نصير أحمد *
لأن الإنترنت أميركية المنشأ، قد يعتقد البعض خاطئاً أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية هي التي تملك وبالتالي تدير تلك الشبكة وتتحكم بها، على قاعدة أن «من يملك يدير». ولكن الشيء الأول وربما الأهم الذي يجب أن نعلمه في هذا الخصوص، هو أن الإنترنت ما هي إلا شبكة افتراضية وهمية ليس لها وجود فعلي، وبالتالي هي خارجة عن نطاق التملك. نعم الملكية إنما تقع على المكونات المادية لتلك الشبكة الافتراضية، أي الشبكات الإقليمية والدولية والحاسبات الآلية المختلفة الأنواع والأحجام الموصولة بتلك الشبكات، التي هي مملوكة من قبل تشكيلة واسعة من المالكين تتوزع بين الدول وحكوماتها والشركات الكبرى، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والأفراد.
وإذا كانت الإجابة الصائبة عن سؤال «من يملك الإنترنت كشبكة افتراضية» هي «لا أحد» ــ فلا أحد في إمكانه أصلاً أن يتملك شيئاً افتراضياً ــ فليست هذه هي الإجابة الصائبة عن سؤال «من يدير الإنترنت؟»، ولا يجب أن يُعتقد أن هذه الشبكة خارجة عن نطاق التحكم والسيطرة. فلا يمكن أي نظام في الكون أن يبقى ويستمر وينمو ويتطور من دون إدارة.
إذاً فلا بد من إدارة للإنترنت، انطلاقاً من فكرة لا بدية الإدراة لأي نظام في العالم. ولكن إذا كان نظام الإنترنت هو نظاماً معقداً بحد ذاته، فإن عملية إدارته هي أيضاً عملية صعبة ومعقدة، ولا يمكن جهة واحدة أو مؤسسة محددة أو دولة معينة، أن تدير هذه الشبكة المترامية الأطراف على المستوى الدولي والموصولة بجميع دول العالم عبر عمود فقري مشترك. ولذلك قال الفقيهان القانونيان أندريه تيريب وإيان موناغان عن الإنترنت بأنها «أول مؤسسة كونية ليست لها حكومة مركزية». فهناك تشكلية واسعة ومتعددة من المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية المسؤولة عن إدارة الإنترنت التي تختلف تبعاً لاختلاف مستويات الإدارة لتلك الشبكة.
ولكون الإنترنت، من حيث التكوين، شبكة دولية عامة من الشبكات، فالأوْلى أن تُدار من قبل هيئات أو منظمات دولية، منشأة بمعاهدات أو اتفاقات دولية موقّعة من الدول الموصولة بشبكة الإنترنت. ولا يحق لأي دولة، مهما كان شأنها، أن تحتكر الإدارة في أي مستوى من مستويات الإدارة المعتمدة.
فيما خص المستوى الذي يتعلق بإدارة نظام عنونة مواقع الويب، ومن اللحظة الأولى لاختراع الويب من قبل عالم الفيزياء البريطاني تيم بيرنرز لي (Tim Berners Lee) بمساعدة زملائه في «مختبر الفيزياء الدقيقة الأوروبي» الذي مقره في جنيف في سويسرا، سيطرت الولايات المتحدة على إدارة هذا الملف، عبر احتكارها منح العناوين الرقمية التي تعرف بعناوين بروتوكول الإنترنت Internet Protocol (IP)، من خلال مؤسسة حكومية خاصة تابعة للحكومة الأميركية هي «هيئة الإنترنت لمنح الأرقام» «IANA» Internet Assigned Number Authority .
وبعيد اعتماد نظام العنونة بشكله الحالي، أي استبدال العناوين الرقمية بعناوين تعريفية «Domain Name»، استمرت تلك المؤسسة في إدارة هذا الملف بشكل شبه احتكاري لغاية سنة 1988 موعد انتهاء العقد الموقّع بينها وبين الحكومة الأميركية. آنذاك أوكلت المهمة وبترخيص من حكومة الولايات المتحدة إلى «مؤسسة الإنترنت لمنح الأرقام والعناوين»، المعروفة بالـ«الأيكان» Internet Corporation for Assigned Name and Number «ICANN»، وهي مؤسسة حكومية خاصة من فئة المؤسسات التي لا تبغي الربح، ومقرها في ولاية فرجينيا.
على المستوى العملي، ماذا يعني أن تقوم دولة ما، أو مؤسسة خاصة أو عامة تابعة لدولة ما، بإدارة نظام عالمي ودولي يعني جميع دول العالم كنظام عنونة المواقع. إن هذا الأمر يعني امتيازات خاصة لتلك الدولة وهيمنتها على القرار المتعلق بذلك النظام، وفرض تطبيق تلك القرارات على بقية الدول سواء اقتنعت أو لم تقتنع، وفرض منظومتها القانونية الخاصة لحل النزاعات ذات البعد الدولي التي سوف تنشأ عن ذلك النظام، وهنا تتجلى الديكتاتورية بأبهى صورها، وهذا ما يظهر من خلال:
أولاً: احتفاظ الولايات المتحدة لنفسها باحتكار تسجيل عناوين المواقع في بعض قطاعات عناوين المستوى الأعلى العمومية، مثل (.gov) للمؤسسات الحكومية الأميركية، (.mil) للمؤسسات العسكرية الأميركية، (.edu) للمؤسسات الثقافية والتعليمية الأميركية، وإلزام بقية الدول التي تريد استخدام هذه الامتدادات بإضافة امتداداتها الجغرافية. مثلاً (.gov.lb) للمؤسسات الحكومية اللبنانية، (.gov.eu) للمؤسسات الحكومية الإماراتية... إلخ. هذا على الرغم من وجود امتداد جغرافي خاص بالولايات المتحدة (.us) لا تستخدمه هذه الدولة.
ثانياً: الأهم والأخطر، احتفاظ الولايات المتحدة لنفسها ومن خلال مؤسسات أميركية خاصة باحتكار إدارة وتسجيل عناوين المواقع بالامتدادات العمومية الدولية التي توصف بالمستقلة، والتي هي مفتوحة للتسجيل على الصعيد الدولي، ومن أي كان بغض النظر عن جنسيته أو مكان إقامته، مثل (.net) و(.org) والأشهر على الإطلاق (.com) الذي يتعلق بالشركات والمؤسسات التجارية. والديكتاتورية تبدو هنا من ناحيتين:
أ ــ من الناحية المالية، من الممكن تخيل حجم الأموال التي تجنيها الولايات المتحدة من خلال إدارتها هذا الملف، وخصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار أن مسجلي العناوين ولعدة اعتبارات يفضّلون التسجيل في هذه القطاعات الدولية، لا في القطاعات الجغرافية الخاصة بدولة من الدول. مثلاً، عنوان موقع جريدة الأخبار اللبنانية هو وليس .
ب ــ من الناحية القانونية، تبدو ديكتاتورية القوانين الأميركية بادية في حال حصول نزاعات على عناوين المواقع المسجلة في القطاعات المستقلة، حيث تُفرض منظومة القوانين الأميركية لحل تلك النزاعات الدولية الطابع. وفي هذا الخصوص أعلنت شركة NSI الأميركية التي كانت تحتكر تسجيل العناوين في (.com)، أنه نظراً إلى اختلاف جنسية المسجلين ووحدات التسجيل فإن القانون المطبق على أي نزاع قد ينتج عن عقد التسجيل هو القانون الأميركي. والمحكمة المختصة هي محكمة موجودة في الولايات المتحدة. هنا بالإضافة إلى الجانب السياسي والسيادي، لا يجب أن يغيب عن الذهن الناحية المالية أيضاً التي تتأتى من خلال حجم الأموال الكبيرة المستثمرة في حل تلك النزاعات التي تحصل عليها الولايات المتحدة.
وقد ظهر التململ الدولي من تلك السياسة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي عقدت في جنيف في سويسرا عام 2003، إذ كان بند طريقة إدارة نظام عنونة المواقع من أبرز القضايا الخلافية والشائكة التي طرحت على جدول أعمال القمة. وقد أيّدت معظم الدول إيكال مهمة إدارة هذا الملف إلى الاتحاد الدولي للاتصالات كمؤسسة دولية، وإلغاء الدور شبه الاحتكاري لمؤسسة «الأيكان».
ونظراً إلى الخلاف الحاد والاختلافات البينة في الرؤى ووجهات النظر، وخصوصاً بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، فقد أُجِّل بتّ هذه المسألة إلى القمة التالية التي عقدت في تونس عام 2005، وكُلّف الأمين العام للأمم المتحدة بتقديم دراسة مفصلة عن هذا الأمر.
ويبدو أنه، وبالنظر إلى هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وقوتها، لم يقدّم الأمين العام الدراسة ولا قمة تونس جاءت على ذكر الموضوع، فبقيت الحال على ما هي عليه.
على أي حال، نأمل أن يحظى هذا الموضوع بالاهتمام الكافي في القمم المقبلة، وأن تكون للمجموعة العربية مواقف واحدة حيال موضوعات القمة الشائكة كهذا الموضوع، بدلاً من المشاركة الهامشية في أعمال تلك القمم، علّ ذلك يساهم في سد جزء من الفجوة الرقمية ويساهم في تنمية المجتمعات العربية نحو مجتمعات المعرفة.
* باحث في قوانين المعلوماتية