طهاة الحقائقمحيي الدين النعماني

أسمح لنفسي بالقول إن ثمة أخطبوطاً إعلامياً عالمياً متماسك الأجهزة والأدوات يقوده عتاة الخبراء في علم جراحة الأفكار، مؤلفين بذلك شبكة مالية يقودها منظرو علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد على مستوى البنية السياسية للعالم الثالث، وما أكثر السموم الإعلامية التي تضخ يومياً عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة، وحديثاً عبر الإنترنت. خلاصة القول هنا هي أن في لبنان لبنان نواجه (إمبراطورية) إعلامية لها فرسانها الذين لا يشق لهم غبار في ميادين الحرب الإعلامية وأهدافها في فن قلب الحقائق وفي فن ابتكار صنع الثلج السياسي الملون.
هذه الإمبراطورية المبنية هي كلها على أعمدة الكذب التي يصول ويجول في قاعاتها وساحتها إعلاميون يشوهون مفاسد حبرهم لوقائع الأحداث، مثيرين بذلك القلق والخوف ليسهل على أربابهم حسن الاصطياد. أما من هؤلاء الذين اتحدث عنهم فذلك يسير على خط كل قارئ ومستمع ومشاهد للتعرف إليهم من خلال مفرداتهم وجملهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم على حساب القضايا المصيرية الكبرى وعلى حساب التاريخ والهوية والأصالة والفكر... صحيح القول إن كل إعلامي يبحث عن التفرد والتفوق بجذب الأنظار إلى ما يكتب، وصحيح أن الإعلامي يتمتع بحرية الكتابة وقول ما يحب (قوله)، لكن من غير الصحيح أن يتحول ما يكتبه الإعلامي إلى (سلطة) إعلامية أو مائدة للأفكار التي يسبح فيها الزيت الفاسد المجبول بالنيات الحامضة، وما أكثر الذين يجدون ويحترمون صنع هذه الوجبات الجاهزة التي تخفي توابلها طعمها الحقيقي.
هكذا يتحول الإعلامي (بعض الإعلاميين) في لبنان إلى مجرد طاه للحقائق على نار الالتباس، وخاصة حين تكون عناصر الصحة والوجبة الإعلامية مشتقة من أسواق النخاسة وتجار المال والربح السريع. أكاد أجزم على هذا المستوى بأن لبنان بات سوقاً عالمياً لترويج الأفكار والأكاذيب، بل بورصة عالمية يتداول فيها المنتفعون والإعلاميون الجدد والسماسرة، فما يخلقه هذا الخبر أو ذاك من تشويش وإرباك تكهنات وأسئلة جدل أكثر من قضية حساسة يتعلق بها مصير الحياة اليومية للوطن والمواطن على حد سواء.
إن من يمضي في التفكير بكلمة «تداعي» أو «مصير» و«اهتداء»، لا يسعه سوى أن يستدرك قدرة الكاتب على صوغ المفردات التي لا بد أن تثير لدى القارئ الإحساس بهول الحياة، وبالتالي للجوء إلى أقرب باخرة يغادر على متنها إلى بلاد من العسل والرياحين والموسيقى.



الوطن حلم متواصل
مكسيم صباغ


ذهبت مرة إلى السوق لأشتري حاجة. دفعت ثمن الغرض بقيمة ألفي ليرة لبنانية. رفضت البائعة إحدى الورقتين وكانت حجتها أنها عتيقة. قلتُ لها: هي بحالة لا تدعو لمثل هذا الرفض. الِأنها قد أُلصقت؟ وهذه عملية تحصل إن كانت الورقة كاملة لا نقص فيها.
تعطي هذه البائعة هي وأمثالها مثل المواطن غير الناضج والمستحي ببلده. هي تستحي بأرزتها رمز بلدها، بينما نجد أن الغير يتعاملون بعملات بلدهم بدون حياء.
إن القصة ليست قصة ورق قديم ممزق أو ورق صحيح برّاق .القصة هي قصة قلوب ناضجة تنبض بالإيمان. فالوطن بحاجة لتصرفات ناضجة لا طائشة. يكبر الإنسان ولا يزال في الطفولة، هو بحاجة لمن يرشده. يتأخر عن اللحاق بالمتحضر. هذا المتحضر الذي يبدأ من الأشياء الصغيرة التي تبدو تافهة، مثل عدم رمي أعقاب السجائر والأوراق والنفايات على الطرقات وغيرها. يقول الإنسان الطفولي إنه حر بتصرفاته ويعرف كيف يتصرف ليحافظ على وطنه. فالوطن حلم متواصل، جيث نحلم بتغيير الواقع بدءاً من أبسط الأشياء. وليس المطلوب فعل العجائب والمعجزات الكبار، بل المهم الانتظام والترتيب. لنتعلم من المجتمع الحيواني مثل النمل أو النحل. تدور الأمور بكل تفاهم وبدون تعارض. الكل له دوره الحيوي ولا يشعر أحد بأنه منبوذ أو مهمش من باقي الخلية. لكن الفرق أن المجتمع الحيواني تسيّره الغريزة، بينما تتحكم الحرية بالمجتمع الإنساني المتمدن. الإنسان المتحضر ينظر إلى الأشياء برؤية صافية وبعين منفتحة على الأشياء. لا يقزّم الآخر. يرفع الآخر من قاع التخلف والجهل. يبدأ تحضر الإنسان من تحضر الآخر.