علي الشامي *
تظهر فاعلية رموز الطوائف في قدرتهم على صياغة خطاب سياسي ينهل من حليف خارجي، إقليمي أو دولي، مثلما تظهر في إدارتهم لحقوق طوائفهم في الدولة ومؤسساتها. وإذا كان الشأن السياسي، ببعديه الداخلي والخارجي، قابلاً للتوصيف في خيارات ومشاريع وطنية وإقليمية ودولية، فإن الشأن الإداري يترجم هذه الخيارات في تراتبية داخلية وموازين قوى طوائفية تفسّر وحدها مدى جدّية أو هزالة المنازعات، الظاهرة تارة، والمستترة تارة أخرى، حول الحصص والمناصب. وغالباً ما يترافق الشأن السياسي مع الشأن الإداري دون أن يعني ذلك أن استقرار الشأن السياسي على سياسة خارجية معينة، يؤدي بالضرورة الى ضمور المنازعات في الشأن الإداري. وبالتالي، لا يختلف توصيف التعيينات الإدارية عن توصيف الهيمنة أو الثنائية أو الترويكا، ذلك أن الاعتراض على التعيينات ووقف طائفيتها على اختيار الأزلام دون أصحاب الخبرة والكفاءة لا يدخل الى جوهر الموضوع، أي الى تلك العلاقة التاريخية القائمة بين الوظائف والطوائف. وكما هي حالة القانون، لا تعمل الإدارة في عالم منفصل عن الطوائف والأحزاب والأشخاص، وإنما تعمل وفق موازين القوى الحقيقية التي تفرض تارة تبديل المواقع والأشخاص، وتفرض تارة أخرى، تعديلاً في القوانين والأعراف. ففي الديموقراطيات الغربية، ومثلها في العصبيات الحاكمة في عوالم ثانية وثالثة ورابعة... لا تخرج الإدارة والقوانين عن منطق التوازن بين القوى، وفيها جميعها تهيمن القوى المنتصرة على مراكز الدولة وتستخدم القوانين وفق مصلحتها تغييراً أو تأويلاً أو تجاوزاً. وبالتالي، التعيينات الإدارية تتجاوز منطق الأزلام وأصحاب الكفاءة وتتصل بأساس الدولة وإدارتها. وينبغي التشديد هنا على حقيقة ثابتة في آلية عمل الطائفية، حيث ينتمي الموظف، بالدرجة الأولى، الى طائفته ويسوس حصتها في الإدارة. وإن التنافس الطوائفي على المواقع الإدارية يسبق تعيين الشخص، بصرف النظر عن صفاته ومؤهلاته، وطالما أن الشخص ــ الموظف يمثل طائفته ويعمل بتوجيهات ممثلها في الدولة أو مرجعياتها المحاذية للدولة، فإن الفرق بين أزلام وأصحاب كفاءة لا يصيب الطائفية في مقتلها. وحدها الوظيفة التي لا طائفة لها هي التي تهدّد الطائفية وتحجّم تأثيرها على آلية عمل الدولة.
ومع ذلك، فإن منطق الاستزلام نفسه ينسحب على أصحاب الكفاءة ومعدوميها معاً. وجميعهم بحاجة الى جواز مرور الى المنصب يتجاوز صفاتهم ومؤهلاتهم. لذلك يقدمون أوراق اعتمادهم الى مراجعهم قبل تقديمها الى مجلس الخدمة أو مجلس الوزراء، مع فارق واحد حيث يقدم الواحد منهم تبعية جاهلة ويقدم الآخر تبعية عالمة. وفي حالات نادرة جداً، يتمكن صاحب كفاءة من فرض نفسه على طائفته وممثلها في الدولة، قبل أن يجد نفسه محاصراً بهما بعد تعيينه، حيث لا يبقى أمامه سوى الخضوع لشروطهما أو الاستقالة. وفيما يساهم مجلس الخدمة المدنية في التخفيف من سلبيات التعيين الطائفي، بعد أن يختار الناجحين في دورات التأهيل الإداري، فإن قرار توزيعهم على المراكز الشاغرة يخرج عن دائرة صلاحياته، على الأقل حتى الآن، ويعود الناجحون الى الانتظام في صفوف طوائفهم ومراجعهم السياسية، هذا إذا لم يفعلوا ذلك قبل الدورة والنجاح. وبينما يفشل عديمو الكفاءة في إدارة حصص طائفتهم في الدولة، يستطيع أصحاب الكفاءة والخبرة مضاعفة فوائد طائفتهم من حصصها المعلومة في الدولة. وبين هؤلاء وأولئك، تبقى الإدارة خاضعة للحسابات الطائفية بما هي أصل العلّة، وتبقى التعيينات تفصيلاً من تفاصيلها. فالمسؤول الذي يختار أصحاب الكفاءة أو عديمي الكفاءة لملء مراكز طائفته في الدولة، لا يختارهم بطريقة عشوائية. فهم، أولاً، من أبناء طائفته، وهم، ثانياً، على استعداد لتنفيذ قراراته وتلبية احتياجاته في خدمة موقعه داخل طائفته، وهم، ثالثاً، مسؤولون أمامه وأمام طائفته قبل أن يكونوا مسؤولين عن وظيفة عامة موضوعة في خدمة المواطن كمواطن، بصرف النظر عن طائفته أو منطقته. والشاطر من يختار الأفضل لهذه المهمة... ولكي لا تشكل هذه الملاحظات إساءة لأصحاب الكفاءة، نلفت النظر الى أننا لم نقصد ذلك إطلاقاً بقدر ما نعمل على توصيف واقع الحال، على رغم وقعه الثقيل وتعارضه مع الغايات المنشودة من كل مطالبة بضرورة تسليم الإدارة لأصحاب الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد والخلق، وحدهم دون سواهم. إذ بفضل هؤلاء يمكن الوظيفة العامة، وإن كانت من نصيب طائفة معينة، أن ترفع عن كاهل المواطن أعباء اللجوء الى مسالك طائفية لإنجاز معاملاته، أو قنوات غير قانونية وغير أخلاقية. وفيما تكون الكفاءة حائلة دون الموظف وفساده، فإنها وحدها لا تكفي لمنع الفساد والرشوة والإثراء غير المشروع، بقدر ما تحتاج هذه الى تفعيل مؤسسات الرقابة والقضاء، إضافة الى حسن الاختيار في التعيين.فالفساد، وكل ما يدخل في معناه، يحمل في ذاته قدرة على إغواء الموظف، بصرف النظر عن صفاته ومؤهلاته، وإن كانت الكفاءة تمنح صاحبها قدرة على مقاومته، التي تبقى بحاجة دائمة الى رقابة شديدة والى تحرير الموظف من ضغوط الانتماء السياسي، والطائفي أو المناطقي.
وإذا كان عديم الكفاءة سريع الاستسلام لإغراءات الفساد، فإن هذا الأخير يُوقع أيضاً في حبائله صاحب الكفاءة، حيث تشهد دهاليز الإدارة والمعاملات حالات من الفساد والرشوة وتغليب المصلحة الشخصية والفئوية، يقوم بها موظفون من أصحاب الكفاءة والشهادات العلمية الرفيعة المستوى. ومع ذلك، فإن التخصيص لا يعني التعميم أو يحبط عزائم موظفين يعملون بوحي من كفاءة وخبرة ومسؤولية وضمير مهني ووطني، بقدر ما يعني حاجة هؤلاء الى دولة تحمي مسلكياتهم وأشخاصهم لا دولة تحمي خصومهم وتتركهم لقمة سائغة في أفواه متنفّذين، وذلك كله لكي لا يبقى هؤلاء استثناء النظافة من قاعدة الفساد والإفساد.
وفي هذا السياق، لا تكفي الشهادة الجامعية لتوصيف الكفاءة وحسن السلوك والسيرة، إذ الحكمة، على ما يقول الشهرستاني، تجعل كمال العلم مشروطاً بكمال العمل، وهذا يحتاج، وبصورة جذرية وشاملة، الى تخليص الإدارة من الطائفية وتطبيق القانون على الكبير قبل الصغير...
وخاصة أن الطائفية لا تقف عند حدود الإدارة، وإنما تتجاوزها الى حقول مجتمعية ومهنية أخرى، بحيث لا تظل الطائفية خاصية الاجتماع السياسي وحده، بقدر ما نجد تفاصيل كثيرة منها حاضرة في ديناميات الاجتماع الأهلي ومؤسساته المختلفة. فإذا كانت الطائفية قادرة على تطويع الاجتماع الأهلي لشروط الاجتماع السياسي، فإن الاجتماع الأهلي يظهر وسط قطبيْ تجاذب، تشده طائفية الدولة والسياسة، وطوائفية المجتمع ومعتقداته.
وبهذا المعنى، فإن الصراحة في توصيف آلية عمل الدولة، ينبغي أن تكون كذلك في توصيف آلية عمل الطوائف، أي إن ما يصحّ على الأزلام وأصحاب الكفاءة، يصح أيضاً على غيرهم من ذوي المعرفة والمشورة والباع الطويل في عالم الثقافة والمعرفة. وباستثناء شريحة من المثقفين الخارجين على طوائفهم، من الناصحين بتغيير حالها وأحوالهم، بخطاب منفرد أو بخطاب حزبي، فإن زعماء الطوائف ومرجعياتها الروحية وعصبياتها السياسية تشهد اصطفافاً لمثقفين يتسابقون على تقديم النصح والمشورة، تخطيطاً لبرنامج أو صياغةً لقرار وموقف أو عبر الكتابة في صحيفة أو التعبئة الفكرية في تنظيم أو الخبرة في اقتصاد وإعلام وديبلوماسية وسياسة واجتماع. وبهؤلاء تضجّ خلوات الطوائف ومؤتمرات أحزابها، وعليهم تقع أعباء التنظير والأدلجة والتخطيط، وبفضلهم تعرف الطائفة طريقها وسط الزحام والألغام.
وفي حالة الصراع المكشوف أو الحرب الأهلية المباشرة، يبتعد المثقفون عن الواجهة من دون التنازل عن دورهم الذي يظهر هامشياً أمام ميليشيات تتقدم الصفوف مثلما تحفر الخنادق. وبالتالي، فالمثقفون البارزون في السلم لا ينعدم دورهم كلياً في الحرب. صحيح أنهم يتوارون بعيداً عن المتاريس، لكن ما هو صحيح أيضاً أنهم يشكلون عقل الميليشيات ومطبخ قراراتها وتحالفاتها. ووسط هذا كله، تغرف الطائفية من المثقفين والميليشيات ما يطيل عمرها ويزيد مناعتها. ولا تخرج عن هذا السياق فئة من المتعلمين وحملة الشهادات العليا الذين دفعهم خوفهم على حياتهم الى عدم المشاركة في الحرب وأهوالها، بينما نراهم يركبون موجة السلم بلغة الحرب وشعاراتها وأهدافها، وكأنما الشهداء والمقاتلون لم يفعلوا سوى إزاحة العراقيل أمام طموحاتهم؟
ولكي لا تشكل هذه المصارحة صدمة للمثقفين، نذكّر بأن الخطاب المفعم باللاطائفية والمجاملة ينهار برمته عند انتخابات نقابية، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تحشد كل طائفة طاقات أحزابها ومؤسساتها وكوادرها في مهنة للأطباء أو المهندسين أو المحامين أو الجامعيين، رغبة في سيطرة طائفية على نقابة أو جمعية تزعم أنها وطنية في الدور والهدف، بينما تريدها الطوائف استعراضاً لقوتها واستمراراً لحروبها، بطريقة ديموقراطية وحضارية؟ وهنا، تظهر الطائفية حضوراً ملحوظاً قبل أن تبتعد عن الأنظار بعد فرز النتائج. وهكذا، تغذّي الطائفة نفسها بأصحاب الكفاءة في حالة السلم الأهلي، وتغذّيها أيضاً بالميليشيات في حالة الصراع المكشوف. وفي الحالتين يتحمل المثقفون والميليشيات مسؤولية تاريخية تجاه الطائفية، من دون أن تظل وقفاً عليهم. فالطائفة تنتج مثقفيها وهم ينتجون خطابها الطائفي، ومنها تتناسل الميليشيات تجسيداً لعصبية مطالبة أو مدافعة. فالطائفة هي الأصل، والبقية تفاصيل. والدولة الطائفية هي كذلك، أي طائفية، بوجود الميليشيات أو بدونها، بوجود أصحاب الكفاءة أو بدونهم. هكذا كانت منذ قيامها، وهذه حالها اليوم. وبالتالي، لن يكون كافياً وموضوعياً توصيف الطائفية بوقفها على أزلام وميليشيات، إذ هي تغوص في أعماق ليس هؤلاء سوى قشرتها الناتئة. ولن يكون صواباً الركون الى زعيمها أو المتحدث باسمها لتفسير ديمومتها وآلية عملها، فهي حاضرة في كل خطاب ومنصب ومدرسة ونقابة وجمعية رياضية أو ثقافية أو كشفية أو خيرية...
* باحث وأستاذ جامعي