16 أيار ذكرى سايكس ـــ بيكو

  • د. علي حمية

    تمرّ بصمت، هذه الأيام، الذكرى الواحدة والتسعون لاتفاقية سايكس ـــ بيكو (16 أيار/ مايو 1916) التي عُقدت سراً بين فرنسا وبريطانيا، إبان الحرب العالمية الاولى، وقضت باقتسام هاتين الدولتين الاستعماريتين بلاد المشرق العربي الآسيوية، في ما كان يعرف بـ«سورية الطبيعية»، بعد انتزاعها من تركيا. فلم يعر احد هذه المناسبة الأليمة اي اهتمام كأنها حدث عابر يتكرر، يومياً، مع انها غيّرت مجرى الاحداث في منطقة شرق المتوسط، ولا تزال تتحكم بمسارها ومصيرها، منذرة بسايكس ـــ بيكو جديدة تجزئ المجزأ في ما بات يعرف اليوم بمشروع «الشرق الاوسط الجديد» الذي تتزعم الدعوة اليه الولايات المتحدة الاميركية.
    في الوقائع، أنه وبعد انكشاف أمر تلك الاتفاقية (1917) بان الخيط الابيض من الخيط الاسود، خصوصاً بعد صدور «وعد بلفور» الذي بموجبه انشئ «الكيان الاسرائيلي» الغاصب فوق ارض فلسطين، وتأكد السوريون في بلاد الشام والعراق من انهم خدعوا اذ انحازوا الى «الحلفاء» إبان الحرب الكبرى، فالحكومتان الفرنسية والبريطانية ـــ خلافاً لوعودهما السابقة لهم بالمساعدة على نيل حريتهم واستقلالهم بعد انقضاء الحرب ـــ استصدرتا من «عصبة الامم» التي أُنشئت بعد نهاية الحرب «قراراً أممياً» قضى بانتدابهما على سوريا «تركة الرجل المريض» وفاقاً لخريطة التجزئة السياسية الاستعمارية الملحقة باتفاقية سايكس ـــ بيكو المجرمة، وذلك بحجة «تأهيل» سكانها للاستقلال! وهكذا وقعت البلاد كلها، مجدداً، تحت الهيمنة الاجنبية، الفرنسية ـــ البريطانية، بعد مرور أقل من سنتين على تحررها من النير التركي العثماني.
    بالطبع، لم يقبل اهل البلاد بوعد بلفور، كما لم يقبلوا بالقرار الاممي الجائر وما ترتب عليه من «انتداب» فرنسي ـــ بريطاني فبدأوا مقاومة شاملة مثلثة الاضلاع ضد التجزئة السياسية، والانتداب الخارجي، والهجرة اليهودية الاستيطانية، على امتداد المنطقة المشمولة بالانتداب كلها، سواء في العراق (ثورة العشرين) او في الشام (معركة ميسلون والثورة السورية الكبرى) او في لبنان (انتفاضة البقاع الشمالي والجنوب اللبناني) او في فلسطين وشرق الاردن (ثورة 1936).
    ولم يقتصر الرفض الشعبي لهذه الحركة الاستعمارية الاستيطانية التفتيتية على الانتفاضات المسلحة التي انفجرت في وجوه المستعمرين الجدد والمستوطنين الغزاة، والتي قدّم فيها أبناء البلاد آلاف الشهداء من كل المناطق والطوائف والإتنيات، بل تنادى أحرار البلاد، في الوطن والمهاجر، الى عقد المؤتمرات القومية الرافضة للوصاية الاجنبية، ولعل اهمها، على الاطلاق، كان «المؤتمر السوري العام» الذي انعقد في دمشق، في الثامن من آذار/ مارس 1920 حيث اكد المؤتمرون الممثلون للمناطق السورية كلها، ومن بينها لبنان، على رفض الانتداب الفرنسي ـــ البريطاني وكل اشكال الوصاية الدولية، وأكدوا رفضهم المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، معلنين تمسكهم بالوحدة السورية، والاستقلال التام الناجز، والنظام النيابي شكلاً للحكم. وقد جاء القرار التاريخي الصادر عن المؤتمر في جلسته الآنفة الذكر بمثابة رد شعبي مباشر على مؤامرة سايكس ـــ بيكو وعرّابيها، من جهة، وتأكيد على تمسك اهل البلاد بخيار الاستقلال والوحدة والسيادة القومية من جهة ثانية.
    اليوم، وبعد مرور 91 عاماً على تلك الاتفاقية المجرمة، و87 عاماً على المؤتمر السوري العام ومعركة ميسلون الخالدة التي انتهت بسقوط المملكة السورية المتحدة وعاصمتها دمشق، تتجه انظار الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة الاميركية (وريثة الاستعمار الفرنسي ـــ البريطاني) الى سوريا التاريخية بقسميها: الغربي (بلاد الشام) والشرقي (العراق) لاعادة تشكيل خريطتها السياسية وفق تصور جديد يقضي بتفتيتها الى دويلات إثنية ومذهبية، متنازعة ومتخاصمة، بحيث تفرض الولايات المتحدة هيمنتها، وتكرس سيطرتها المباشرة على النفط، وتضمن سيادة «اسرائيل» مخفرها الامامي في المنطقة.
    ان الحالة السياسية الراهنة في دول المشرق العربي، بعد مضي نحو قرن تقريباً على مؤامرة سايكس ـــ بيكو والتلويح، اليوم، بشقيقات جديدة لها، وبعد ثبوت عجز الحكومات القائمة عن الوفاء بالتزاماتها الوطنية والقومية وتهافتها على اجراء تسوية ـــ بأي ثمن ـــ مع العدو الاسرائيلي، تجعل الشعب في حل من اي التزام تجاه هذه الحكومات والانظمة، وتستنفر هذه الحالة فيه روح المقاومة والتحدي التي ما انطفأت فيه جذورها يوماً، على امتداد تاريخه كله، فيتنكب بنفسه مهمة حماية مصيره، إزاء ما يواجهه من تحديات داخلية وما يهدده من مخاطر اجنبية.