توفيق المديني *
يواجه اليسار الفرنسي هزيمة مميزة ويصعب هضمها. فالنتيجة التي حققتها المرشحة الاشتراكية المهزومة سيغولين روايال هي الأدنى في تاريخ الدورات الثانية للانتخابات الرئاسية. فلم تستطع سيغولين روايال أن تحدث الاندفاعة الضرورية، أو تعرف كيف توقف مسلسل الانحدار التاريخي لليسار.
ما ينقص المرشحة الاشتراكية، هو فعلاً ما ينقص بعمق الحزب الاشتراكي، استراتيجية سياسية واضحة، ومشروع تجديد إيديولوجي. فالسيدة سيغولين روايال تميّزت بتعيينها مرشحةً لمنصب رئاسة الجمهورية لعام 2007، من طريق الالتفاف على منطق التأييد والموارد النضالية المُفتَرض أن ترافق هذا الترشيح. فقد ارتقت السيدة روايال إلى موقعٍ تمثيليّ لوحدها، كما لو كانت بطريقة الخلع، في ظل حزب اشتراكي منقسم إلى عدة تيارات، وتتنازعه الحساسيات الشخصية بين قياداته السياسية، وعجز تاريخي عن تحديث استراتيجيته ومشروعه المجتمعي.
فقد ترشحت سيغولين روايال ممثلة الحزب الاشتراكي من دون أن تكون قد استأثرت سلفاً بالقيادة داخل حزبها (على عكس فرانسوا ميتران أو ليونيل جوسبان مثلاً)، أو شاركت في سجالاته الداخليّة. وفرضت نفسها كـ«مسترئسة»، أوّلاً على المعلّقين الإعلاميّين، ثمّ على عددٍ متزايدٍ من النوّاب والمسؤولين والمناضلين الاشتراكيين، إلى حين تسميتها في تشرين الثاني 2006، بفضل الإحصائيّات الجيّدة لشعبيّتها، وبسبب ميل الناخبين للاقتراع لها منذ تشرين الثاني 2005. وكما أظهر ريمي لوفيفر وفريديريك ساويكي، لم تقتصر قوّتها فقط على انطباع «العذريّة السياسيّة» الذي تعمل على صقله، بل، وبصورةٍ خاصّة، على وضع حزبٍ خاضعٍ للسلطة المتزايدة لاستفتاءات الرأي.
إنّ تحوّل الحزب الاشتراكي إلى حزب ممثّلين منتَخَبين مهتمّين أساساً بالرهانات الانتخابية، وتهميش المناضلين العمّاليّين لمصلحة «كوادرٍ شابّة»، وانحطاط «الأوساط» والشبكات الاشتراكية، وشغل مراكز المسؤولية من قبل «خبراء» استوردوا خبرات يُشاع أنها أكثر فعّاليةً (خاصّة تقنيّات استقصاءات الرأي)، كلّ ذلك ساهم في جعل المسؤولين الاشتراكيين متغاضين عن تطلّعات الفئات الاجتماعية التي ما عادوا يختلطون بها.
العلاقات المعقدة التي أقامتها المرشحة المهزومة سيغولين روايال مع حزبها بلبلت كثيراً حملتها الانتخابية، إذ إنها عندما قدمت «ميثاقها الانتخابي الرئاسي» لم تشر إلى أية مرجعية من القادة التاريخيّين للاشتراكية الفرنسية: لا جان جوريس، ولا ليون بلوم، ولا فرانسوا ميتران. فقط ذكرت جاك دولور. ويعتبر السيد دولور مهندس التحول في سياسة اليسار في اتجاه اعتناق الليبرالية على طريقة الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية. ففي سياق تحليله إخفاق برنامج إعادة الانطلاق الاقتصادي في 1981-1982، عندما اختار اليسار محاربة البطالة بزيادة النفقات العامة والاستهلاك الشعبي وتأميم الشركات الصناعية والمالية الكبرى، فتزامنت الانطلاقة الاقتصاديّة هذه في فرنسا مع آلة إنتاجيّة متداعية وعملة وطنية سعر صرفها أعلى من قيمتها وتراجعٍ اقتصاديٍّ في الخارج أدّى إلى عجزٍ كبيٍرٍ في ميزان المدفوعات ــ ولو أنّه نسبياً أقلّ من نصف العجز المسجّل اليوم في الولايات المتحدة الأميركية، يقول ديلور: «إنه لا يمكن فهم تلك المرحلة بالإشارة فقط إلى كرم ــ أو تبذير ــ اليسار كما يحصل في الغالب»، ويوضّح الأمر قائلاً: «لما كنّا في طور نموٍّ مدفوعٍ بطلبٍ داخليّ أعلى من البلدان المجاورة، كنّا نستجلب الاستيراد، وكان الأمر ليختلف لو كانت أدواتنا الإنتاجية قادرةً على تلبية الطلب. لكن السبب في ذلك العجز كان بسيطاً: فطوال السنوات التي سبقت وصول اليسار إلى السلطة، لم ترتفع الاستثمارات المنتِجة بما فيه الكفاية(...). أضِف إلى ذلك أن أصحاب الشركات لم يستسيغوا تغيّر الحكم. وفي غياب الثقة، لا استثمارات».
لقد أرادت سيغولين روايال التحرّر من التقاليد السياسيّة لحزبها الاشتراكي، ومن مرجعيته أيضاً. فسيغولين روايال لديها مشروع أكثر «سيغولية» منه اشتراكياً. فهي مقتنعة أن موقعها كمرشحة اشتراكية مرتبط فقط بمزاياها الشخصية. وظهرت هذه الشخصانيّة في السياسة من جديد في المعركة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، بعدما لقيت هذه النزعة تشجيعاً واسعاً في وسائل الإعلام واستقصاءات الرأي، وانطلاقاً من المنحى الرئاسي للمؤسسات. ويبدو أن الغرض الرئيسي من إبراز اسم الحزب الاشتراكي هو السماح للمرشحة سيغولين روايال إبراز موهبتها، مع إهمال ما يَعِدُ به برنامج الحزب.
فكانت الواجهة التي تخفي الأزمة العميقة التي يعانيها اليسار بشقّيه الاشتراكي والشيوعي. ولا يمكن فصل هزيمتها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن هزيمة اليسار الفرنسي: فبعدما اقتنعت بـ«أنّك لكي تكون الأفضل في معسكركَ يجب أن تكون الأوّل» (والعكس صحيح)، لم تكفّ عن اعتبار المعركة السياسيّة بمنزلة مجرد تعاونٍ مع قادة الحزب الاشتراكي يهدِفُ إلى تحقيق خلاصٍ جماعيّ فحسب، بل حادت عن آراء داعميها من الاشتراكيين، وفسخت التسويات التي سهّلت ارتقاءها.
على هذا المستوى، لم تنفصل حملة سيغولين روايال فقط عن الواقع الذي يجب عليها نقله. إنّه نوعٌ من اللّغة الانتخابية المُبتَكَرة، فالخطابات مجرّد ضروريّات تفرضها الحملة، تُلزِمُ فقط من يصدّقها لا من يُدلي بها. هنا تكمن المفارقة. تنفلت اللّعبة السياسيّة في اتّجاه عوالمٍ خياليّة، في الوقت الذي تهيمن فيه التحدّيات الاجتماعية ــ الحسّية والغائبة عن النقاش ــ على حياة الناس العاديّة.
بعدما استفادت المرشحة الاشتراكية من انضمام كل مرشحي اليسار الأنتي ــ ليبرالي (الحزب الشيوعي، ومنظمات اليسار الجديد) الذين حصلوا مجتمعين على 9% في الدورة الأولى، متراجعين عن الانتخابات الرئاسية عام 2002، عندما حصلوا على 13،8%، والذين رفعوا شعار «أياً كان إلا ساركوزي» منذ بداية الحملة الانتخابية، أخفقت سيغولين روايال في معركة كسب ناخبي الوسط السبعة ملايين الذين صوتوا لمصلحة مرشح الوسط فرانسوا بايرو، باعتبارهم كانوا سيؤدّون دوراً كبيراً في الدورة الثانية.
حين وصل اليسار الاشتراكي إلى السلطة بزعامة فرانسوا ميتران عام 1981، لم يستطع أن يجسد مشروعه المجتمعي، بصرف النظر عن التأميمات التي قام بها، فقد أخفق في إعادة الانطلاق الكينزية المهدّدة بالعجز الخارجي. وكان فرانسوا ميتران يتّكل على مرغريت تاتشر التي أقام معها علاقات وديّة، ولا سيّما بتأكيد تضامن فرنسا مع بريطانيا خلال نزاع جزر الفوكلاند. وفي ألمانيا، كان الاشتراكيون الديموقراطيون في السلطة، واعتقد ميتران بإمكانية إقناع هلموت شميت. وظل ميتران ينتظر دعم الرئيس الأميركي رونالد ريغان، الذي لم تكن خياراته الليبرالية المتطرّفة قد بلغت حدّ العمى الذي وصلت إليه لاحقاً.
فاللازمة الدائمة حول تحوّلات اليسار، وتوجّهه اليميني المرتبط بالـ«قيود الأوروبية»، والتغيّر العميق في سوسيولوجيا اليسار الانتخابية، لا يمكن فصلها عن الممارسة المَلَكية للسلطة. وهذا ما كان قد حوّل الحزب الاشتراكي إلى مسرحٍ للظلّ تكثر فيه المواجهات بين الأشخاص أكثر منها حول السياسات. وبات مناضلو هذا الحزب الاشتراكي أقرب إلى مناصري الحظيرة الرئاسية لفرانسوا ميتران، إن لم يكن إلى سقّائين في آخر عمليات التحكيم بين القرارات التي تبتّها السلطة التنفيذية. هكذا يقول ميشال روكار: «سرعان ما أدركتُ أن هذه الجملة من ميتران تصف الواقع بدقّة: إنّه لا وجود للحزب الاشتراكي، هناك فقط أصدقاءٌ لفرنسوا ميتران». وهذا الأخير كان «غريباً عن أيّ مفهومٍ لتشكيلةٍ سياسيّة، أو أي مفهومٍ للحزب. (...) فهو لا يسعى أبداً لمشاركة أحد في قراراته».
وعلى الرغم من أن فرانسوا ميتران كان يقول دائماً: «لم يتم انتخابي كي أقوم بالخصخصة وبجعل الرأسماليين أكثر ثراءً!»، فإنه من الناحية التاريخية انتهج سياسة يمينية، واستمر في تجسيد سياسة «التلاقي» بين الاشتراكيين واليمين في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، مع أن الليبرالية، في نظر فرنسوا هولاند الأمين العام الحالي للحزب الاشتراكي، ورفيق درب المرشحة سيغولين روايال وزوجها، «لا تحظى بموافقة الأكثريّة في فرنسا». وهذا ما يفسّر بعض الأحكام الرئاسية: ليس هناك أسوأ من الاشتراكيين الذين يحلَمون بشهادات حسن سلوك في الاقتصاد يمنَحُها إليهم رجال اليمين. هؤلاء ينتهي بهم الأمر إلى نسيان أنهم يساريّون(...). وكان السيد فرنسوا قد أطلق الإنذار قائلاً: «إن لم يُنزع الطابع القدسيّ عن وظيفة الرئيس، فلن يمكننا استعادة الوظيفة الديموقراطية». وكان ميتران قد كرّر في الماضي هذا الخطاب قبل أن تتفتّح لديه عظمة الدور الرئاسي بأبهى صورها.
مع سقوط جدار برلين، سقط الجدار الرمزي للصراع الإيديولوجي بين اليمين واليسار على الصعيد العالمي. وفي ظل انتصار العولمة الليبرالية، أدركت الشعوب أنه لم يكن هناك اختلاف جيني بين اليمين واليسار. ومنذئذ حلّت القيم محل الأفكار. ولم يدرك اليسار هذا التحول. وظل اليسار الرسمي يعتبر نفسه معصوماً من الخطأ أخلاقياً، ولا يمكن نقد معتقداته الإيديولوجية، باعتباره كان يجسد الحركة الاجتماعية التقدمية والجمهورية العلمانية، وباني الديموقراطية الاجتماعية. وكان هذا صحيحاً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. بيد أنه منذ ذاك التاريخ ظل اليسار الفرنسي يعيش على أمجاده، فكان يحتقر النقاشات الفكرية والمجتمعية التي كانت تجري في بريطانيا وألمانيا، وتجاهل عودة العامل الديني والروحي إلى أوروبا الشرقية، ولم يكترث لـ«الثورات المخملية» في براغ وكييف وتبيليسي. اليوم هذا اليسار من النمط القديم مات. وعلى الرغم من دفن هذا النمط التقليدي من اليسار، فإن اليسار ظل يعيش على التراث الثقافي والسياسي الذي ينتمي إلى القرن التاسع عشر.
* كاتب تونسي