عبير عثمان *
اعتدنا في عالمنا العربي أو في معظمه على أن ما يصلنا من السياسة هو قليل من الحقيقة وكثير من الكذب، وهذا لم يعد ينفع اليوم مع عصر الفضاء المفتوح أكثر بكثير مما يعتقد السياسيون بكل تصنيفاتهم بدءاً بالدكتاتوريات وليس انتهاء بـ«النيوليبراليين» الذين حاولوا خداعنا بالقدر نفسه، لكن حبل كذبهم بحمد الله كان أقصر لأن قدرتهم على التخريب قد تفوق بكثير النموذج الذي اعتدناه. فالواقع يقول إن كل واحد فينا مُعرّض لمئات الوسائل التي تمدّه بالمعلومات، وإن حجب المعرفة لم يعد أمراً ممكناً في عصر بهذا الانفتاح، وإن التعرض للمعلومة عينها من مصادر عدة متناقضة أحياناً يسمح للمتلقّي «نسبياً» بإجراء نوع من المحاكمات العقلية وغربلة الشوائب المبثوثة في مادة واحدة والوصول بالتالي إلى الجزء الحقيقي ورمي كل الأجزاء التي تحمل الكذب مع كل احتمالات التشويش.
ولكن لسنا وحدنا. نعم، هذا حقيقي، يبدو أن العالم كل العالم يؤدي اللعبة نفسها ويمارس السياسة انطلاقاً من المعادلة نفسها، فهل كان بوش أو المحافظون الجدد يأبهون لحقيقة من نوع أن الفضاء مفتوح جداً على رغم «تروستات الإعلام الأميركية» التي تبثّ أكبر كمّ من الكذب يومياً الى العالم. وهنا إذا ما نظرنا إلى أكثر الأمثلة صراخاً في حالة كهذه فسنتّجه من دون شك نحو العراق حيث الحرب، الاحتلال، تشريد الملايين، القتل، دم يصبغ الشوارع، تهشيم الدولة، انحلال المجتمع، تهديد بالتقسيم، محاولات إلغاء سمة البلد وهويته، واليوم جدران تُبنى لتفرّق بين شيعته وسنّته المتورطين في حرب بعضهم ضد بعض، يغذّيها وجود الاحتلال وليس العكس، هل بُنيت كل هذه الكوارث إلا على كذب؟
الحقيقة الوحيدة في كل ما سيق عن العراق قبل غزوة المغول الجدد هي أن صدام حسين كان ديكتاتوراً والبقية كذب، ولا تكفي حقيقة من هذا النوع لخوض حرب، فالحرب تحتاج إلى الكثير من الكذب وشيطنة العدو الذي يحاول تدمير العالم فقط لأنه يريد ذلك ويغار من الـ«أميريكن لايف لاينز»، وحتى من أسبوع مضى كان ديك تشيني ما زال يحاول إقناع الرأي العام الأميركي بأن ثمة علاقة بين صدام حسين وأبي مصعب الزرقاوي. والأغرب هو القدرة على الاستمرار في الكذب و«قلة الحيا» عند انكشافه، فلم نرَ أبداً أن أميركا خجلت من انفضاح كذبتها عن نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية الديموقراطية، ولم يدفعها انكشاف كل كذبتها إلا إلى مزيد من الغطرسة والرفض لما أفضت إليه التجربة هناك. الأسوأ أن الكذب هنا يُمنهج وتدخل في تصنيعه مؤسسات تدير العالم ولديها القدرة والإمكانية وربما الإرادة لتدمير آخرين. واليوم العقول نفسها والمؤسسة تبحث عن أكبر قدر من الأكاذيب التي يؤدي تكرارها الى احتمال التصديق ولو بنسبة ضئيلة لتدمير قوة إيران على الطريقة الغوبلزية.
أما إيهود أولمرت فحالة خاصة اليوم، إذ تبين بعد تقرير فينوغراد أنه لا يكذب فقط على الرأي العام الإسرائيلي، ولا على العالم ولا على حلفائه فقط، أولمرت يكذب على ما يبدو حتى على نفسه. يذكّرنا هذا الرجل بلعبة يلعبها الأطفال الصغار عندما يذنبون وأحياناً عندما يرغبون في المزاح حيث يضعون أيديهم على أعينهم ويعتقدون «بسذاجة جميلة طفولية» أنه لا أحد يراهم باعتبارهم لا يرون أحداً. وليس أولمرت الوحيد في إسرائيل، فالسيدة الوزيرة ليفني «أدق رقبة» عندما تحاول إقناعنا نحن لا الغرباء بأن الصراع في الشرق الأوسط ليس صراعاً على أرض ولا صراعاً عربياً صهيونياً، بل هو صراع التطرّف والاعتدال الموازي الموضوعي لصراع الخير والشر البوشي التشيني المصدر. ولنعد الى أولمرت والكذب، فقد كتب عوزي بنزيمان في هآرتس بتاريخ 1 نيسان تحت عنوان الأول من نيسان الخاص بأولمرت (حيث يطيب الكذب طبعاً ويتحول العالم الى ساحة مفتوحة للكذب أبيضه وأسوده) يقول: «لدى قراءة المقابلات التي أجراها إيهود أولمرت في نهاية الأسبوع الماضي، يفرك القارئ عينيه ويسأل نفسه ما إذا كان رئيس الحكومة يعيش في حالة هذيان، فأولمرت حسب الصحيفة يرى أن إسرائيل في وضع أفضل مما كانت عليه. «قبل أولمرت» كانت الحكومة تؤدي دورها بشكل جيد، والاقتصاد منتعش، والائتلاف مستقر، ولا يوجد «مقاومة» إرهابية، ولم تكن إسرائيل في مكانة سياسية أفضل مما هي عليه الآن، وحرب لبنان كانت نجاحاً بارزاً.
بينما كنت أقرأ هذا الكلام عن أولمرت تذكرت أنني قرأت شيئاً مشابهاً أثناء العدوان على لبنان وبحثت عنه ووجدته فعلاً، فعندما ألقى أولمرت خطابه في الحفل السنوي لكلية الأمن القومي إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان قال «لقد حققنا إنجازات غير مسبوقة غيّرت وجه الشرق الأوسط»، حينها كتب المراسل العسكري ومراسل الشؤون العربية في صحيفة هآرتس: «تساءل ضباط كبار من بين الحضور، هل يجوز أنه لا يرى الحرب نفسها التي نراها نحن؟»، حينها كانت صفحات الصحف العبرية تضجّ بأسئلة تبدأ ولا تنتهي، من نوع لماذا هزمت إسرائيل؟ وأن هذه الحرب حرب وجود، ونفسه بنزيمان صاحب مقال أول نيسان قال في هآرتس: «إن الخطأ المصيري الذي ارتكبه إيهود أولمرت يكمن في أنه حرّك زر الحرب الشاملة من دون أن يعرف حقاً قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق الغاية».
في ذاك الوقت الذي غيّر فيه أولمرت وجه الشرق كان جنوده يعترفون بأنهم كانوا شباباً شابوا خلال شهر في معارك بنت جبيل ومارون الراس، وكان صحافي إسرائيلي آخر يقول كنا نعتقد أننا أمام جيش صغير لكن حكيم، فاكتشفنا جيشاً كبيراً أحمق.
أولمرت نفسه اعتبر بالأمس القريب وضيفه روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي أن «الشرق الأوسط يشهد تغييرات استراتيجية إيجابية، وأن تقدماً يحدث على المسار الفلسطيني، وأن هناك دولاً عربية معتدلة تستعد لمواجهة الإسلام المتطرف الذي يُعتبر الخطر الراهن والأساس على استقرار الشرق الأوسط»، ثم اعتبر أن «لهذه التغييرات تأثيراً كبيراً على الرغبة في التوصل الى سلام مع إسرائيل وعلى إمكانية دفع عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهذه براعم التغيير في العالم العربي تجاه إسرائيل».
هنا ابحثوا عمن يكذب، فثمة أحد ما يكذب علينا: إما أن أولمرت ما زال يهذي على رأي الصحافي الإسرائيلي، وإما أن ما جرى في القمة العربية لا يتعدى كونه «تبويس لحى» وأنه لا محاور سقطت ولا من يحزنون. الحقيقة في الجملة الأولى هي فقط في أن تغييرات تحدث فعلاً في الشرق الأوسط، ولكن لمصلحة من؟ قد يختلف كثر في هذا الإطار حالياً، وخصوصاً مع قابليتها للتحول بأكثر من اتجاه، ولكن بالتأكيد بالمنطق لم تكن لمصلحة إسرائيل ولا فريق الاعتدال العربي حسب تصنيفها لأن التغييرات الأخيرة فرضتها بالدرجة الأولى نتائج حرب تموز، وهذا يعني أن «المغامرين» بمفاهيمهم، «المقاومة البطلة بمفاهيمنا» هي من انتصر، وبالتالي التغيير يجب أن يكون في غير مصلحة إسرائيل. أما عن التقدم على المسار الفلسطيني فهذه من دون نقاش تصنّف في خانة هذيان أولمرت. المهم في الموضوع، ماذا عن الدول العربية المعتدلة التي تستعد لمواجهة الإسلام المتطرف ويُعوّل عليها في دفع عملية السلام؟ يعود بنا هذا الى تقسيم المحاور، حسب التصنيف الأميركي، التي حاول الأشقاء إقناعنا بأنها لا تنطلي وأن العرب خارج هذه التصنيفات.
لا تكفّ إسرائيل منذ فترة عن الحديث عن الدول العربية المعتدلة المدعوة من قبلها لتأدية دور في تفعيل عملية السلام يتلخّص في مساعدة الفلسطينيين ولكن على ماذا؟ على تقديم المزيد من التنازلات من دون حرج ولست من يؤلف هذا الكلام، بل هذا ما يرد على لسان إسرائيليين. بات معروفاً أن إدارة بوش وإسرائيل تريد في الجولة المقبلة في المنطقة تشكيل محور يضم إسرائيل كقمة محور الخير، والدول المعتدلة، والقوى السنية (وعذراً للتصنيفات الطائفية) باستثناء المقاومة في العراق، كمحور خيّر «سنّي» معتدل، ضد إيران وحلفائها من القوى «الشيعية» باستثناء حلفاء أميركا الشيعة في العراق، كمحور تطرّف «شيعي» شرير، بالإضافة الى سوريا الداعمة للتطرف الشيعي والسنّي معاً. يدفع هذا بإدارة بوش الى إرضاء السعودية التي حاولت الابتعاد عن التحالف اللامحدود مع واشنطن أخيراً، فها هي صفقة السلاح تتم بعد لغط ثار حول إلغائها، ستبيع بموجبها أميركا للسعودية القنابل الذكية السيئة الصيت والسمعة في لبنان «جي دي أي إم»، ولكنها لن تُغضب إسرائيل التي تخاف على تفوّقها العسكري من الاختلال، وبالتالي ستبيع لإسرائيل طائرة إف 22، وما أدراك ما إف 22 التي لا تعترف بأقوى رادار، إنها الأحدث على الإطلاق، وحسب يديعوت أحرونوت فإن الشركة المُصنّعة تقوم بالضغط على الكونغرس من أجل الموافقة على بيعها لإسرائيل، وخاصة في أعقاب خيبة الأمل التي أصابت الشركة لكون سلاح الجو الأميركي اشترى فقط 183 طائرة من أصل 750 طائرة كان يفترض أن يتم شراؤها من الشركة.
غيتس دعا إسرائيل الى ألا تزعل (وتعمل من الحبة قبة)، والسبب أن عليها أن تنظر الى الأمر من زاوية استراتيجية، والتقارير أشارت الى أن تسليح السعودية بهذه الأسلحة يأتي في إطار خطة أميركية لتعزيز قوة الخليج مقابل تعزز قوة إيران.
الزاوية الاستراتيجية التي يعنيها غيتس هي أن على إسرائيل أن تعتبر نفسها مع السعودية في خندق واحد في أي مواجهة مقبلة مع إيران، وبالتالي لا مشكلة في إتمام واشنطن الصفقة مع السعودية، فمقابل «جي دي أي إم» ستحصل إسرائيل على إف 22، وبالتالي تحافظ على تفوقها العسكري. هذا ما تريده أميركا واسرائيل علناً، فماذا يريد العرب علناً؟
* إعلامية سورية