خليل حسين *
شكَّل انعقاد مؤتمر شرم الشيخ محاولة أميركية لرسم إطار جديد للتعاطي مع الدول الوازنة إقليمياً، ومن بينها إيران. وعلى الرغم من الاندفاع الأميركي و«الغنج» الإيراني في تحديد مستوى سقف العلاقة، ثمة العديد من الأسباب والمعطيات المؤثرة التي من الصعب تجاوزها لتظهير نمط واضح لمستقبل التفاهمات والعلاقات بين البلدين. فماذا في علاقات الدولتين وتداعياتها على مجمل ملفات المنطقة؟
غريب المفارقات في العلاقات الأميركية الإيرانية ما يؤثر ويتأثر بها من عوامل هي بغالبيتها ليس لها علاقة بالبلدين بشكل مباشر بقدر ما هي تعبير عن التقاء أو تضارب المصالح بينهما. وفي الواقع تتداخل هذه العوامل وتتنوع، بدءاً من العقائدي، مروراً بالسياسي، وصولاً إلى الاقتصادي والاجتماعي. وقد مرّت العلاقات بأشكال وأنواع مختلفة حتى في الحقبة العقائدية الواحدة نفسها مثال مرحلة الثورة وما تلاها، ما يصعِّب عملية توصيف أو تنميط العلاقة. ومهما يكن من أمر، فإن أفضل التوصيف يكمن في الكثير من الاختلافات والمآزق، وقليل من الانفراجات والتفاهم على قضايا مستجدة وأخرى تقليدية. والقراءة الدقيقة تظهر العديد من الملاحظات أبرزها:
ـــ تشهد العلاقات الإيرانية ـــ الأميركية مرحلة أخرى من الصعود والهبوط المتكرر. فمن ناحية العراق المقبل على مرحلة جديدة يحتاج فيها إلى مساندة إقليمية ودولية لتحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني وفقاً لوثيقة العهد الدولي المقرة في مؤتمر شرم الشيخ، وهي مسألة ذات أهمية قصوى للولايات المتحدة الأميركية، ليس بالطبع حباً في العراق ولا العراقيين، لكن لتخفيف الأعباء والحد من الخسائر البشرية في صفوف القوات الأميركية؛ من هنا يمثل موقف إيران من الملف العراقي حجر الزاوية في نقطة الصعود أو الهبوط القادمة في العلاقات بين الدولتين.
ـــ إن مستقبل العلاقات بين البلدين لا يخضع لهذه الحسابات الإقليمية فقط، فمن الواضح أن العلاقات بين طهران وواشنطن تحتل حيزاً مهماً من الحسابات الداخلية في كلتا الدولتين، وبخاصة على الجانب الإيراني. فرغم أن العلاقة مع إيران تثير تباينات، وأحياناً خلافات داخل دوائر صنع القرار الأميركية، إلا أنها تظل محصورة داخل نطاق محدد بالإدارة والكونغرس، فضلاً عن كونها في النهاية مجرد جزء من قضايا السياسة الخارجية التي لا تثير اهتمام المواطن الأمريكي، بينما الوضع مختلف إلى حد كبير على الجانب الإيراني، فالعلاقة مع الولايات المتحدة محل اهتمام مختلف المستويات الشعبية والقيادية.
ـــ على الرغم من اتساع نطاق الاهتمام الإيراني بالعلاقة مع واشنطن إلا أن القرارات المصيرية في هذه السياسات الاستراتيجية ذات الصلة بالمصلحة الإيرانية العليا لا تخضع لمقتضيات الصراع الداخلي أو التباين في الرؤى حول جدوى العلاقة وأهميتها، فغالباً ما ينصب هذا التباين على المسار الثنائي للعلاقات، لذا يلاحظ أنه لا يزال متعذراً وشبه مجمّد تماماً، بل ومرشح لمزيد من التأجيل في ضوء استعادة المحافظين قوتهم السياسية والمؤسسية. أما القضايا والمسائل من شاكلة الملف العراقي أو العلاقة مع حزب الله اللبناني وغيرها، فهي تخضع لحسابات استراتيجية عملية، أو بالأصح مصلحية في المقام الأول. بينما توجد بعض المسائل التي تقع في منطقة وسطى، إذ تتأثر بتوازن القوى الداخلي في إيران رغم أهميتها.
ـــ أما في الجانب الأميركي، فالخلاف داخل هذا النطاق أكثر حدة، والفجوة أكثر اتساعاً عنها في إيران، بما في ذلك ما يتعلق بالقرارات المهمة والجوهرية في مسار العلاقة، بل وفي موقعها من الاستراتيجية الإقليمية لواشنطن في المنطقة. وهو خلاف لا يقتصر على إيران فحسب، لكنه على مبدأ ونمط إدارة السياسة الخارجية الأميركية وأدوات تحقيق أهدافها. فمن يوصفون بمجموعة الصقور في الإدارة الأمريكية يتبنون خطاً متشدداً يعتمد القوة بمختلف صورها وسيلة أساسية في التعامل مع القضايا الخارجية، وخاصة تلك التي تتعلق بدول أو موضوعات تثير هواجس أمنية أو تهدد مصالح أميركية من وجهة نظرهم. بينما ترى مجموعة أخرى أن الوسائل الدبلوماسية قد تكون أكثر جدوى وقبولاً لدى المجتمع الدولي مثال التحرك الديموقراطيين بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية أخيراً. وفي المحصلة تدرك إيران بشكل واضح أن الوجود العسكري الأميركي في العراق سيستمر فعلياً إلى فترة ليست بقصيرة، وهي بحسب العهد الدولي أقلها خمس سنوات، الأمر الذي يعني في حسابات السياسة الإيرانية وضعاً استراتيجياً جديداً على الجانب الغربي من مجالها الحيوي، وبالإضافة إلى الاحتلال الأميركي العسكري في أفغانستان فإن طهران أصبحت محاطة بحضور عسكري أميركي من شأنه مضاعفة القيود والأعباء المفروضة بالفعل على الحضور الإقليمي لإيران.
إن الوضع السالف الذكر سيؤثر في سلوك طهران وإدارتها للعلاقة مع واشنطن، وتدل المعطيات على أن إيران بصدد التعاطي بمزيد من البراغماتية مع الولايات المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن المسائل الناظمة للسياسة الإيرانية تجاه واشنطن تبدو متعارضة، لذا من الطبيعي أن تعالجها طهران بدرجة عالية من الحذر والتردد في آن معاً، إذ ستحاول الحفاظ على معادلة صعبة تجمع فيها المرونة في الاستجابة للضغوط والتحركات الأميركية بموازاة التشدد في متطلبات أمنها ومصالحها الذاتية، وهذا ما يفسِّر عملياً الإرباك في تظهير محاولة الجمع بين وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي ونظيرته الأمريكية كوندوليزا رايس في مؤتمر شرم الشيخ.
لذا من المتوقع أن توطّد طهران علاقاتها بفصائل المقاومة العراقية، على أمل أن تستثمر هذا التحرك في الحصول على إقرار أميركي واضح بأهمية الدور الإيراني في العراق لضبط الأوضاع والمساعدة على عدم انفلات الأمور، وخصوصاً في مناطق الجنوب، كما لا ترى إيران في سلوك الإدارة الأميركية الحالية سواء في العراق أو في منطقة الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، أو من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، فضلاً عن المسار الثنائي للعلاقة، ما يبشر بعلاقات طيبة بين الدولتين في المستقبل القريب، إذ إن مواقف الإدارة الأميركية بوجه عام، تشكل قيوداً إضافية على احتمالات حدوث تحسّن في العلاقات أو على الأقل تعليق الموقف المتوتر بينهما وتأجيل الملفات والقضايا العالقة إلى بعض الوقت، فالعودة إلى تقليب صفحات الملف النووي والتربص الذي يغلب على التوجه الأميركي الحالي نحو طهران، فضلاً عن التحريض المستمر من جانب إسرائيل، والتصورات الأميركية الجديدة لما يجب أن يكون عليه شكل منطقة الشرق الأوسط وجوهرها، كل هذه المعطيات تشكّل مؤشرات مقلقة لإيران نحو مستقبل علاقاتها مع واشنطن.
* أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية