حسين عبد العزيز *
منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان في آب الماضي، بدا أن إسرائيل مقبلة على أزمة سياسية كبيرة، بدأت أولى حلقاتها بسقوط رئيس الأركان دان حالوتس، وقد تنتهي بتغيير أركان الحكم.
جاء تقرير فينوغراد المرحلي ليزيد من حجم الأزمة التي تعصف بإسرائيل، ولا سيما على حزب كديما والحكومة، اللذين يشهدان مرحلة جديدة مختلفة جذرياً عن المرحلة التي سبقت تقرير اللجنة الأخير. وعلى الرغم من فقدان الحكومة لقاعدتها الشعبية، فإن من المبكر الحديث عن سقوطها. فهي لا تزال تسير بحكم العطالة السياسية والقانونية، إذ إن الخلافات السياسية ليست حالة استثنائية في التاريخ الإسرائيلي، بل هي حالة تكوينية بنيوية في قلب الممارسة السياسية.
إن ما يهمنا هنا ليس التغيرات التي قد تصيب المنظومة السياسية في إسرائيل نتيجة خسارة إسرائيل حربها الأخيرة، بل الآثار التي خلفتها هذه الهزيمة والتي تتجاوز ما هو سياسي إلى ما هو عسكري وسيكولوجي في الذات الإسرائيلية كذات صهيونية دينية عنصرية ترى الأمن جزءاً من التركيب الثقافي للفرد بما هو جزء من الأمة اليهودية، وتعطي أهمية كبرى للجيش كمؤسسة تفوق كل المؤسسات الأخرى في عملية البناء الإسرائيلي.
لذلك كان طبيعياً أن يشير تقرير فينوغراد إلى الآثار النفسية التي ستتركها حرب لبنان الثانية على نفوس السكان ومعنويات الشعب الإسرائيلي، كما كان طبيعياً أن يوجه التقرير انتقاده للمؤسسة العسكرية لعجزها عن تعديل العقيدة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي المعتمدة على قوة الطيران، باعتبارها قوة ردع.
يختلف موقع الجيش الإسرائيلي عن موقع أي جيش آخر في الدول الغربية الديموقراطية على سبيل المثال، فهو لا يقف خارج الحياة السياسية بانتظار أوامر المستوى السياسي، بل هو جزء تكويني من الحياة السياسية، ويعود ذلك بالأساس إلى عدم وجود انفصال بين الجيش والشعب، فهو بأخلاقياته وثقافته جزء من الديموقراطية اليهودية.
للجيش في إسرائيل دور أكبر بكثير من دور الجيوش في العالم، فعمله يتجاوز الميدان العسكري إلى الميدان الاجتماعي الثقافي ـــ الطائفي المتنوع في إسرائيل، فهو من حيث إنه بوتقة صهر يسهم إسهاماً أساسياً في عملية بناء الأمة وتوحيد الهوية، لذلك يشكل الجيش تجسيداً للفكرة الصهيونية (جمع الشتات)، لا لكونه يجسد فكرة الدولة فحسب، بل لأنه يجسد فكرة نفي المنفى، أي تحقيق فكرة تجاوز نمط يهودي المنفى الضعيف. بعبارة أخرى، تحاول العلمانية الصهيونية إعطاء الجيش دوراً مكملاً للدين في صهر اليهودي، ولا سيما اليهودي المهاجر الذي عاش النمط اليهودي في المنفى بشكل ضعيف، رداً على الأحزاب الحريدية التي ترى أن التوراة وتعاليمها هي المعيار الوحيد للحفاظ على الهوية اليهودية، لا الجيش أو الخدمة العسكرية.
هنا يصبح الجيش بديلاً للدولة، باعتبارها نوعاً من أنواع المنفى لكونها واقعاً غير ميساني لدى الحركات الأرثوذكسية، أي إن مهمة الجيش ستكون نفي الواقع المنفي أصلاً لدى هذه الحركات. والنتيجة هي أن الجيش يقوم بصهر جانبي الفكرة التي تتقوم بها هوية الفرد الإسرائيلي: الفكرة الصهيونية والفكرة الدينية.
إن الأهمية الكبيرة التي يوليها اليهود للجيش كمؤسسة صهر في الواقع، وكحامي اليهودية ضمن المخيال الاجتماعي اليهودي، هي التي ولدت النزعة الأمنية كقيمة عليا لا يعلو عليها أية قيمة أخرى... يقول غابي افيطال المحاضر في معهد الطيران الحربي الإسرائيلي لصحيفة معاريف في 25 / 1 / 2007: إن البديهية الأساسية لدولة اليهود واحدة ولا يوجد سواها، دولة اليهود ستعيش على سيفها أو لن تعيش أبدا .
الموقف ذاته نراه عند بعض السياسيين، فبدلاً من إيجاد حلول سياسية للأزمة بين إسرائيل والعرب نجدهم يطالبون غابي اشكنازي رئيس الأركان الجديد بوضع استراتيجية قتالية جديدة.
إن الجيش، إضافة إلى دوره في بوتقة الصهر، يقوم بامتصاص التوتر الداخلي وتصريفه نحو الخارج، فعسكرة المجتمع الإسرائيلي بما هو مجتمع استيطاني قائم على العنف لا يستطيع الاستمرار في محيطه دون اعتماد القوة، جزء من كينونته الوجودية.
لهذا فإن الخسارة الإسرائيلية للحرب مع لبنان تضع الثقافة الإسرائيلية (العسكرية، العنصرية) في مأزق كبير قد تعيد إلى الأذهان اليهودية مفهوم الغيتو الذي كان سائداً في معظم دول العالم، ولا سيما في أوروبا. وهذا ما لا يمكن أن يتحمله الإسرائيلي الفرد، فكيف هي الحال بالدولة الإسرائيلية؟ عليه يمكن القول إنه لا يوجد أمام إسرائيل للخروج من هذا المأزق إلا ثلاث خيارات:
1) الهروب إلـى الأمام والقيـام بعمل عسكري فـي فلسطين أو لبنان أو ربما ضـد سوريا
من شأنه أن يعيد الثقة بالجيش الإسرائيلي.
2) الاكتفاء بإسقاط الحكومة الحالية باعتبارها المسؤولة عن الوضع الجديد.
3) الخيار السياسي الدبلوماسي في كونه طريقاً لإيجاد تسوية مع العرب خارج إطار القرارات الدولية، كما حدث مع مصر والأردن والفلسطينيين في أوسلو واللبنانيين اعتماداً على الحدود الدولية لا على حدود لبنان المعترف بها دولياً.
إن الخيار الأخير هذا قد يبدو أكثر الخيارات إمكاناً، وخصوصاً أن إسرائيل بعيد حرب 73 قامت بتعديل مقولاتها الإيديولوجية في العقيدة الأمنية، فظهر مفهوم الخيار السياسي ـــ الدبلوماسي بدلاً من الخيار الأمني ـــ العسكري، لكن هذا الخيار يظل في نهاية المطاف مرتبطاً بعوامل خارجية دولية، الأمر الذي يعطي إمكاناً كبيراً لتحقيق الخيار الثاني المتمثل بإسقاط الحكومة أو إجراء تعديل عليها يسمح باستمرارها لأشهر أخرى.
* كاتب سوري