مستحب، وحملت وكلاء النافذين من أرباب السلطة الى صدارة الاتحاد العمالي العام، بعدما أشبعت النقابات تمزيقاً وشرذمة، ليقوم قادتها على الولاء والمحسوبية، وتحل المساومة (والتسوّل) على موائد رأسمالية الفخامة الظافرة موضع العمل المطلبي الصريح. اجتمعت الظروف القاهرة على الحزب، وتردد في استخلاص النتائج العميقة. ناقش في التداعيات وأغفل جوهر المتغيرات، فخلص الى مراوحة مخافة خسارة جسم من المتعلّقين بالصيغة، المخلصين عامة بسليقة وعفوية لماضي الأحزاب الشيوعية وأمجادها. صبّ نار غضبه على الإمبريالية بردّ انتقامي على الهزيمة، فيما المطلوب التاريخي يستوي في دائرة الذات.
أغفل الحزب مواكبة إعصار ثورة المعلوماتية ووسائل النقل والاتصال، وما تحمله العولمة المتسارعة من معطى جديد في الحقول كافة، لا بل إنه تراجع عن الإمساك ببعض مفاصلها كقناة تلفزيون الجديد تحت وطأة أزمته المالية. فقد صوته في الصحافة السياسية (وهذه ترجمة لحالة عامة)، وترنّحت دوريته الأدبية (الطريق). وثمة مخاوف حقيقية من تباطئه في صياغة خطابه الدعوي بلغة الحداثة وما تستدعيه من عناوين في سلم الاهتمامات والأولويات (البيئة، حقوق الإنسان، علاقات العمل في ضوء التكوين الجديد المتلاحق لتوزيع العمل على الصعيد العالمي، وبعامة حركة الرساميل، والمكانة المتزايدة لقطاعات الخدمات الجديدة في عالم اليوم وما يرافقها من تبدلات في اللوحة الاجتماعية) وما تثيره من إشكاليات بالنسبة إلى الهرم الاجتماعي. أعوام من المآسي والتشرد والمعاناة طالت المجتمع اللبناني وهمّشت دعاة الحداثة والتغيير في أحشائه، بينما تغير المشهد الدولي برمته. كان من الممكن (والمرجوّ) أن يعود الحزب الشيوعي عموداً فقرياً لمحور تاريخي يتجلّى في الدعوة لصياغة حزب عريض لليسار والعمل الحثيث لجمع مكوّناته بتعددية الآراء واعتماد أكثر من مرجعية تاريخية له، ماركسية بتحليلها ومنهجها، غنية بتنوعها، تتطلع الى المستقبل لا الى الماضي، وتتمحور حول الفاعلية.
* كاتب لبناني