تحدّيات عديدة واستحقاقات كبيرة تواجه الولايات المتحدة الأميركية على المستويين الداخلي والعالمي، الأمر الذي يرى فيه العديد من المراقبين بداية نهايـة الإمـبراطورية الأميركية التي وصلت إلى ذروة المناعة والسيطرة مع انحلال الاتحاد السـوفيـاتي وتربّعها زعيماً وحـيداً على عرش العالم. فـيما يرى البعـض الآخر أن أميركا ستبقى في أوجها، وما زال المجال أمامها متاحاً، من دون مخاطر جدية، للحفاظ على تماسكها وحصانتها الداخلية، والمزيد من الهيمنة والتفوق على الصعيدين الإقليمي والعالمي.فهل دخلت الولايات المتحدة مرحلة الانحدار نحو السقوط، أم ان الأمر لا يعدو كونه مجرد تمنّيات يطلقها المناهضون للهيمنة الأميركية في العالم.


أزمة وجود أم تحوّل في الهوية؟
وجيه قانصو *

ليست الأمم كائنات جوهرية، بل هي تركيب لعناصر بسيطة ومباشرة وعينية، تتشكل من انصهارها وتمازجها أمة ذات هوية موحدة وقيم مشتركة، تولّد الوعي الفردي والجماعي بالذات، وتخلق شعوراً بالتمايز عن بقية الأمم. وغالباً ما يكون انهيار الأمم من داخلها لا من خارجها، حيث تتحول الهوية الواحدة إلى هويات والولاء الوطني إلى ولاءات متعددة.
وإذا كانت كل الأمم الكبرى إلى زوال، حيث لا يوجد مجتمع خالد، وكما يقول روسو: «إذا كانت إسبارطة وروما قد زالتا فأي دولة يمكن أن تأمل الاستمرار إلى الأبد»، وإذا أضفنا متغيرات العالم في نهاية القرن العشرين، التي أدت إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، فهل الولايات المتحدة حالياً مُهدّدة بالتفسّخ الداخلي والتلاشي، كما كان قدر روما وإسبارطة والاتحاد السوفييتي؟ وكما لاحظ روبرت كابلان بقوله: «ربما توجد أسباب تستدعي القول بأن أميركا ولدت لتموت أكثر من أي أمة أخرى».
تأسس المجتمع الأميركي الأول من مستوطني القرنين السابع عشر والثامن عشر، الذين جاء معظمهم من الجزر البريطانية، حيث كانت قيمهم ومؤسساتهم وثقافتهم، تقوم بالدرجة الأولى على العِرق الأنغلوساكسوني والإثنية البريطانية والثقافة الأوروبية وعلى نحو أكثر أهمية الدين، وهي مكونات ظلت المحدد المركزي والدائم للهوية الأميركية. وعلى رغم تغيّر المكوّن العرقي في أميركا، مع توافد مهاجرين جدد ألمان وإسكتلانديين كاثوليك، حيث لم يعد الإنغلو ــ أميركيون هم النخبة البيضاء الوحيدة، إلا أن الثقافة الإنغلو ــ بروتستانتية استمرت ثقافة مسيطرة لمدة تزيد على ثلاثمئة عام.
أخذ تعريف أميركا في القرن الثامن عشر يأخذ منحى إيديولوجياً، ليبرر الأميركيون استقلالهم عن مواطني بلدهم الأصلي. وقد عزز الكفاح ضد بريطانيا ثم ضد فرنسا وثانياً ضد بريطانيا، شعور الأميركيين بأنهم شعب واحد. إلا أن ثورة المستوطنين الأميركيين لم تصنع أمة ذات شعور وطني موحد، بل صنعت اتحاداً بين مناطق أو ولايات. لذلك كانت الحرب الأهلية هي المادة الغالية التي صنعت الأمة الأميركية ووحّدت الانتماءات الوطنية، وأدى تزايد ظهور اقتصاد قومي موحّد مع الازدياد في عدد أنشطة الشركات الكبرى العاملة على المستوى الوطني، إلى خلق مصالح عامة مشتركة، مهّدت بالتالي للشعور والانتماء القومي العام. وقد بلغت هوية القومية الأميركية أوجها سياسياً مع حشد الأميركيين حول بلدهم وقضيتهم في الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى ذروتها مع دعوة الرئيس كينيدي الأميركيين بقوله: «لا تسألوا ماذا يمكن لبلدكم أن يفعل لكم بل اسألوا ما يمكنكم أن تفعلوا لبلدكم».
بدأت الهوية المتماسكة بالتداعي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث ظهرت في الستينيات حركات قوية تتحدى مظهر التصور الثقافي الموحد عن أميركا وجوهره وتنتقد فكرة قِدر الإذابة (Melting Pot). لم تعد أميركا بالنسبة إلى تلك الحركات مجموعة قومية من أفراد يتشاركون ثقافة وتاريخاً ومجموعة مبادئ واحدة بل تتكون من أعراق وإثنيات وثقافات فرعية مختلفة.
قاد التحديث والتطور الاقتصادي ونمو المدن والعولمة الناسَ إلى إعادة التفكير في هوياتهم وإعادة تعريفها بلغة مشتركة أكثر حميمية ودقة. فبدأت الهويات الثقافية القومية الثانوية والمحلية تتقدم على الهويات الوطنية الأكثر اتساعاً. فالناس في كل الأحوال، ينتمون إلى أولئك الذين يشبهونهم وأولئك الذين يشاركونهم الوعي الإثني المشترك، والدين والتقاليد وأسطورة الأصل المشترك والتاريخ المشترك. وقد كشف تشظّي الهوية في الولايات المتحدة عن نفسه بظهور التعدد الثقافي والوعي بالتعدد العرقي والإثني. وبالتالي، أخذت الهوية الأميركية، بحلول سبعينيات القرن العشرين، تُعرَّف بلغة الثقافة والميثاق، وبدأ جوهر الثقافة الأنكلوساكسون ــ بروتستانتية يتعرض للهجوم، وصارت تطرح الهوية الأميركية كشيء مساوٍ للالتزام الإيديولوجي بالميثاق ولا شيء آخر.
شكل الوعي العرقي والإثني الخاص، على حساب الوعي الوطني العام، بداية للزوال الفعلي للإثنية كمصدر للهوية لدى الأميركيين البيض، وأخذت الفروق العرقية تتلاشى ولو بنحو بطيء، وأخذ تأثير المجموعة ذات الأصل الإسباني يتنامي، وصار يحكى عن أميركا ثنائية الثقافة واللغة. فبعدما كان التكلم باللغة الإنكليزية بطلاقة شرطاً أساسياً للتقدم في أميركا، غدت الآن الطلاقة في كلتا اللغتين الإنكليزية والإسبانية ذات أهمية متزايدة للنجاح في ميادين أساسية من العمل والبحث العلمي والأكثر أهمية في السياسة والحكومة.
هذا الأمر حرَّك حساسية الأميركيين البيض الذين شعروا بأن لغتهم وثقافتهم وقوتهم مهددة، وخصوصاً بعد توسّع دور الهسبان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسكاني في المجتمع الأميركي. وقد توقع صاموئيل هانتنغتون أن «يحل الانقسام الثقافي بين الهسبان والإنغلو محل الانقسام العرقي بين السود والبيض، باعتباره الانشقاق الخطير الأكبر في المجتمع الأميركي، إذ إن أميركا المنقسمة إلى لغتين وثقافتين سوف تختلف عن أميركا ذات اللغة الواحدة والثقافة الإنغلو بروتستانتية المركزية الواحدة الموجودة منذ أكثر منذ ثلاثة قرون». لذلك ليس غريباً أن يصنّف غالبية الأميركيين الهجرة العالية إلى الولايات التحدة بمثابة التهديد الأكبر لوجودها، واعتبارها أكثر تهديداً من الإرهاب الدولي.
وقد توقّع كلينتون الرئيس الأميركي السابق، أن تخسر أميركا نواة ثقافتها التأسيسية، لتصبح بلداًَ متعدد الثقافات، ما يستلزم، برأيه، محافظة الأميركيين على التزامهم مبادئ الميثاق، من حرية ومساواة وديموقراطية وتكافؤ الفرص، التي توفر قاعدة إيديولوجية أو سياسية للوحدة والهوية الوطنيتين.
إلى جانب التعدد الإثني والثقافي والديني، الذي يدفع إلى إعادة إنتاج الهوية الأميركية، فقد برز عاملان خارجيان تركا تأثيراً مباشراً في الهوية الأميركية:
أولهما سقوط الاتحاد السوفييتي والشيوعية، حيث ترك ذلك أميركا من دون عدوّ، أي من دون آخر يمكنها أن تُعرِّف نفسها ضده. حينها قال جورجي أرباتوف، كبير مستشاري غورباتشوف، للأميركيين: «إننا نفعل شيئاً رهيباً لكم، نحن نحرمكم عدواً». فمدى أربعين عاماً كانت أميركا قائدة العالم الحر ضد إمبراطورية الشر، وبزوال إمبراطورية الشر كيف يمكن أميركا أن تُعرِّف نفسها؟ فهوية أميركا كانت تتشكل دائماً بحروبها وأزماتها، وكما قال هينريتش فون تريتشكه: «إنها الحرب التي تحول الناس إلى أمة». نهاية الحرب الباردة، بدّدت الانتماء الإيديولوجي للأميركيين، وأدت بالتالي إلى تآكل التماسك السياسي الوطني، وأخذت الفروق الإثنية والمناطقية تبرز إلى الواجهة، وأصبح تحقيق المساواة الاجتماعية الداخلية والرفاه الاجتماعي أكثر صعوبة.
ثانيهما العولمة المتمثلة في التوسع الكبير في التجارة الدولية والاستثمارات والنقل والاتصالات، التي أدَّت إلى انخراط النخب الأميركية في نشاطات تجارية وأكاديمية ومهنية وثقافية وإعلامية، تتجاوز الحدود القومية. فحين شجّعت التطورات التكنولوجية في نهاية القرن التاسع عشر على إشاعة النزعة القومية بين النخب الأميركية، وأدى نمو الشركات الوطنية الكبرى إلى تقدم المعايير الوطنية والقومية على معايير الولاية، فإن التطور التكنولوجي في أواخر القرن العشرين، أخذ يشجع على التفكك القومي عند النخبة.
ولكن هل يمكن تعريف أمة ما يإيديولوجيتها فحسب؟
قليلة هي الأمم التي عُرِّفت بمجرد إيديولوجيا أو مجموعة من المبادئ السياسية. ولعل الحالات الأكثر بروزاً هي الدول الشيوعية، حيث لم يشكل خمود الإيديولوجيا الشيوعية في الصين تهديداً لوحدة بلد ذي نواة ثقافية مركزية هي ثقافة «الهان» التي تعود إلى آلاف السنين، بل على العكس بعثت قومية صينية جديدة. وفي فرنسا أيضاً كانت مجموعة من المبادئ السياسية جزءاً من الهوية الوطنية ولكنها لم تكن المُكوّن الوحيد على الإطلاق.
فمبادئ الميثاق، من حرية ومساواة وديموقراطية وحقوق مدنية وسلطة قانون، ليست سوى علامات لطريقة تنظيم المجتمع لنفسه، ولكنها لا تحدد مدى أو حدود تركيب ذلك المجتمع. هذا فضلاً عن أن مبادئ الميثاق عبارة عن مبادئ عامة تنطبق على كل الشعوب، ولا تستطيع أن تكون الأساس الوحيد لتميّز الأميركيين عن الشعوب الأخرى.
هذا بالإضافة إلى أن الناس لن تجد في المبادئ السياسية، المضمون العاطفي العميق والمعنى الذي يوفره الأصدقاء والدم والانتماء والثقافة والجنسية. وفكرة «أننا جميعاً ديموقراطيون ليبراليون مؤمنون بالميثاق الأميركي» تبدو غير مرجحة لإشباع حاجة الأميركيين. فالأمة قد تمتلك عقيدة كما في أميركا، غير أن روحها يعرِّفُها التاريخ المشترك والتقاليد والثقافة والأبطال والجبناء والانتصارات والهزائم، التي تخزنها جيوب الذاكرة السرية. الميثاق والمبادئ هما نتاج الهوية وليسا مكوّنين لها.
لذلك بدأنا نسمع أصواتاً تدعو إلى العودة إلى الأصل العرقي والإثني والثقافي والديني، الذي أنتج الميثاق أو الدستور الأميركي. يقول جادل ميردال: «كان علينا، نحن شعب الولايات المتحدة، العيش بإثنية وعرق وثقافة ولغة ودين مشتركة قبل أن يكون في استطاعتنا وضع الدستور وتأسيسه». أما صاموئيل هانتنغتون فقد استبعد احتفاظ الميثاق بسمته البارزة إذا تخلّى الأميركيون عن الثقافة الأنغلو ــ بروتستانتية التي تجذّر فيها، بل، وبحسب رأيه، ستغدو الولايات المتحدة مع الوقت متعددة الثقافات ومتعددة العقائد، بمجموعات ذات ثقافات مختلفة تتبنّى قيماً سياسية متمايزة ومبادئ متجذرة في ثقافاتها الخاصة، أي إن الهوية الموحدة ستتشظّى إلى هويات متناقضة أو إنها مقبلة على صراع مرير بين خيارات الهوية المقبلة.
خلقت أحداث 11 أيلول، يقظة وطنية استثنائية، واستعادت الهوية الوطنية حيويّتها، ولكن هذه المرة، بمكونات مختلفة، حيث بدأ عهد جديد يعرِّف فيه الشعب نفسه بلغة الدين بالدرجة الأولى. وقد لاحظ باتريك غلين أن «إحدى أهم السمات المدهشة وغير المتوقعة في الحياة الأميركية في نهاية القرن العشرين هي عودة ظهور الشعور الديني الجديد، واستحالته قوة أساسية في الحياة الأميركية، حيث أصبح الدين يتدخل في مناطق مضطربة للغاية».
* خبير في الشؤون الأميركية





الهيمنة الأميركية ومراكز السلطة البديلة
فنسان الغريّب *


إن التهديد المستقبلي لـ«الهيمنة الأميركية» لن يكون «الإرهاب»، بل سوف يأتي من أوروبا. هذا ما يقوله تشارلز كابشان، الباحث المتخصّص في الجغرافيا السياسيّة وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون وعضو لجنة العلاقات الخارجية. ففي كتابه المعنون «نهاية العصر الأميركي»، يرى كابشان أنه لا يجب أن ينصبّ الاهتمام الأكبر على الإسلام الراديكالي، لأن الخطر الأكبر يتأتّى من أصدقاء أميركا في الجهة المقابلة من المحيط الأطلسي، أي من الأوروبيين الذين يشكّلون، بنظره، الخطر الأكبر على التفوّق الأميركي. ويقارن الكاتب في كتابه حالة العالم اليوم بالمراحل المفصليّة من التاريخ (كانتهاء الحرب العالمية الأولى، فدرلة المستعمرات الأميركية والركود الكبير) وذلك لتبيان الطرق التي يغيّر بها العالم نفسه. ويناقش كابشان التنبّؤات المتفائلة لبعض كبار المفكّرين، كفرانسيس فوكوياما وتوماس فريدمان، الذين رأوا في الديموقراطية والعولمة علاجاً مهماً وفعّالاً لكل مشكلات العالم، وناقش آراء المتشائمين كصاموئيل هانتنغتون الذي تنبّأ بحصول «صدام حضارات».
في مقابل تلك الرؤى، تشبه خريطة كابشان العالمية خريطة القرن التاسع عشر حيث أفسحت الإمبراطورية المهيمنة حينها (أي بريطانيا العظمى) المجال للولايات المتحدة الصاعدة كقوّة عالمية. أما اليوم فقد جاء دور أميركا كي تفسح المجال أمام بداية صعود أوروبا، مع تأكيد حتمية سقوط كل الإمبراطوريات الكبرى، حيث إنه يستحيل بقاء أي إمبراطورية على قمّة الهرم للأبد. لقد كانت روما إمبراطورية عظمى وقد سيطرت على مساحة جغرافية شاسعة (امتدّت من ثلاثمئة الى أربعمئة عام، وهي فترة تعتبر طويلة مقارنة بإمبراطوريات أخرى اختفت بفترة أقلّ بكثير). أما أحد الأسباب التي تجعل من لحظة تربّع أميركا على قمّة الهرم العالمي قصيرة، فهو يكمن في أن التاريخ يسير اليوم بسرعة أكبر بكثير من السابق. والبلدان الآخذة بالدخول في العصر الرقميّ (Digital Age) تتقدّم بسرعة (حيث أصبح من الصعب استشراف ما سيكون عليه المستقبل القريب).
يمكن مقارنة وضع الإمبراطورية الأميركية اليوم بسابقتين: أولاً، الحالة الرومانية، حيث إن الانقسام الذي نراه اليوم بين أوروبا وأميركا يذكّرنا بالانقسام الذي كان قائماً بين روما وبيزنطية والذي حدث نهاية القرن الثالث وخلال القرن الرابع، فقد كان هناك منطقة إمبريالية موحّدة ولكن مع وجود عاصمتين منفصلتين (روما والقسطنطينية)، فيكون هناك بالضرورة منافسة بدل الوحدة. وهذا ما يحصل اليوم بالتحديد ما بين واشنطن وبروكسل. ثانياً، الحالة البريطانية، وهي الأقرب الى طبيعة الإمبراطورية الأميركية. لقد قامت الإمبراطورية البريطانية على إقامة التوازن في الخارج، أي إنها كانت ترسل فرقها العسكرية للحفاظ على التوازن بدل الاحتلال. وهو ما يعرف بـ«الإمبراطورية الخفيفة»، وهي الطريقة التي كانت أميركا تدير بها المسرح الدولي. ومن فوائد هذه الطريقة أنها أقل كلفة، بما أنها تسبّب القليل من المقاومة. ولذلك، الخطر الحقيقي الذي تواجهه أميركا اليوم هو تحوّل طبيعتها الى «إمبراطورية ثقيلة»، وبدل طمأنة الآخرين، نراها تجعلهم أكثر عدائية لها. وبدل الظهور كقوّة مهيمنة غير خطرة، نراها اليوم قاتلة وعدوانية. وبذلك تفقد شرعيتها كقوّة عظمى، هذه الشرعيّة التي تشكّل الأداة الرئيسيّة من أدوات الهيمنة. ومع فقدانها هذه الشرعية، تبدأ القوى الأخرى بالاستعداد لمقاومة تلك الهيمنة ومحاربتها. من الأخطاء الشائعة اليوم لدى بعض القائلين بتفوّق الإمبراطورية الأميركية، النظر فقط الى الناتج المحلّي أو الى القدرة العسكرية الأميركييْن مقارنة مع بقية البلدان. وإذا نظرنا من تلك الزاوية الخاطئة الى الأمر، فإننا سوف نعتقد عن خطأ أنه لا أحد سوف يستطيع مزاحمة أميركا ومنافستها على قمّة الهرم العالمي لعقود عديدة مقبلة. إن الأمر الذي يجب أن نأخذه بعين الاعتبار هو أن أوروبا لم تعد تشكّل اليوم مجموعة بلدان سيّدة، بل إنها آخذة بالتوحّد (كما فعلت الولايات المتحدة قبلها في القرن الثامن عشر). لذلك يجب علينا الحديث عن أوروبا ككيان موحّد وذات قدرة على موازنة قوّة أميركا.
وعلى عكس نظرة بعض علماء السياسة الذين يميلون إلى النظر الى العالم بشكل بنيوي، من خلال تركيزهم على العلاقات الدولية وحدها مع إهمال عوامل السقوط الداخلية، فإن نهاية الهيمنة الأميركية سوف تكون، برأي كابشان، والى حدّ بعيد، من صنع أميركا نفسها، أي من السياسات المحليّة المتّبعة التي تتمثل في نظرتها المتناقضة الى موضوع الإمبراطورية، وأحاديتها التي يشوبها الكثير من العناد الممزوج بالغرور، وهو الأمر الذي يزيد بدوره من حدّة عداء الآخرين لها. وهكذا، فإن عوامل السقوط سوف تكون داخليّة (ديموغرافية، سياسية ثقافية وشعبيّة)، وهي عوامل نادراً ما يعيرها علماء السياسة الاهتمام المطلوب. والأهم من ذلك هو أن هذا الاتجاه الانحداري لا يتعلّق بمن يحكم أميركا، وما كان فوز آل غور على بوش الابن ليغيّر شيئاً، بل جلّ ما كان سيحدثه هو تأخير السقوط ليس إلاّ. وإن رحيل بوش الابن لن يغيّر في الأمر شيئاً أيضاً، حيث إن الحزبين الجمهوري والديموقراطي يواجهان الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية نفسها. وفي حال فوز الديموقراطيين في الانتخابات المقبلة، فإن المعضلة سوف تبقى هي هي.
ومن الأمور المستغربة أن يتمّ هذا الانحدار بالشكل الذي تمّ به أثناء ولايتي بوش الابن الرئاسيتين، حيث لم يكن أحد يتوقّع أن يتمّ بهذه السرعة، وكان معظم المراقبين يعتقدون بأن ذلك لن يحصل قبل عقد أو أكثر من الآن. وما ساعد في دفع هذا المسار قدماً الى الأمام هو، كما ذكرنا، العوامل الداخلية والجدل والتناقض في الرؤى داخل الإدارة الأميركية في ما يتعلّق بكيفية إدارة العالم. وبعد 11 أيلول، عاد المحافظون الجدد ليلعبوا دورهم المتميّز بالجموح في استخدام القوة، بعدما شهدت فترة كلنتون تراجعاً في موضوع السياسة الخارجية، علماً بأن هذا الأخير كان ميّالاً الى «الليبرالية الدوليّة» ولم يكن ينظر بعداء شديد إلى بروتوكول كيوتو ومحكمة الجزاء الدوليّة كما فعل من بعده بوش الابن. إلا أن ذلك لا ينفي كون الديموقراطيين والجمهوريين يصوّبون جميعهم على الهدف نفسه، وإن اختلفت الوسائل فكان التشديد في بعض المراحل على إحدى الأدوات دون غيرها، بحيث لا يتأثّر المسار الانحداري سوى لناحية تسريع أو إبطاء سرعته.
يقترح كابشان المخرج التالي: اعتماد الولايات المتحدة خيار «الليبرالية الدوليّة»، وهو خيار يقوم على دخول أميركا مرحلة انتقالية، ما يساعد اللاعبين الآخرين في الساحة الدولية على بناء قدراتهم للقيام بالمهمات التي تقوم بها أميركا اليوم، ما يجنّبها التدخّل في نزاعات جانبيّة، أي إنه يجب العمل على بناء عالم تكون فيه «مراكز سلطة بديلة» (مع إرادة إحلال السلام والقدرة على التدخّل)، ما من شأنه تخفيف العبء عن الإدارة الأميركية المرهقة جرّاء تورّطها في الشرق الأوسط، تلك المنطقة الفائقة الحيوية والأهميّة لمصالحها (وهكذا يمكن الاتحاد الأوروبي الاهتمام بنزاعات في أوروبا، وتجمّع دول إفريقية التدخّل في نزاعات إفريقية داخلية للمساعدة على إحلال السلام، وهكذا دواليك). ومن دون شكّ سوف تبقى الولايات المتحدة تتمتّع بالإرادة والقدرة الكافيتين للتدخّل عند الضرورة (وخاصة في المناطق الاستراتيجية كشمال آسيا والخليج العربي).
إن التهديد الأكبر اليوم يتعلّق بـ«استقرار العالم». لقد أصبح من المعتاد النظر الى «عالم تديره أميركا»، إلا أنه سوف يأتي يوم تصبح فيه مؤسسات كبرى كصندوق النقد والبنك الدوليين (والأمم المتحدة)، قادرة على القول: «لا» لأميركا، وذلك على عكس ما كان يجري طوال الخمسين سنة المنصرمة (وقد بدأ يحصل هذا الأمر بالفعل مع معارضة الكثير من الدول لمغامرات الولايات المتحدة العسكريّة)، وهي صورة لما يمكن أن يكون عليه العالم: قوى عظمى غير متعاونة. وهكذا سوف تصبح مشاكل ومعضلات كـ«الإرهاب» والتدهور البيئي غير ذات أهميّة مقارنة مع عالم يكون فيه اللاعبون المحوريون مختلفين في ما بينهم، وتقف فيه أوروبا في مواجهة أميركا.
* كاتب لبناني





التدهور الاقتصادي وبدايات السقوط
غالب أبو مصلح *


«إن تاريخ صعود قوى عظمى ثم انحدارها من منظومة القوى العظمى، منذ تقدم أوروبا الغربية في القرن السادس عشر، مثل إسبانيا وهولندا وفرنسا والإمبراطورية البريطانية، والولايات المتحدة، يظهر تلازماً واضحاً على المدى الطويل بين الطاقة الإنتاجية وواردات الدولة من ناحية، والقدرات العسكرية من ناحية أخرى». (بول كينيدي)
عند نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة القوة العالمية الكبرى على الصعيدين الاقتصادي والعسكري. كانت الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب أغنى مما كانت عليه عند دخولها. فقد بلغ احتياطي الذهب لديها 20 مليار دولار، وما يعادل قرابة ثلثي الاحتياطات العالمية من الذهب، التي بلغت في ذلك الحين حوالى 33 مليار دولار. وكانت الولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي العالمي، وتبلغ صادراتها ثلث الصادرات العالمية، كما كانت الدولة الدائنة الأولى في العالم.
لهذه الأسباب مجتمعة، استطاعت الولايات المتحدة بناء النظام العالمي الجديد، في ظل هيمنتها وحسب مصالحها، على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وكانت مقومات هذا النظام الجديد المنظمات المالية والتجارية والاقتصادية المتمثلة بثلاثيّ صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، الـGATT. وكذلك تم بناء نظام نقدي عالمي حسب اتفاقات «بريتون وودز»، حيث أصبح الدولار هو العملة العالمية التي ترتبط به عملات الدول، وثبت سعر صرفه عبر ربطه بالذهب، وعبر جعله قابلاً للتحويل إلى ذهب أيضاً. وللولايات المتحدة ثقل التصويت الأساسي في هذه المنظمات، كما إنها الوحيدة التي تملك حق النقض في البنك الدولي. وكان لها أيضاً الهيمنة شبه المطلقة على هيئة الأمم المتحدة التي تم إنشاؤها. ولها في مجلس الأمن التابع لها حق النقض، بجانب أربع دول أخرى.
وورثت الولايات المتحدة الإمبراطوريات المهزومة في الحرب، كما ورثت تدريجاً بعد ذلك معظم إمبراطوريات فرنسا وبريطانيا، موسّعة تخوم إمبراطوريتها التي تم بناؤها في السابق في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا بشكل خاص.
وكانت الاندفاعة الإمبريالية الأميركية بغية توسيع هيمنتها، وبغية احتواء الاتحاد السوفياتي والقضاء على حركات التحرر الوطني، بضغوط من الصناعات التصديرية التي انتعشت خلال الحرب. وخرجت من الركود، وبضغوط من العسكريين المنتشين بالنصر وبضخامة قوتهم العسكرية المدعومة بأكبر اقتصاد في العالم. فالصناعات التصديرية الأميركية كانت خائفة من تراجع الطلب العالمي على إنتاجها، أو إقفال بعض الأسواق الكبرى في وجه صادراتها. وكانت بحاجة كذلك للوصول دون عقبات إلى مصادر السلع الاستراتيجية في العالم، مثل النفط والمطاط والمعادن. وكان على القوات المسلحة الأميركية تأمين مصادر هذه الخامات والسلع الاستراتيجية وطرق إمدادها، كما كان على الولايات المتحدة خلق نظام عالمي جديد، تكون هي محوره، تسيطر عليه، لخدمة مصالحها واستمرار هيمنتها، ولتلبية حاجات الدول الرأسمالية الأخرى الحليفة والتابعة لها. وهناك علاقة جدلية بين القوة العسكرية والثروة، كما يقول بول كينيدي: «إن الثروة ضرورية من أجل بناء القوة العسكرية، والقوة العسكرية ضرورة، في العادة، من أجل الحصول على الثروة والحفاظ عليها». وعبّر دين راسك في أيار 1965 عن هذا التطلع الإمبريالي الأميركي للسيطرة الكاملة على العالم، فقال: «أصبح هذا الكوكب صغيراً جداً. علينا أن نهتم بكل هذا العالم، ببرّه وبحاره وجوّه، وبالفضاء المحيط به». وسبق لروزفلت، بعيد الحرب العالمية الثانية، أن وضع المبدأ المعروف باسمه، في خطاب ألقاه في شهر آذار 1947 لمواجهة «التهديد الأحمر»، واضعاً ثنائية «الخير والشر» في هذا العالم، بين العالم الحر الديموقراطي الخالي من الكبت والاستبداد، الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وبين نظام يمثل إرادة أقلية طاغية استبدادية إرهابية يمثلها الاتحاد السوفياتي. وعبّر أيزنهاور عن هذه الثنائية العالمية قائلاً: «إن قوى الخير والشر تتجمع وتتسلح وتتقابل، كما لم يحدث إلا نادراً في التاريخ، فالحرية تتصدى للعبودية، والنور يقف في وجه الظلام». وما زالت هذه الثنائية قائمة حتى اليوم، مع حلول الإسلام وحركات التحرر الوطني مكان الاتحاد السوفياتي، تبريراً للمغامرات الإمبريالية وأهدافها الاقتصادية والسياسية. وبذلك خاضت الولايات المتحدة حروباً شبه متواصلة في أرجاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كان أبرزها الحرب الكورية، والفيتنامية... وأخيراً اجتياح أفغانستان ثم العراق. كما شنت حروباً عديدة عبر دول تابعة لها، مثل حروب إسرائيل، وآخرها حرب تموز 2006 وحرب النظام الإثيوبي على الصومال. وتنامى إنفاقها العسكري وانتشار قواعدها العسكرية وقواتها في بحار العالم وقاراته. فعند بداية سنة 1970، كان للولايات المتحدة أكثر من مليون جندي منتشرين في ثلاثين دولة في العالم. وأصبحت عضواً في أربعة أحلاف عسكرية دفاعية ومناطقية، ومساهمة كبرى وأساسية في حلف الأطلسي، وقائدة له، ولديها معاهدات دفاع مشترك مع 42 دولة، وعضو في 53 منظمة عالمية، وتقدم مساعدات عسكرية واقتصادية إلى حوالى 100 دولة في العالم.
غير أن تقديم مساعدات اقتصادية إلى حوالى 100 دولة، لا يعبر عن هموم تنموية وإنسانية، ونوايا طيبة تجاه دول العالم الثالث بشكل خاص. بل إن تقديم هذه المساعدات هو لخدمة المصالح والأهداف الإمبريالية الأميركية. في ذلك يقول «بول سويزي»، المفكر والاقتصادي المرموق، «عموماً، كلما زادت المساعدات، كلما قلّ التطور، والأسباب عديدة. إن نسبة عالية من المساعدات ذات طابع عسكري... وهي مجدية فقط لدعم حكومات غير شعبية، ولإبقائها في السلطة. قسم كبير منها يتم امتصاصه من قبل مسؤولين فاسدين، أجانب وأميركيين... وكما قال D.A.Fitzgerald، مسؤول في عدة وكالات مساعدات أجنبية، في مقابلة معU.S. and World Report، في 25/2/1963: إن نسبة كبيرة من الانتقاد للمساعدات الخارجية الأميركية افترضت أن الهدف من وراء المساعدات هو تحقيق نمو اقتصادي، وهذا لم يكن الهدف مطلقاً. ربما كان الهدف الحصول على قاعدة عسكرية، أو لكسب تصويت ملائم في هيئة الأمم المتحدة، أو منع نظام من الانهيار، أو منع إعطاء قاعدة للروس، أو أي من الأهداف الأخرى المشابهة، تقريباً لأي هدف سوى التنمية الاقتصادية».
كما إن نمو القدرات العسكرية الأميركية كان استجابة لحاجات النظام الرأسمالي الأميركي الذي تتجه تركيبته أكثر فأكثر نحو مزيد من الاحتكار والعولمة. ففي هذه المرحلة من نمو الرأسمالية، المرحلة الإمبريالية الجديدة، حيث تتغير قوانين المنافسة بين الشركات العملاقة المعولمة، تأخذ المنافسة بين الشركات أشكالاً جديدة، تركز على جهود التسويق والبيع. وتنعكس جهود التسويق والبيع هذه على العملية الاقتصادية و«تخلّف ثقافة مميزة للرأسمالية الاحتكارية»، كما يقول بول سويزي. ثم «إن حاجات الشركات العملاقة تقوم على توجيه نشاط الدولة... إذ إن هذا النظام لا يعرف طريقاً آخر سوى العنف غير المحدود، أو تهديدات العنف للسيطرة على «إزعاجات» الأنماط الاجتماعية الأخرى، وحركات التحرر الوطنية الثورية».
فتنمية القدرات العسكرية الأميركية لم تكن دائماً استجابة لتحدّيات عسكرية، أو تلبية لحاجات حروب خاضتها مثل الحرب الكورية أو الفيتنامية، بل إن منطق النظام وبنيته الداخلية يفرضان مزيداً من الإنفاق العسكري، وتوسيع الهيمنة الأميركية على الصعيد العالمي. إن استقرار النظام الاقتصادي الأميركي يعني بشكل ما، استقرار وحداته الإنتاجية العملاقة، أي الشركات الكبرى المعولمة، عبر تأمين طلب مستقر لإنتاجها من قبل الحكومة. ويشكل الإنفاق العسكري المتنامي إحدى ركائز استقرار الطلب ونموه. فالمجمع الصناعي العسكري يشكل قوة ضغط كبيرة ومتحكمة إلى حد بعيد بالقرار الأميركي الداخلي والخارجي، ويدفع في كثير من الأوقات إلى خيار الحروب لرفع الطلب على إنتاجه. وقديماً، تنبه أيزنهاور إلى مخاطر هذا المجمع الصناعي العسكري، فقال إن هذا المجمع «سيقودنا إلى الإنفاق العسكري، لا بسبب حاجات الأمن القومي، ولكن لمصالح شبكة من مصانع الأسلحة ومراكز القوى ورجال السياسة المنتخبين». ويقول توم أودونيل «إن الشركات النفطية العملاقة، ومعظمها أميركي، اندمجت عملياً منذ حرب 1973 في المجمع الصناعي العسكري، ليشكلوا جميعاً الحلقة الجهنمية في السياسة الخارجية الأميركية».
ففي سنة 1985، أي بعد عشر سنوات من سقوط سايغون والانسحاب الأميركي من فيتنام، كان للولايات المتحدة 520 ألف جندي خارج أراضيها، منهم 65 ألفاً في القوات البحرية. وبالرغم من مضاعفة الموازنة العسكرية ثلاثة أضعاف منذ أواخر السبعينات، فقد ازداد عدد القوات بنسبة 5% فقط، ويعود ذلك إلى الارتفاع الهائل في ثمن السلاح الحديث، والذي صاحبت مشترياته «اتهامات بالهدر والغش وسوء التصرف. فالفضائح العديدة حول أسلحة فائقة الكلفة ومتدنية الفعالية... لها تفسيرها بنقص في العروض التنافسية، وفي عوامل السوق، في المجمع الصناعي العسكري... فإدارة ريغان في عهدها الأول زادت إنفاقها بنسبة 75% على طائرات جديدة، لكنها حصلت على زيادة قدرها 9% فقط في عدد الطائرات.
فظاهرة ارتفاع ثمن السلاح هي ظاهرة مواكبة لتطور النظام الرأسمالي الذي يستمر في ابتكار أنواع جديدة من السلاح أو بناء أجيال جديدة من الأسلحة وإدخال تقنيات جديدة مرتفعة الكلفة إليها، لتحل مكان أجيال سابقة، ولكن بأثمان مضاعفة، ما يرفع كلفة التسلح والحروب بمعدلات تفوق كثيراً معدلات نمو الثروة لهذه الدول. ويتسارع نمو الكلفة مع تسارع الابتكارات العلمية والتقنيات التي تقودها الأبحاث العسكرية العالية الكلفة. ففي أواسط الثمانينات مثلاً، كانت القاذفات الحديثة تكلف مئة ضعف ما كلفته في الحرب العالمية الثانية. وتكلف المقاتلات أكثر من مئة ضعف ما كلفته في تلك الحرب. أما حاملات الطائرات، فتكلف عشرين ضعفاً، والمدرعات 15 ضعفاً. وكانت الغواصة من طراز Gato تكلف 5500 دولار للطن الواحد، أما الغواصة Trident، فأصبحت تكلف 1.6 مليون دولار للطن الواحد، وذلك في سنة 1986. وترتفع أسعار الأسلحة بنسبة ما بين 6 و10% فوق معدل التضخم سنوياً. وكل نوع جديد من السلاح هو أغلى بمعدل ثلاثة إلى خمسة أضعاف من السلاح السابق. وقال مكتب محاسبة الحكومة التابع للكونغرس إن البنتاغون ضاعف استثماراته المزمعة في الأسلحة الجديدة من 750 مليار دولار في عام 2001 إلى 1.5 تريليون دولار لعام 2007، لكنه لم يحصل على تمويل كاف لذلك. فالحروب، أو على الأقل الوقوف على حافة الحروب، كما سباق التسلح في الماضي، يكون لمصلحة المجمع الصناعي العسكري النفطي. فالحرب على العراق رفعت من ربحية شركات النفط كما صانعي الأسلحة، ورفعت من قيمة أسهم الشركات المعنية لهذه الصناعات. ففي سنة 2006، ارتفعت أرباح شركة «لوكهيد ـــ مارتن» بنسبة 28% وصولاً إلى 729 مليون دولار، وكذلك شركة «نورثروب» التي ارتفعت أرباحها بنسبة 37% إلى 453 مليون دولار، وشركة «بوينغ» إلى بليون دولار. فقد استفادت هذه الشركات من طلبات البنتاغون التي زادت بنسبة 41% خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، ما رفع أسهم الشركات بنسب عالية، بلغت 200% لشركة «جنرال ديناميكس» و140% لشركة «لوكهيد مارتن» صانعة الطائرة «أف ـــ 16». يقول بول كينيدي، «إن القوى العظمى التي تمر في مرحلة الانحدار النسبي، تستجيب بإنفاق أكبر على «الأمن»، وبالتالي تحوّل موارد ممكنة من التوظيف المنتج، وتعاظم مأزقها الطويل الأجل»، وهذا ما يحصل للولايات المتحدة، إذ تحاول التعويض عن انحدار هيمنتها الاقتصادية بتنمية هيمنتها العسكرية، لتوسيع أسواقها الخارجية، في الوقت الذي تزداد حمائية في الداخل، ولمزيد من التحكم في مصادر النفط والمواد الخام الاستراتيجية، وطرق إمدادها، بغية ابتزاز دول العالم بهذا التحكم. ولكن حروب أميركا في فيتنام والعراق وأفغانستان، وكذلك حرب إسرائيل في تموز 2006، أظهرت أن التفوق الكبير بالمعدات العسكرية، والقدرة الاقتصادية، لا تترجم نفسها دائماً وبشكل آلي إلى فعالية عسكرية. كما أن هذه المغامرات الإمبريالية أظهرت أن الحروب تنعكس بشكل سلبي وقاس على داخل الدول المعتدية، على الصعد الاقتصادية والسياسية، كما على تماسك ووحدة مجتمعات هذه الدول.
أصبح الانحدار النسبي المتسارع للولايات المتحدة واضحاً للمراقبين الاقتصاديين والسياسيين. فنصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمي آخذ في الهبوط منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي، مما يقارب 45% إلى أقل من 20%، ويتجه إلى 16% في الوقت الراهن. فمع إعادة بناء القدرات الإنتاجية لأوروبا واليابان، أخذ الفائض في الميزان التجاري الأميركي ينقلب إلى عجز. وأظهر ميزان المدفوعات عجوزات متتالية. وبالرغم من الضغوط الأميركية لرفع سعر الصرف الحقيقي للمارك الألماني والين الياباني بوجه خاص، التي استجابت لها الدولتان المعنيتان، فإن ذلك لم يصحح الخلل في الموازين الأميركية، فنما الطلب على إبدال الدولارات بالذهب، الذي عجزت الولايات المتحدة عن تلبيته، فتم إسقاط تعهدّات أميركا في اتفاقية بريتون وودز واستعيض عنها بسعر الصرف العائم الذي سبب الكثير من الاضطرابات في الأسواق النقدية والمالية العالمية.
يقول كينيدي (عند منتصف الثمانينات من القرن الماضي) إن التأخر النسبي للصناعة الأميركية لم يكن فقط في إطار الصناعات التقليدية، مثل صناعة النسيج والحديد والفولاذ وبناء السفن والكيمياء الأساسية، بل أيضاً في حقول الصناعات ذات التقنيات العالية. فحصة أميركا من الروبوطات وصناعات الفضاء والسيارات والآلات الصناعية والحواسيب تنخفض. فالدراسات التي أجراها الكونغرس في سنة 1986 تقول إن الفائض التجاري الأميركي في السلع ذات التقنيات العالية انخفض من 27 مليار دولار في سنة 1980 إلى 4 مليارات دولار في سنة 1985، ويتجه بسرعة إلى العجز. أما في سنة 2006، فإن التجارة مع الصين، الدولة النامية، في السلع ذات التقنيات العالية، أظهرت فائضاً لمصلحة الصين. ويستمر الإنتاج الصناعي الأميركي في الهبوط المطلق، وليس النسبي، إذ سجل شهر كانون الثاني 2007 هبوطاً في الإنتاج الصناعي بلغ 5%.
كانت الولايات المتحدة أكبر دولة دائنة في العالم، فأصبحت أكبر دولة مدينة. وصل دينها الخارجي الرسمي إلى 914.3 مليار دولار في سنة 1980، وارتفع إلى 1823.1 ملياراً في سنة 1985، فإلى 2.5 تريليون دولار عند نهاية 2004، ويقارب الآن 4.5 تريليون دولار. هذا إلى جانب أن نصف الدين العام الفيدرالي الذي يملكه الجمهور هو في أيدٍ أجنبية. كما وصل مجموع الدين الأميركي الداخلي والخارجي للقطاعين العام والخاص والقطاع المنزلي إلى 36.2 تريليون دولار عند نهاية سنة 2005، ويقارب الآن 40 تريليون دولار. وبلغ عجز الموازنة لسنة 2004 422 مليار دولار، ما يعادل 3.6% من الناتج المحلي القائم. أما العجز في حساب المدفوعات الجاري السنوي، فقد بلغ 541.7 مليار دولار لسنة 2003، وارتفع إلى 780.6 ملياراً لسنة 2005، وبلغ 850 مليار دولار لسنة 2006. كما بلغ عجز الميزان التجاري لسنة 2006 حوالى 830 مليار دولار، مرتفعاً من حوالى 160 مليار دولار في سنة 1986. وهبط معدل الادخار الوطني تدريجاً من 7.7% لسنة 1990 إلى 0.2% في أيلول 2004، فإلى السلبية في سنة 2006. ويحدد معدل الادخار معدلات النمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل.
إن لتنامي عجز حساب المدفوعات الجاري أهمية كبيرة. ويقول مايك ويتني إن الأرقام المعلنة عن كانون الثاني 2006 تدل على أن التوظيفات الأجنبية تنضب، وأن العالم لم يعد مستعداً لشراء الدين الأميركي الضخم. والشيء الوحيد الذي يستطيعه المصرف المركزي (Federal Reserve) هو رفع معدلات الفائدة لاجتذاب مزيد من رؤوس الأموال الأجنبية، وأن يسمح لسعر صرف الدولار بالهبوط. والمشكلة هي أنه إذا تم رفع معدلات الفوائد، فإن السوق العقاري سينهار بأسرع مما يفعل الآن، والذي سيخنق إنفاق المستهلكين مما يؤدي إلى انكماش الناتج المحلي.
ولا تظهر التحليلات الاقتصادية، كما الأرقام المعلنة عمق المأزق الاقتصادي الأميركي. فكما يقول غالبرايث في كتابه الشهير «الدولة الصناعية الحديثة» (The New Industrial State)، «إن الاقتصاد كما يدرس تقليدياً، هو جزئياً نظام معتقدات، مصمم لطمأنة الناس حول سلامة العلاقات الاجتماعية القائمة، أكثر منه لإظهار الحقائق».
لهذا التدهور النسبي في القدرات الاقتصادية الأميركية علاقة مباشرة بالإنفاق العسكري المتعاظم، والمرتبط بالحروب التي شنتها وتشنها الإمبريالية الأميركية على دول العالم الثالث بشكل خاص، على المستويات العسكرية والأمنية والإعلامية والثقافية. فقد فاقت كلفة الحرب على العراق بالقيمة الثابتة لدولار الستينات، كامل كلفة الحرب الفيتنامية، فقد وصلت كلفتها بدولار الستينات إلى حوالى 700 مليار دولار ككلفة مباشرة. وبلغت موازنة البنتاغون التي طلبها بوش 622 مليار دولار لسنة 2007. وكانت موازنة البنتاغون قد تضاعفت أكثر من مرتين منذ مجيء بوش إلى الرئاسة. وتعدّ هذه الموازنة الأكثر كلفة منذ نصف قرن. فقد تم تخصيص 140 مليار دولار لشراء الأسلحة وللأبحاث والتنمية والتطوير، وهي نفقات لا تمتّ لحرب العراق وأفغانستان بصلة، لكنها مطلوبة من قبل المجمع الصناعي العسكري. وبلغت الموازنة الأميركية العامة لسنة 2008 2.9 تريليون دولار، وقال بوش إنه سيسعى إلى طلب مبلغ إضافي وقدره 235 مليار دولار للعامين 2007 و2008، تخصص للإنفاق العسكري و«للحرب على الإرهاب»، منها 141.7 مليار دولار كمخصصات للحرب على الإرهاب في العالم لعام 2008، ومبلغ 93.4 مليار دولار كمخصصات إضافية «لدعم العمليات العسكرية في الخارج» لعام 2007.
وهذا الإنفاق المتصاعد على الأسلحة الحديثة و«الحرب على الإرهاب» ينعكس سلباً على معدلات النمو الاقتصادي وعلى مستوى الخدمات الاجتماعية، حتى داخل المؤسسة العسكرية. فالقوات الأميركية المقاتلة في العراق تعاني من نقص في المعدات المدرعة والدروع الفردية، وفي الخدمات الطبية. فقد قدم بوش بتاريخ 30/3/2007 اعتذاره للجنود الجرحى الذين قاتلوا في العراق وأفغانستان، وأسيئت معاملتهم في مركز «وولتر ريد» الاستشفائي العسكري، والذي يعدّ واجهة الطب العسكري الأميركي.
وكما دمرت حرب فيتنام سمعة أميركا وسمعة جنرالاتها، وأدت إلى تصدع إجماع المجتمع الأميركي حول الحرب وأهدافها، وكشفت أخلاقيات الولايات المتحدة ومدى انحطاطها، فإن الحرب الإمبريالية التي تشنها الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان بشكل خاص، تنمّي عداء شعوب العالم لها، وخاصة الشعوب الإسلامية والعربية، وتدفع أميركا إلى مأزق سياسي اقتصادي اجتماعي، وتدفع الاقتصاد الأميركي إلى الركود، وربما إلى ركود كبير وعظيم مثل الركود الذي شهدته الولايات المتحدة في سنة 1929 واستمر لمدة قرن تقريباً. ويبدو أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى ركود سنة 1929 تتجمع الآن وتنفجر لتدخل الإمبريالية الأميركية في مأزق تاريخي يؤدي إلى سقوطها بسرعة كبيرة.
* كاتب وباحث لبناني