ورد كاسوحة *
إذا كان هناك من أمر يدعو إلى الدهشة حقاً في ما يعبّر عنه بعض الكتاب العرب الشباب حين يتناولون شؤون السياسة وشجونها في شرقنا التعيس فهو ولا شك ــــــ أي الأمر ــــــ ذاك المتعلق بالإمعان في جلد الذات وتحميلها ما لا طاقة لها باحتماله، والمقصود بالذات هنا الذات العربية
طبعاً، تلك التي لم تكد تتعافى من فصول التقريع والتعذيب والتحقير المتمادي بحقها من جيل الستينيات والأحلام المجهضة، حتى عادت أخيراً لتعيش المأساة نفسها، لكن هذه المرة مع جيل ناشئ وجديد، كان من المفترض به أن يتخفف قليلاً من عبء الماضي وإرثه المازوشي، ليلاقي تحديات الحاضر والراهن المثقلين بألف همّ وهمّ، شريطة أن تكون هذه الملاقاة مقرونة بأمر جوهري، يتعلق باستبدال الأدوات المعرفية التي أورثنا إياها وما يزال إحباط ذلك الجيل
من اليساريين ويأسهم المقيم بأخرى، يجدر بنا نحن «الورثة» اجتراحها من تداعيات ما يحصل حالياً في العراق وفلسطين ولبنان، بالإضافة إلى ما يحدث في الصومال والسودان ــــــ دارفور ــــــ وبقاع أخرى في العالم، يجري التدخل في شؤونها الداخلية وافتعال مشاكل بين ظهرانيها، تحت مسميات
وذرائع مختلفة، يصل التلفيق والكذب والدجل فيها حدّاً يغدو معه تمزيق النسيج الأهلي حماية للأقليات وصوناً لحقّها في التعبير!! والتذرير الطائفي الجاري على قدم وساق تدخلاً لحماية الأهالي والسكان من العناصر الإرهابية والمارقة!
تجدر بنا المغامرة بالاعتقاد أن ما يحدث الآن في العالم يرتقي إلى درجة، باتت فيها القوة العسكرية العمياء المرتبطة بمراكز ومجمعات احتكار النفط والسلاح والمال هي صاحبة الكلمة الفصل في ما يجب أن تكون عليه صورة هذا العالم أو لا تكون، بمعزل عن أي سلطة رقابية أو صيغة ميثاقية دولية أو غير دولية، تعمل على وضع معايير وضوابط لهذا السلوك المنفلت من عقاله، أو تحاول على أقل تقدير الحد من اندفاعته، والتقليل من الخسائر المترتبة عليه قدر الإمكان.
غاية هذا الاستطراد هي التنبيه ببساطة إلى أننا بتنا إزاء ابتعاث أو اعادة إنتاج امبريالية جديدة، تقودها الولايات المتحدة الأميركية بشكل سافر ومعاد لمصالح الدول والشعوب المعدمة والفقيرة، وبالتالي يغدو من الواجب على كل مشتغل في الحقل الفكري أن يعيد الاعتبار إلى مصطلحات وأدوات معرفية وبحثية، تم إسقاطها بالتقادم عبر ردّها إلى نهج فكري أصولي، ذي طبيعة ماضوية منقضية، بدليل اندثار مرجعيته اليسارية، الشيوعية تحديداً، إلى غير رجعة، وانحصار تأثيره في مجموعات معزولة، محدودة التأثير، وموسومة بالتطرف والعدائية المفرطة، وذات طبيعة راديكالية، وبالتالي عصية بمجملها على منظومة قيم اليسار «الجديد»، حيث الوسطية والليبرالية واقتصاد السوق... إلخ!!
أحسب أن مرافعة من هذا النوع باتت اليوم موضع تساؤل، بعد الاختراقات الهائلة التي أحدثها اليسار بمختلف أطيافه في غير مكان من هذا العالم، ولعل تجربة أميركا اللاتينية خير شاهد على ذلك، حيث نجح كل من تشافيز ولولا وموراليس وكوريا في إنضاج مسيرة في بناء الدولة، تزاوج على نحو فريد بين الديموقراطية البرلمانية والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، معطوفة على نزوع استقلالي مناهض لسياسات الهيمنة الأميركية ولوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على حد سواء. ونسجل هنا أن هذا النجاح لليسار اللاتيني قد تم أساساً بوحي من النموذج البوليفاري الذي أعاد تشافيز إحياءه وإنتاجه على نحو جديد، وبالتالي يمكننا من دون كثير عناء، نسب هذا النجاح إلى الخط اليساري الذي يقوده تشافيز، وهو كما نعلم من التيارات المصنفة من اليسار «الجديد» في خانة الشعبوية المطلقة والراديكالية المفرطة،
وبالتالي حسب هذا التصنيف نفسه: الماضوية المنقضية والبائدة!!!
بات واجباً والحال كذلك دعوة عدد من الكتاب الشباب المأخوذين على ما يبدو بالمناخ اليساري السائد في بعض أجنحة المعارضة السورية والعربية إلى التأمل قليلاً في تجارب اليسار الجديد ــــــ الجديد حقاً ــــــ خصوصاً في أميركا اللاتينية، حيث نشهد ذلك النهوض الكبير لفكرة القومية
على مستوى قارة بأكملها لا يجمع بين شعوبها ما يجمع بيننا نحن العرب من روابط تاريخية وجغرافية ولغوية... إلخ. فإخفاق الأجيال السابقة في النهوض بفكرة التحرر والعلمنة والقومية
العربية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية، لا يعني بالضرورة أن نأخذ أنفسنا بجريرتهم، وبالتالي نشهر يأسنا علناً، ونمضي قدماً في تيئيس من تبقى من المؤمنين بفكرة العروبة، وجرّهم إلى خيارات عبثية ومستحيلة أثبت التاريخ غير مرة عقمها وعطالتها، وعجزها عن أن تكون خياراً فعلياً لشعوب هذا الشرق، ولو من باب تجريب المجرّب.
فأن يقول أحدهم في نص منشور في «السفير» بتاريخ 3/2/2007 تحت عنوان: «... ما الذي تبقّى من العروبة»: «... وماذا في العروبة من مغريات سابقة ولاحقة كي أرتضيها هوية هي هوية قريش وثقافتها بكل ما فيها من بداوة عوضاً عن الخصوبة التي منحتني إياها فينيقيا..»، أن يقول ما قاله فهذا يعني ببساطة الدعوة إلى الارتداد عن فكرة الدولة القومية. لا أتحدث طبعاً عن قريش ولا عن الدعوة ولا حتى عن تاريخ القمع الذي أورثتنا إياه عهود الخلافة واغتصاب شرعية السلطة
العربية منذ معاوية وحتى الآن، بل الحديث يدور بشكل أساسي حول الدولة الحديثة التي أنشأتها عهود الاستقلال عن الاستعمار القديم، وعن مؤسسات هذه الدولة في البرلمان والقضاء... الخ، وهي كما نعلم ما تبقى لنا ولغيرنا في هذا العالم من ارث الأنوار والثورة الفرنسية، حتى لو لم نشارك في صنعها، اذ باتت بمثابة ثورة أخلاقية تجمعنا، بالإضافة إلى كونها إرثاً إنسانياً عاماً.
مجدداً أقول إن الحنين إلى فينيقيا يغدو من حيث لا يدري المرء حنيناً إلى عصبية ما، ودعوة إلى الردّة والعودة إلى فيء هذه العصبية. أما إذا كان حنيناً يستبطن وهم إعادة إحياء المثال
الفينيقي، من حيث هو مثال وسطية وانفتاح وتعدد وليبرالية وجسر تواصل ما بين الشرق والغرب، فأفضل طريقة للرد على مثال كهذا هو التأمل في التجربة اللبنانية في بناء الدولة،
في الفترة الممتدة بين الاستقلال ونشوب الحرب الأهلية.
لقد كان الرد على دعوة ميشال شيحا ورؤياه، ومن بعده شارل مالك إلى تحييد لبنان عن الصراع الإقليمي والدولي، وجعله جزيرة هادئة نسبياً وسط محيط عربي يغلي ويفور بتفجيره من الداخل عبر قوى الداخل والخارج، وشن حرب منه وعليه، بحيث لم يتبقّ من مشهد لبنان قبل عام 1975 سوى ترجيعات لصدى صوت فيروز وهي تشدو: «لبنان يا أخضر حلو» أو
«لبنان يا قطعة سما»!!
لذلك تحديداً، يصح القول في حرب عام 1975 أنها كانت، في وجه من وجوهها المتعددة إشهاراً علنياً لرغبة أميركية بعدم جواز قيام مثال «دولتي» يقارب المثال الإسرائيلي، وينازعه
على مكانته ودوره في الشرق الأوسط، وبالتالي كانت حرباً على الخيار الآخر الليبرالي الذي اتخذ منه بعض العرب سبيلاً، بعد الإجهاز الأميركي ــــــ الإسرائيلي المشترك على الخيار
الأول القومي اليساري، الذي مثلته تجربة عبد الناصر في مصر.
أتمنى ألا تكون النزعة الفينيقية المستجدة لدى البعض بمثابة دعوة إلى الانتحار الفكري من جهة، والحياد السياسي من جهة أخرى، وهذا لأنني أعتقد جازماً أنه لا مكان للحياد السياسي ولا الفكري ولا الأخلاقي وسط هذه الأزمة الطاحنة، التي تكاد تفتك بما تبقى من عروبتنا وإسلامنا ومسيحيتنا ومشرقيتنا. فلتكن الدعوة والحال كذلك إلى عروبة نهضوية ديموقراطية، تستلهم ربما مثل اليسار الحيّ والجديد في العالم، من حيث هو نهوض بمسيرة التنمية الوطنية في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية الجديدة، المعطوفة في منطقتنا على توسعية اسرائيلية تكاد تذهب بما تبقى من حدودنا القائمة.
* كاتب سوري