محمد خواجة *
أنشئت لجنة فينوغراد في 17 أيلول 2006، للتحقيق في إخفاقات حرب لبنان الثانية، وتعرضت أثناء عملها للكثير من النقد من نواب في الكنيست ووسائل الإعلام، بسبب تمنعها عن نشر محاضر التحقيق مع الشخصيات الرئيسية المساهمة في صناعة قرار الحرب.
يتلخص التقرير في 230 صفحة، نشر منها 171 صفحة، بعدما حذفت يد الرقيب العسكري 59 صفحة منه، لتضمّنها معلومات وإفادات يضر نشرها «بأمن الدولة» وربما لاحتوائها أسماء شخصيات غير إسرائيلية ـــ عربية ولبنانية ـــ أدّت دوراً ما في الحرب الإسرائيلية على المقاومة اللبنانية. وطغى على التقرير الطابع التوصيفي، وتحديد المسؤوليات، من دون تقديم توصيات ملزمة بإقالة أي مسؤول مدني أو عسكري، ربما لكونه تقريراً جزئياً، ولا يغطي من فترة الحرب إلا الأيام الخمسة الأول، بانتظار صدور التقرير النهائي في آب 2007.
في مقاربتنا لتقرير لجنة فينوغراد لن نتطرق الى الجانب السياسي، والسيناريوهات المحتملة. فقد كتب في الأيام الماضية مئات التحليلات والمقالات والتعليقات بهذا الشأن. لذا سنكتفي بالتركيز على القراءة العسكرية لأهم النقاط التي وردت فيه.
1ـــ يدل تأليف لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات الحرب، على اعتراف إسرائيلي صريح بفشلها العسكري. وقد ورد مصطلح «إخفاق» 156 مرة في التقرير، وهو ما يدل على الشعور الإسرائيلي بالهزيمة.
2ـــ الإقرار بالمسؤولية الإسرائيلية عن الحرب، فقد ورد في الفقرة 104 من التقرير أن: «رئيس الحكومة شخّص وجود فرصة لوضع فيه تأييد دولي لخطوات عسكرية تمس بحزب الله، وسارع الى العمل كي يستنفدها». وورد في الفقرة 135 من التقرير ذاته: «نجد أن رئيس الحكومة مسؤول عن حقيقة قرار شن الحرب في 12 تموز»، وهو ما يدحض بعض المواقف العربية واللبنانية التي دأبت على تحميل المقاومة مسؤولية اندلاع الحرب.
3ـــ حصرت اللجنة مكامن الخلل في الحرب الإسرائيلية على لبنان. بسوء التقدير ، وقلة التخطيط، ونقص الاستعدادات، والتدريبات الميدانية، فضلاً عن القصور في إدارة الحرب، والمغالاة في تحديد أهدافها. وتصبح الهزيمة ـــ بنظر لجنة فينوغراد ـــ ناتجة من تقصير إسرائيلي، متى عولج سيكون النصر الى جانبها في الحروب المقبلة!! وهكذا حصرت اللجنة الخلل في الجانب التقني فقط، متغافلة عن نقاط القوة لدى الطرف الآخر. وكأن المقاومة غير معنية بهذا الانتصار، أو أنها انتصرت لأن العدو لم يُحسن استخدام إمكاناته وبالتأكيد فالمقاومة تملك عناصر القوة الذاتية.
لقد تجاهلت لجنة فينوغراد، في تقويمها، طبيعة العدو المواجه للجيش الإسرائيلي؛ إذ إنه عدو من طراز جديد يدافع عن قضية محقة، ويعتمد استراتيجية الحرب غير المتماثلة، وتكتيكات قتال ملائمة، الى جانب استخدامه لأسلحة مناسبة، الأمر الذي أربك الجيش الحديث المعتاد على الغلبة في حروبه السابقة.
4ـــ حمّلت لجنة فينوغراد الجنرال دان حالوتس ـــ رئيس الأركان السابق ـــ مسؤولية الفشل، واتهمته بالتركيز على سلاح الجو (النار عن بعد) من دون إيلاء الحرب البرية المكانة المناسبة في خطته. كما ورد في الفقرات (19ـــ23ـــ81 ـــ110ـــ171) من التقرير، ومثل هذا الكلام كان موضع تعليق العديد من الجنرالات أمثال شاوول موفاز، وموشيه يعلون، ومعهم أيضاً، العديد من الخبراء الاستراتيجيين الإسرائيليين، في معرض تحليلهم لأسلوب إدارة الحرب ونتائجها. وارتأى هؤلاء أنه كان من الأجدى أن يتم تجنيد فرق عدة من الاحتياط في الأيام الأولى للحرب، والاندفاع فوراً الى مسافات تضمن إبعاد نار صواريخ المقاومة عن شمال إسرائيل. وتقدير هؤلاء ـــ ولجنة فينوغراد أيضاً ـــ يميل الى مقاربة أسلوب اجتياح لبنان عام 1982، واعتماده خريطة طريق للحرب البرية. ففي اجتياح 1982 طبقت القوات الإسرائيلية في هجومها أسلوب الحرب الخاطفة، بغية تحقيق أهدافها بسرعة، وبأقل خسائر ممكنة؛ اذ كانت تتجاوز البلدات والمخيمات الفلسطينية، وحتى المدن الرئيسية ـــ لكونها عقداً قوية للمقاومة ـــ تاركة مهمة تطويقها، والتعامل معها على عاتق الأنساق الثانية والثالثة من القوات المهاجمة، بينما تتفرغ قوات النسق الأول للتوغل داخل العمق اللبناني. ولو طبق هذا الأسلوب في حرب تموز، ربما بدّل قليلاً من نتائجها، إلا أنه لن يحرز تغييراً استراتيجياً في الموقف. فتطبيق خطة كهذه، يتطلب حشد قوات عسكرية كبيرة، مع صعوبة الإحاطة بحدود العملية العسكرية ونتائجها.
ففي «رؤية افتراضية، كانت القوات الإسرائيلية ستتجاوز حدود مجرى نهر الليطاني لكون احتلال منطقة جنوبي الليطاني، قد لا يوقف الرمايات الصاروخية باتجاه العمق الإسرائيلي. فأبعد نقطة بين الحدود اللبنانية ـــ الفلسطينية ومجرى النهر، لا تزيد على 20 كلم، وهذا يعني أن النسق الأول من المستوطنات الإسرائيلية، سيبقى في مرمى صواريخ الكاتيوشا، لا سيما المعدلة منها (28كلم)، هذا بالإضافة الى أنواع الصواريخ الأخرى ذات المدى الأبعد، وهو ما سيجبر القوات الإسرائيلية على تخطي مجرى النهر شمالاً، ولمواجهة هذا التوسع سيناريو آخر».
وقتها، كانت المقاومة ستعدل تكتيكات المواجهة، والمرجح أنها سوف تلجأ الى أسلوب القتال «التأخيري»، بهدف إنزال أكبر نسبة خسائر بالعدو وإعاقة تقدمه قدر الإمكان، من دون التمسك «بالجغرافيا» بما يفوق قدرتها. وقد تعمد الى زرع «مجموعات نائمة» في القرى والوديان والأحراج، لتنشط بعد أن يطمئن العدو إلى أن الأمر قد استتب له، مستهدفة خطوط مواصلاته، ونقاط تمركزه الجديدة. ومن يضمن، حتى لو نجحت القوات الإسرائيلية في الاندفاع واحتلال مناطق لبنانية واسعة، ألاّ تضطر للتعامل مع سيناريو مرحلة ما قبل عام 2000؟ غير أنها هذه المرة ستواجه مقاتلين أكثر جرأة وأكثف خبرة وأفضل تسليحاً.
5ـــ ركز التقرير على انعدام المعرفة العسكرية لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، معتبراً أن هذا الأمر أثّر سلباً على أسلوب إدارة الحرب، التي تُركت عملياً لرئيس الأركان وحده. ونظراً لأهمية هذه الملاحظة ـــ بنظر لجنة فينوغراد ـــ فقد وردت في الفقرات (12ـــ 15ـــ 16ـــ 139ـــ 145ـــ146) من التقرير.
بهذا توصي اللجنة بطريقة غير مباشرة، بتولّي الجنرالات لمواقع القرار في الدولة الإسرائيلية. وقد يدغدغ هذا الأمر رئيس الأركان الجنرال غابي أشكنازي، الذي سارع الى تأليف لجنة خاصة لدراسة تقرير فينوغراد، علماً بأن أشكنازي شخصية طموحة وقائد ميداني، إذ سبق أن شارك في حروب عديدة ضد العرب، وقد أصيب أثناء عملية الليطاني (1978) ويعمل حالياً على إعادة تأهيل الجيش، ومعالجة العيوب البنيوية التي تعتريه، وتحسين جهوزيته من خلال تكثيف التدريبات والمناورات، وقد يسعى إلى الاستفادة من حالة الارتباك السائدة في الدولة العبرية، لتلميع صورته في نظر المؤسسة العسكرية والمجتمع الإسرائيلي، الأنر الذي يؤهله لأداء دور ٍمميزٍ على الصعيد السياسي في المستقبل، لا سيما أن معظم القادة «التاريخيين» أتوا من المؤسسة العسكرية.
إن مضمون تقرير لجنة فينوغراد، وأسلوب مقاربتها لإخفاقات الحرب، بدون النظر في مسبباتها، يدل على أن إسرائيل لم تتعظ بعد من التجربة القاسية. فبدل أن تناقش اللجنة الطبيعة الإسرائيلية، المولدة للحروب في لبنان والمنطقة، نجدها تركز على العيوب ومكامن الخلل، لتحسين الأداء في الجولات المقبلة.
هنا يتساءل المراقبون: أيضع نشر التقرير حداً لحالة فقدان التوازن التي تعيشها إسرائيل منذ مدة، على المستويين السياسي والعسكري؟.
أم، بالعكس، سوف يؤدي الى مزيد من البلبلة والارتباك، وبخاصة على المستوى السياسي؟.
وهل يُقدم الجيش الإسرائيلي، بعد الانتقادات التي طالته، على مغامرة جديدة ضد أحد أضلاع مثلث المواجهة ـــ لبنان، سوريا، فلسطين ـــ لاستعادة الهيبة المفقودة؟ أم أنه يستعد للمنازلة الكبرى مع العدو الوجودي... إيران؟.
* خبير لبناني في الشؤون العسكرية