ربيع أرز الباروك
  • فايز فارس

    الربيع في عكار كألوان قوس القزح يدعوك إلى زيارة الضيعة الحبيبة لتنعم بدفئها الإنساني ونسماتها النقية المنعشة وزرقة سمائها الصافية في آن واحد. إنها العودة إلى الينابيع العسلية، ترتوي من مياهها الغزيرة على طريقة العشاق. إنه اللقاء المتجدد بالجار الغيور يطرق بابك عند الصباح الباكر مع زقزقة العصافير. مضت أشهر الشتاء لم أرَ خلالها جاري العتيق العزيز أبا جميل العسكري المتقاعد الذي كان أمضى الصيف الفائت وهو يسألني كل يوم.. إلى أين نحن ذاهبون؟ زارني أبو جميل هذا الصباح وهو يحمل بيده هديته المعتادة «غالون عرق متلّت». هذه السنة لم يكتفِ بـ«العرقات» بل حمل معه معلاقاً، أي قصبة سودا، مع بعض النعناع الأخضر. بادرته مرحّباً بضمّه إلى صدر مشتاق، وسألته: شو القصة با أبا جميل، حامل معك قصبة سودا..؟ فأجاب: بدي إشرب معك كاس وليد جنبلاط.. ضحكت حتى طقّت خاصرتي. ودخلنا معاً إلى المطبخ لإعداد مازة كاس العرق على الطريقة الجبلية أي من دون مورتديلا وجونبون وغيرها من المواد المعلبة المستوردة. ما هي إلا بضع دقائق حتى جلسنا إلى طبلة مركونة منذ عقود تحت شجرة السنديان في وسط البستان. ورحنا نشرب نخب وليد بيك. في المقابل كان عليّ أن أشرح لجاري أبي جميل مدى جديّة التحول في المواقف والتصريحات التي صدرت عن وليد جنبلاط في هذه الأيام الأخيرة. وإذ بأبي جميل يتوقف عن شرب كأسه الثالثة، ثم نظر إليّ متلهّفاً.
    يبدو يا أبا جميل أن المراقب السياسي والمحلل الاجتماعي الاقتصادي واللاعب الدولي الممسك بخيوط الدمى المتحركة.. قد اتفقوا على أن أكثرية اللبنانيين هم، في الحقيقة والواقع، أكثر وعياً وإدراكاً من قادتهم السياسيين وغير السياسيين، لأنهم هم الذين صنعوا احتفال 8 آذار الشهير واحتفال 14 آذار الذي فاق كل التوقعات و«ركّبوا» على أكتافهم أكثرية نيابية وصدّقوا ما جاء في البيان الوزاري لحكومة إنقاذ.. كل ما فعلته خلال سنتين أنها أغرقت البلاد والعباد في وحول السجالات العقيمة والخلافات الوهمية والدماء البريئة والاختلاف على جنس وجنسية الملائكة. أكثرية اللبنانيين صدّقوا فآمنوا بالديموقراطية والحرية والسيادة والاستقلال، بينما قادتهم يتلهّون بمصالحهم الشخصية. وصبروا وكابدوا وصنعوا الانتصارات الحقيقية التي شكّلت أكبر صدمة في تاريخ شعوب المنطقة والعالم ودولهما. وهم الذين يعرفون الحقيقة عمّن أوعز وخطط ونفذ عملية اغتيال لبنان.. وصمتهم هو الذي يخيف ويقضّ مضاجع قادتهم. أكثرية الشعب اللبناني أدركت ومنذ زمن بعيد أن تسعين في المئة من قادته السياسيين وغير السياسيين هم رجال أعمال ومستثمرون من الطراز الأول يعرفون جيداً كيف يستغلون البراءة والسذاجة وحب الحياة التي يحملها اللبناني في عقله وقلبه وبطنه. أكثرية الشعب اللبناني أدركت ومنذ زمن ليس بالبعيد أن الموالاة ممسكة بناصية الحكم لا من أجل كشف عناصر الجريمة الكبرى ومعرفة الحقيقة، بل بسبب خوفها من كشف ممارساتها وارتباطاتها خلال حقبة الوصاية الخدّامية الكنعانية (التي ليست لها أية علاقة بالحضارة الكنعانية القديمة). أكثرية الشعب اللبناني تعرف اليوم أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، الخاصة بلبنان والشرق الأوسط، هي التي دفعت عملياً بفئة محددة من اللبنانيين إلى أحضان الدولة الإيرانية الإسلامية وجعلت فئة أخرى في حالة لا تستطيع معها من قطع أو تخفيف ارتباطها بالنظام السوري، وأنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، مستعدة أكثر من أي وقت مضى للتضحية بكل شعوب منطقة الشرق الأوسط العربية وغير العربية (الكرد وتركيا وإيران وباكستان) ودولها، من أجل توفير استمرارية وتفوّق المشروع الصهيوني الذي يبدو أنه بات يعيش على أمجاده الغابرة، أمجاد صنعتها هذه الولايات المتحدة الأميركية بكل ما ملكت من إرادة وقدرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا. ووليد بيك يعرف كل ذلك، لا بل يعرف أكثر من كل هذا وذاك.
    وفي الختام كان عليّ، زيادة في طمأنة أبي جميل، أن أعده بزيارة لغابة أرز الباروك هذا الصيف، لأن المياه ستعود إلى مجراها الطبيعي وسيستعيد لبنان، كل لبنان، عافيته، وسيقوم اللبنانيون بزيارة بعضهم بعضاً ويسوحون في بلادهم مقيمين ومغتربين، وكاسك مقفّا يا وليد بيك.. كاسك يا وطن. لكن يبدو أن وليد بيك سمع بسكرتنا، أبي جميل وأنا، الحلوة، ولم يرد لنا أن نهنأ بها فرجع مع حليمة إلى عادتها القديمة. ولم يبقَ لي سوى أن أتذكر ما كتبه ذات يوم الراحل الكبير سعيد تقي الدين في وصفه للراحل الكبير كمال جنبلاط الذي ما زالت روحه ترفرف مع طيور السماء فوق غابة أرز الباروك، على رغم كثافة غبار المعارك القديمة والحالية التي تغطي سماء لبنان.