عبدو سعد *
تظهر الأزمة التي يمر بها لبنان اليوم أن الصيغة الطائفية، التي كان من المفترض تجاوزها من خلال الآلية الإصلاحية التي انبثقت عن الطائف، ليست قادرة على معالجة الاختلالات الوطنية واستعادة التوازن من دون تدخل خارجي، وحيث إن وثيقة الوفاق الوطني قامت على تكريس المعادلة الطائفية (موقتاً) وذلك بهدف رفع الغبن عن بعض الطوائف، فإن عدم التقدم في تطبيق الإصلاحات الأخرى أفضى عملياً الى تنازل الدولة عن بعض حقوقها لمصلحة الفئات المختلفة فيما المطلوب تنازل الطوائف عن حقوقهم لمصلحة الوطن.
فلبنان يعيش فساداً سياسياً، أفرز تخلّفاً اجتماعياً واقتصادياً، منذ نشوء الكيان اللبناني بصيغته العاجزة. وتفاقم هذا الفساد بعد الطائف نتيجة تعدد رؤوس الحكم واعتماد نظام المحاصصة (اقتسام المغانم). وهو نظام أفاد أهل السلطة وحدهم لا طوائفهم كما يدّعون، بحيث صار هذا النظام نظام محاصصة بين زعماء الطوائف وأتباعهم.
وبهذا التعدد للرؤساء وابتداع الترويكا في المنظومة السياسية اللبنانية، ومع أن تركيبة الترويكا غائبة حالياً عن المشهد اللبناني لأسباب عديدة، إلا أنها لن تلبث أن تعود إلى الشاشة عندما تستقر الأوضاع، وعليه أصبح للبنان ثلاثة حكَّام يديرون شؤونه، وصار توافقهم الحتمي على كل المقررات، شرطاً لكي تصبح نافذة. وأفسح هذا في المجال أمام عقد صفقات شخصية غير مشروعة بطريقة التراضي والتمريرات المتبادلة، ما فاقم الفساد في معظم الإدارات والمؤسسات العامة، وأدى إلى شخصنة المؤسسات ومأسسة الأشخاص، ونتج من ذلك انهيار كبير لحصانة وهيبة السلطة العامة، المنوط بها أصلاً الحفاظ على مصالح الشعب وتوفير احتياجاته وتحقيق رفاهيته وأمنه. ورافق كلَّ ذلك تدهورٌ في الحالة الاقتصادية والاجتماعية، حتى وصلت المديونية العامة إلى مستوى غير طبيعي لا يستطيع الشعب اللبناني تحمّل تبعاته. وتبعت كلَّ ذلك محاولة تثبيت هذه المحاصصة، عبر إصدار القوانين والأنظمة التي تعزز هذه الشخصانية وتؤبّدها، من خلال نظام انتخابي يضمن بقاء هؤلاء الحكام وأزلامهم ممسكين بزمام السلطة.
وفي محاولةٍ للخروج من هذا الواقع المتردّي، وإزالة بدعة الترويكا وإعادة الثقة إلى مؤسسات الدولة وإحياء دولة المؤسسات، رأينا أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إصلاح الخلل في النظام السياسي الذي أوجدته وثيقة الطائف، ويتمُّ ذلك عبر تحقيق جملة إصلاحات نجدها تهدف إلى تحقيق المبتغى المطلوب:
أولاً: إناطة السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية
بعدما أناط الطائف السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء الذي يتكوَّن من 30 عضواً ورئيسين، هما الرئيس الفعلي لمجلس الوزراء (رئيس الحكومة)، ورئيس الجمهورية الذي يشارك في إعداد جدول أعمال مجلس الوزراء ويرأس عملياً كل جلساته، ما منحه سلطة مهيمنة على المجلس، ولكنها ليست كافية لتمنحه القدرة على الإمساك بزمام الحكم، لذلك كان للسلطة التنفيذية فعلياً رأسان كبيران وثلاثون رأساً صغيراً نجدهم يعرقلون المشاريع، كلما رأوا أن لهم أو لزعمائهم مصلحة في ذلك.
وقد أدى هذا الواقع إلى فقدان السلطة التنفيذية دورها الحقيقي في إدارة مصالح الناس وتوفير الخدمة العامة، وصار وجودهم سبباً لإنتاج الأزمات المتكررة التي تعصف بالبلاد منذ عام 1990 حتى يومنا هذا، ولم تهدأ هذه الأزمات إلا بتدخّلات خارجية أسفرت عن تهدئتها بشكل وقتي لتعود للانفجار في كل لحظة من دون أي إنذارٍ مسبق.
وبغية إنهاء هذه الأزمات وتحقيق الاستقرار السياسي الذي هو شرط أساسي لصحة أي نظام سياسي، يجب أن نعيد جمع السلطة التنفيذية بشخصٍ واحد، وخاصة بعدما ثبت فشل جمع هذه السلطة بيد مجلس الوزراء، وبعدما تبين عدم فائدة إناطة هذه السلطة برئيس مجلس الوزراء، خوفاً من ارتهانه بإرادة النواب، حيث يتوجب عليه أن ينال ثقة المجلس النيابي قبل مباشرة مهماته، وأن يراعي أيضاً معادلة استمرار حيازته هذه الثقة لكي يستمر في منصبه. وهذا ما سيحوّلنا من حكومة 30 وزيراً إلى حكومة 128 نائباً، ما سيزيد الأزمة تفاقماً وتعقيداً.
إن إناطة السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية منفرداً، يبدو أنها الحل الأنسب، على أن يقوم هو بتعيين الوزراء الذين هم بمثابة معاونين له، تحقّ له إقالتهم كلما وجد ذلك ضرورياً. وحتى لا يتحول الرئيس إلى ديكتاتور، بل تكون فترات حكم الرئاسة المنفردة وإمساكها بالسلطة التنفيذية بمثابة الباب الذي سنلج منه نحو الإصلاح الحقيقي للمجتمع، يجب أن تُراعى القيود الآتية:
1 ــ انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة: ويحقق هذا الانتخاب المباشر للرئيس من قبل الشعب فوائد كبرى تتمثل في عدم جعله مرتهناً بإرادة النواب، بل يصبح مرتبطاً بشعبه مباشرة، فإذا ما أخلّ بثقة هذا الشعب فسوف يُحرم من حظ إعادة انتخابه لولاية ثانية. وكذلك سيتحمل الشعب مسؤولية سوء اختياره رئيس البلاد، وهذا ما يعزز روح الديموقراطية لدى اللبنانيين ويجعلهم مشاركين فعلاً في السلطة التنفيذية إلى جانب مشاركتهم في السلطة التشريعية. وأيضاً من فوائد انتخاب الرئيس من قبل الشعب هو منع القوى المؤثرة من تنصيب الرئيس، كما جرت العادة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، فتلك القوى قد تستطيع التأثير في إرادة النواب عبر الترغيب والترهيب (تنصيب بشير الجميل والتمديد للرئيس لحود)، ولكنها بالتأكيد لن تؤثر في إرادة الشعب.
والواقع أن لاختيار الرئيس من الشعب مباشرةً، أثراً في تقليص الصراع الطائفي، وهنا لن يكون هناك أي ضير من أن يكون الرئيس المنتخب من الطائفة المارونية، ذلك أن انتماء الرئيس إلى الطائفة المارونية (المسيحيين) بالتأكيد لن يسمح له بالعمل ضد مصالح المسيحيين، وأن انتخاب الرئيس من الشعب ذي الأكثرية المسلمة سيضمن أن لا يقوم الرئيس بما يثير هذه الطوائف الإسلامية ضده، لأن في يدها إعادة انتخابه، ما يعني أن الرئيس سوف يعمل للمصلحة الوطنية لا للمصالح الطائفية، وهذا ما سيخفف بشكل كبير من حالة التعبئة الطائفية، ويزيل الخوف عند أبناء الديانتين. ويمكن الإشارة إلى ضرورة حصول المرشح الرئاسي على حدّ أدنى من نسبة أصوات الديانتين يمكن التوافق عليه في ما بعد.
2 ــ أن تكون ولاية الرئيس لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. وهذا ما يفسح في المجال أمام الرئيس لإنجاز المشاريع الإصلاحية الكبرى (وهي بالتأكيد لن تنتهي في خمس سنوات) ما يعزز استقرار الحكم، ويقوّي دولة المؤسسات.
3 ــ أن يبقى رئيس الجمهورية مارونياً، وأن تُحفظ للطوائف مناصبها السياسية في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويعود السبب في الإبقاء على مارونية منصب رئاسة الجمهورية، إلى طمأنة المسيحيين إلى هذه العملية الإصلاحية، من خلال تبيان أنهم أمام خيارين:
أ ‌ــ إما أن يبقى الرئيس الماروني من دون صلاحيات، يُنتخب من قبل مجلس النواب ذي الهيمنة الإسلامية، إذ يؤتى بقسمٍ كبير من نوابه المسيحيين بأصوات المسلمين لأغلبيتهم العددية.
ب‌ ــ وإما أن يُعطى رئيس الجمهورية الماروني، الصلاحيات السابقة، أي السلطة التنفيذية كاملة، ويُنتخب من قبل الشعب ذي الأغلبية الإسلامية غير المعلّبة، وذي الاتجاهات السياسية المتعددة، لا كما قد تكون عليه الحال مع النواب.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسلمين، فهم أمام خيارين:
أ‌ ــ إما أن يتمسكوا بصلاحيات المواقع المخصصة للمسلمين (رئاستي المجلس والحكومة) يستفيد منهما معظم من يتولى هذا المنصب، كما خبرنا منذ الطائف حتى الآن، وقد ولَّدت عدم الاستقرار السياسي وما نتج منه من تبعات.
ب‌ ــ وإما أن يتنازلوا عن بعض هذه الصلاحيات التي كرَّسها الطائف، مقابل أن يكون لهم الدور الأساس في اختيار رئيس الدولة، فتتحقق بذلك مشاركتهم الحقيقية في تكوين السلطة، إضافة إلى ذلك حصولهم على المكاسب الناجمة من إلغاء الطائفية الوظيفية.
وحفاظاً على الأعراف المتّبعة تكون رئاستا مجلس الوزراء ومجلس النواب مداورةً بين الطائفة السنية والطائفة الشيعية.
ثالثاً: إلغاء الطائفية في الإدارة
إن المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية قبل تحديد ماهيتها هو أمر مستغرب، ولكن حتى لا نبقى مقيدين بقيود الطائفية التي تعرقل في كثير من الأحيان عمل الإدارة وتخفض إنتاجيتها، كان من المفيد البدء بإلغاء الطائفية في التعيينات الإدارية، بحيث لا يصبح التعيين في إحدى المراتب مرتبطاً بالطائفة، بل يرتبط فقط بالكفاءة والخبرة. ومما يساهم في إلغاء الطائفية الوظيفية، هو تفعيل دور مجلس الخدمة المدنية عبر حصر كل التعيينات والترقيات في الإدارات العامة بهذا المجلس، على أن يمنح صلاحية كاملة في هذا المجال لاختيار الناجحين خارج القيد الطائفي.
رابعاً: تعزيز السلطة القضائية
تتعزز السلطة القضائية بتوحيد الجهات القضائية وحصر الدعاوى المتشابهة في جهة واحدة، وتفعيل دور ديوان المحاسبة والنيابات العامة، وتحقيق استقلاليتها عن السلطة التنفيذية، وربطها بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو المجلس الذي سيتألف من مكتب مجلس شورى الدولة ومكتب ديوان المحاسبة ومجلس القضاء الأعلى، وممثلين عن السلطات القضائية الطائفية والمذهبية، والمجلس الدستوري، وممثلين عن المعاهد الحقوقية ونقابة المحامين، على أن يكون رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية منتخباً من هذه الهيئة. وتتعزز ثقة الناس بالقضاء عندما يجري الإسراع في بتّ الدعاوى، وتُسهَّل إجراءات التقاضي، وتُوفّر مجانيته، وتزول المحاباة ومراعاة السياسيين ويمتنع القضاة عن شغل مناصب مستشاري السياسيين، إضافة إلى العمل على تفعيل المجلس الدستوري وربطه لجهة التعيين مباشرة بمجلس القضاء الأعلى فلا يكون إذّاك مرهوناً بمجلس النواب أو الحكومة، فيتحرر بذلك من أي تبعية ويستقل في بتّ الطعون النيابية ودستورية القوانين.
وفي حال عدم تبنّي الطرح أعلاه لجهة انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، نقدّم هنا المدخل الأساسي لإصلاح صيغة الطائف بحيث تصبح قادرة على حلّ مسألة انتخاب رئيس الجمهورية أو مجابهة حالة الانقسامات الكبرى وتعطيل عجلة الحياة السياسية كما هي الحال الراهنة:
لقد كانت إحدى أخطر الثغرات في اتفاق الطائف متمثلة في عدم تمكين السلطة التنفيذية من حلّ البرلمان، ما أفقد النظام السياسي في لبنان أدوات الضغط المتبادلة بين الحكومة والمجلس وأنتج صيغة التوافق البغيضة التي تحصر اللعبة الديموقراطية بإطارٍ من المحاصصة بين زعماء الطوائف، فأصبح لا بد من أن يشمل الإصلاح إعادة تمكين الحكومة من حلّ مجلس النواب عند الخلاف في ما بينهما على مشروع قانون معيّن أو مسألة مصيرية، وذلك استناداً الى عملية استفتاء شعبي تنظّمها الحكومة للاحتكام الى الشعب فيكون الاستفتاء على حلّ المجلس عند الخلاف، وهكذا يصبح توخّي المصلحة العامة المعيار الأوحد لاتفاق السلطات أو لاختلافها ويكون الشعب الحكم في ما بينهما باعتباره مصدر السلطات.
ومن بديهيات الأمور أن المدخل الوحيد لتوفير هذه العملية الإصلاحية هو العمل بقانون انتخابي عادل وعصري لا يتحقق إلا بخفض سن الاقتراع واعتماد نظام التمثيل النسبي مع الدائرة الكبرى وفقاً للآلية والمبادئ التي نادينا بها.
* مدير مركز بيروت للأبحاث والمعلومات