عمر كوش *
عادت الأحداث الدامية المقرونة بعمليات الخطف والفوضى إلى شوارع غزة بعد أن توقفت إثر توقيع «اتفاق مكة» ما بين حركتي فتح وحماس، وما أعقبه من تأليف حكومة وحدة وطنية. وساد وقتها اعتقاد بأن الأمور قد عادت إلى نصابها وأن نزف الدم الفلسطيني ــــــ الفلسطيني قد أوقف. لكن يبدو أن المشكلة أكبر من كل محاولات التهدئة وتطييب الخواطر وعمليات التلصيق والترقيع، لأن أساسها سياسي، ولها مضاعفات وإرهاصات أمنية، وتفاقمها ممارسات الاحتلال الإسرائيلي والقوى المتعاونة والمتواطئة معه.
ويثبت تجدد الأحداث المؤسفة في غزة أن القوى السياسية الفلسطينية غير قادرة على مواجهة الوضع المتردي بشكل مباشر، وبما يضمن السيطرة على حالة الانفلات الأمني التي أفضت إلى رواج تجارة السلاح، وباتت صدقية القيادات السياسية في حركتي «فتح» و«حماس» تتآكل شيئاً فشيئاً في الداخل الفلسطيني وفي الخارج الإقليمي والدولي. ولا يختلف أحد على أن هذه الأحداث الدامية تقدم خدمات كبيرة لإسرائيل، وتسبب تغطية وطمس حالة الحصار والتجويع المضروبة على الشعب الفلسطيني منذ وصول حماس إلى السلطة، والتي أوصلت قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني إلى شبه حالة اختناق معيشي واقتصادي، فضلاً عن كابوس الاحتلال الإسرائيلي.
لا شك في أن الشعب الفلسطيني قد سئم هذه الدورة العبثية التي يتجدد معها العنف والقتل اليومي الداخلي، والتي لا تجلب معها سوى شعور متزايد بخيبة الأمل والخزي والخراب، وتتصادف ــــــ هذه المرّة ــــــ مع احتفالات «إسرائيل» بمرور تسعة وخمسين عاماً على تأسيس كيانها العنصري، وما تحمله هذه المصادفة من رسائل وإشارات مؤسفة ومحزنة، إذ إن الاقتتال ما بين أنصار حركتي «حماس» و«فتح» يحصد في كل يوم أرواح العديد من الإخوة الفلسطينيين، بينما تتخذ، بالمقابل، الحكومة الإسرائيلية قرارات خطيرة وتقوم بتنفيذها على الأرض، حيث قررت بناء 20 ألف وحدة سكنية في مدينة القدس، بغية تعديل التوازن السكاني في هذه المدينة المقدسة التي احتلتها قبل نحو أربعين عاماً، ثم أعلنت ضمها واعتبرتها عاصمة الدولة العبرية. إضافة إلى أن الحكومة الإسرائيلية بدأت بإجراء تدريبات شاملة في الشمال والوسط والجنوب لإعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي بعد «إخفاقاته» في حرب تموز الأخيرة على لبنان.
إذاً، في الوقت الذي تعاني فيه قوى السلطة الفلسطينية انقسامات سياسية تجهز على ما بقي من اتفاق مكة، نجد أن حكومة «إسرائيل» تحاول تجاوز «الإخفاقات» و«الثغرات» التي لحقت بها وبجيشها في لبنان، وتعدّ وتدرس مجموعة من الخطط العسكرية الهادفة إلى اجتياح غزة وإعادة احتلال الضفة، فيما يتقاتل أكبر فصيلين فلسطينيين بغية تحسين مواقع النفوذ في السلطة. والأخطر من ذلك أن القيادات السياسية الفلسطينية لا تتمعن في ما يجري على الأرض، حيث الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني يتركون أرضهم ومنازلهم، ويغادرون ديارهم بحثاً عن لقمة العيش في البلدان العربية والعالم.
إنها مأساة تضاف إلى جملة المآسي الفلسطينية، لأن ما يجري في شوارع غزة خطير، وخطورته البالغة على قضية الشعب الفلسطيني لا تخفى على أحد، والأخطر من ذلك كله هو تحويل مجرى الصراع مع العدو الإسرائيلي إلى صراع داخلي من خلال تباعد الأجندات والأهداف وجرّ الفلسطينيين إلى أتون حرب أهلية. وهي مأساة أيضاً لأن الكيان الإسرائيلي الذي قام على القتل والقهر والطرد يستكمل سياسة تهجير الفلسطينيين بواسطة الحصار الجائر المفروض على الشعب الفلسطيني.
* كاتب سوري