كمال مساعد *
في الخامس عشر من أيار (مايو) من كل عام تحل الذكرى التاسعة والخمسون لقيام إسرائيل. أطلق على هذه الذكرى ذكرى النكبة، وظن الفلسطينيون أن ما حل بهم لن يطول إلّا أياماً أو أسابيع، لكن نزوحهم أصبح مستديماً، فصار اللاجئون ينظرون بحسرة إلى بيوتهم، وبات من بقي منهم في داره عرضة للتنكيل والتمييز في ظل الديموقراطية العنصرية اليهودية المزيفة، بل صار العرب في ديارهم مشكلة لإسرائيل التي تفكر في التخلص منهم حتى تصبح دولة يهودية خالصة.
ومنذ ذلك الحين والمنطقة تعجّ بالصراعات بين كيان سرطاني لا يقرّ بحدود لدولته ولأطماعه، وبين دول عربية تحاول أن تضمّد جراحها وأن تجمع شتات قواها لحصار هذا الوباء ومنع انتشاره وتتحين الفرصة لاقتلاعه. وبات واضحاً العجز العربي عن اقتلاع هذا الكيان، واقتصرت المحاولات العربية على كسر هذا الحصار والعمل على النفاذ إلى داخله تارة والالتفاف حوله تارة أخرى.
تاريخية الذكرى
وتطلق إسرائيل على ذكرى قيامها «عيد الاستقلال» وتعتبر القدس عاصمة لها حتى ظن الناشئة ذلك، لأنهم لم يدرسوا تاريخ القدس وتطورات تهويدها والاستيلاء عليها، فانتقلت تدريجاً من أيدي العرب إلى أيدي الاحتلال الإسرائيلي. وهذه الذكرى مناسبة لكي نراجع مسيرة الموقف في فلسطين. في هذه الذكرى يمكن التأكيد أن إسرائيل تتقدم بشكل ملحوظ في إنجاز المشروع الصهيوني الهادف إلى تفريغ فلسطين من معظم سكانها، وترسيم الحدود شبه النهائية للدولة العبرية. فإن كان أولمرت رئيس وزراء إسرائيل المهزوم في حرب لبنان، أكد في خطته التي ورثها عن شارون والتي تقوم على الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعدم الالتفات إلى الطرف الفلسطيني كشريك وأنه يتجه لرسم حدود إسرائيل النهائية عام ٢٠١٠، فإن ذلك يخفي وراءه الحقيقة، وهي إما أن تكون إسرائيل قد تمكنت من إخضاع كل الفلسطينيين وفرض تسوية نهائية عليهم تنكر فيها كل حقوقهم بما فيها حقهم في الحياة على الإطلاق وحقهم في الحياة في فلسطين بوجه خاص. وهذا الهدف يمثل طموحاً كبيراً لحكومة أولمرت إذا استطاعت الصمود حتى صدور تقرير فينوغراد عن إخفاقات الحرب على لبنان، حيث إن حدود المرحلة الأولى التي تقضم نحو ٩٦ في المئة من أراضي فلسطين التاريخية وهي المقصود التوصل إليها. وعلى رغم أن الخطط الإسرائيلية تقوم بالفعل على إبادة الشعب الفلسطيني بكل صور الإبادة، فلا أحد يستهجن ذلك أو يعلق عليه، بينما تزداد مأساة الفلسطينيين وتتباعد كل يوم آمالهم ليس فقط في تحقيق حلم دولة وإن كانت صغيرة على أرضهم، بل حتى مجرد الأمل في البقاء في أرض الآباء والأجداد. وعلى رغم ادّعاء إسرائيل وجديّتها في تنفيذ هذا الادّعاء بأن فلسطين كلها لليهود وحدهم وسكوت العالم على ذلك بل رضاه بهذا الإنجاز الإسرائيلي، فإن العالم كله يستنكر على حركة حماس أن تعلن على سبيل الدعاية والضغط والتحدي، أنها تريد كل فلسطين، فأصبحت مطالبة صاحب الحق الأصلي بحقه من المغتصب مدعاة للاستهجان ودليلاً على الحماقة وعدم الكياسة والدبلوماسية ودعوة جوفاء لا تسندها القوة، ولا يؤيدها الواقع، فتدخل في عالم الجنون والخيال، ما يستوجب التصدي لهذا «الهذيان»، طبعاً حسب المفهوم الإسرائيلي.
ومن الواضح أن إسرائيل تقود حملة عالمية شعواء لاستكمال إبادة الشعب الفلسطيني الذي تجاسر وتحدّى الإبادة، لا بل أكثر من ذلك، حيث أدرك طريقه وحدد خياراته في المقاومة وممثليه. ومع ذلك، تعتقد إسرائيل أنها تستطيع أن تمحو الحقائق وأن تنشئ باطلاً تضعه في مصاف الحقائق، إذ أطلقت على إعلان قيامها «إعلان الاستقلال»، فهل هو الاستقلال عن الشعب الفلسطيني الذي كان يحتل الشعب اليهودي أم هو تحرير فلسطين من الغاصبين الفلسطينيين الذين سكنوا الأرض آلاف السنين مقابل بضع سنوات أقام فيها بنو إسرائيل؟ وقد يسأل البعض عن الدولة التي كانت تحتل إسرائيل والتي استقلّت عنها إسرائيل بعدما طردتها من أراضيها على غرار استقلال بعض الدول العربية والدول المستعمرة في العالم الثالث. ويبدو أن اليهود في إسرائيل يتحدثون عن الاستقلال عن بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين حتى يزيّفوا الحقائق القائلة بأن إسرائيل المستقلة عام ١٩٤٨ لم تكن موجودة أصلاً وكانت مجموعة من المهاجرين الذين لم يدرك العالم أنهم جاؤوا إلى فلسطين للإقامة فيها وطرد سكانها بأساطير وخرافات كانت سائغة في العصر الاستعماري غير الاستيطاني. وبريطانيا المحتلة التي تزعم إسرائيل أنها استقلّت عنها هي في الحقيقة، الدولة العظمى في بداية القرن العشرين التي تولت إقامة إسرائيل، فهي التي رعت الهجرات اليهودية إلى فلسطين وتكفلت في صك الانتداب إنشاء الأجهزة الإدارية وتمكين اليهود المهاجرين منها، وقدمت الحماية للهجرات اليهودية وبنائهم للقرى وسط التجمعات الفلسطينية، أصحاب الأرض، وهي التي مكّنت الوكالة اليهودية من استقدام المهاجرين، وسلّحت ودرّبت العصابات الصهيونية لكي تنتزع فلسطين بالقوة وتعلن قيام إسرائيل، فأيّ استقلال يتحدث عنه المغتصبون وعمّن استقلّوا، فخلقوا أوهاماً وفرضوها! يجب أن تكون ذكرى إنشاء إسرائيل مناسبة للدرس والتأمل في أسباب انطلاق المشروع الصهيوني وانكسار المشروع العربي وانحسار المواجهة الشاملة، واستثناء المقاومة، وأن يكون ذلك درساً لأبنائنا، فهم يعلّمون أبناءهم هذه الخرافات التاريخية التي أصبحت واقعاً مشرقاً في أدبياتهم، وعلينا أن نؤكد في ذاكرة أطفالنا حقائق التاريخ القريب، قبل أن يدرسوا الأساطير الإسرائيلية في مقررات المدارس العربية تحت شعار ثقافة السلام بالمفهوم الإسرائيلي.
تخطيط سياسة الشعب اليهودي
أفاد تقرير «حال الشعب اليهودي» الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» بأن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان أضعفت اليهود في العالم كثيراً، موضحاً أن «غياب الانتصار في الحرب يثير قلق يهود أوروبا كثيراً». وجاء في التقرير، الصادر عن «معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي» التابع للوكالة اليهودية، والذي يترأسه المبعوث الأميركي السابق إلى المنطقة دينيس روس، أن «عوامل سلبية عديدة» نشأت خاصة خلال العام الماضي، وعلى رأسها حرب لبنان الثانية وغياب انتصار إسرائيلي متوقع، الأمر الذي أدّى إلى ضعف كبير في مكانة المجموعات اليهودية في الدول التي تعيش فيها. وهذه المجموعات فوجئت من مدى سهولة ضرب إسرائيل. وتابع التقرير أن «قائمة المصائب التي تهدد اليهود في العالم شملت تزايد التهديدات الأمنية وعلى رأسها الحركات الإسلامية المتطرفة وإيران»، إضافة إلى ما وصفه بـ«تعاظم اللاسامية» وانعدام الزيادة الطبيعية لدى اليهود والتي تقارب الصفر. ولفت التقرير إلى «نقطة ضوء» واحدة بالنسبة لحال اليهود، وهي أنه للمرة الأولى أصبح اليهود في إسرائيل هذا العام أكبر مجموعة يهودية تؤلف ٤٠٫٦ في المئة من مجموع اليهود في العالم. لكنه أشار إلى أن مكانة إسرائيل وقدرتها كدولة على استيعاب اليهود قد تآكلت، وخاصةًًًًً أن ٩٢ في المئة من يهود العالم يعيشون في ٢٠ دولة تتمتع بأعلى مستوى حياة، ولا سيّما في الدول الغربية الغنية. إضافة الى ذلك، كشفت دائرة الإحصاء المركزية في إسرائيل أنه للمرة الأولى منذ أكثر من ٢٥ عاماً، فاق عدد المهاجرين من إسرائيل العام الماضي عدد المهاجرين إليها، وهو ما يبعث على قلق الوكالة الصهيونية التي تدارست ووزارة الخارجية سبل وضع حد للهجرة العكسية وتفضيل مئات آلاف اليهود من دول الاتحاد السوفياتي السابق الهجرة إلى الولايات المتحدة ودول اوروبية أخرى على الهجرة إلى إسرائيل.
ووفقاً للأرقام المتوافرة لدى دائرة الإحصاء، هاجر إلى إسرائيل عام ٢٠٠٦ نحو ١٥ ألف يهودي فقط، بينما حمل نحو ٢٠ ألف إسرائيلي أمتعتهم وغادروا الدولة العبرية. ولفتت تقارير إحصائية إلى أنها المرة الثالثة في تاريخ إسرائيل التي تسجل فيها هجرة سلبية، الأولى في أعقاب حرب تشرين (أكتوبر) 1973، والثانية بعد التضخم المالي الذي عصف بإسرائيل عامي ١٩٨٣ و١٩٨٤. وكانت تقارير أخرى قد أفادت الصيف الماضي بأن عدداً كبيراً من المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق الذين يسكنون شمال إسرائيل، شرعوا في ترتيب أوراق الهجرة في أعقاب الحرب على لبنان وعدم شعورهم بالأمان، فضلاً عن عدم الاعتناء بهم خلال الحرب. وأشارت التقارير إلى أنه منذ عام ٢٠٠٣ تشهد إسرائيل خفضاً ملحوظاً في عدد المهاجرين إليها في مقابل ارتفاع ملموس في عدد الذين غادروها ولم يعودوا إليها بعد انقضاء عام وأكثر. وتوقعت دائرة الإحصاء ألّا يزيد عدد المهاجرين إلى إسرائيل العام الجاري على ١٤ ألف يهودي، في مقابل ١٩ ألفاً العام الماضي، و٢١ ألفاً العام الذي سبقه، فيما معدل المغادرين سنوياً يفوق الـ ٢٠ ألفاً.
ولم تستبعد أوساط تتابع موضوع الهجرة السلبية أن يكون عدد الذين هاجروا من إسرائيل أكبر بكثير من المسجل في دائرة الإحصاء المركزية التي لا تحصي من غادر إسرائيل قبل ٢٠ عاماً، لكنه يزور أقاربه سنوياً بين المهاجرين، كما لا تحصي من غادر إسرائيل قبل ثلاث أو أربع سنوات ولم يبلّغ السّلطات الإسرائيلية رسمياً أنه مهاجر. ووفقاً لدائرة الإحصاء، يبلغ عدد اليهود من دول الاتحاد السوفياتي السابق الذين يعيشون في الولايات المتحدة نحو ٧٥٠ ألفاً، معظمهم غادروا إليها (أو إلى إسرائيل ثم غادروها بعد سنوات) مطلع تسعينات القرن الماضي. وأشارت مصادر في الوكالة اليهودية إلى أن الجيل الثاني من هؤلاء لا يشعر بأي صلة أو ارتباط بإسرائيل، بعكس الجيل الأول. وتبيّن إحصاءات الوزارة، التي تتولى شؤون القادمين اليهود واستيعابهم في إسرائيل، أن ٣ يهود من بين كل ٢٠٠٠ يهودي يغادرون إسرائيل مهاجرين، لكن هذه النسبة ترتفع إلى ١٥ شخصاً من بين كل ٢٠٠٠ قادمين من دول الاتحاد السوفياتي السابق. وفي الترجمة العملية لهذه النسبة، يتضح أن أكثر من ٧٢ ألف مواطن قادمين من تلك الدول هاجروا ثانيةً من إسرائيل. وقالت الوزارة إن استطلاع رأي أجري بين المهاجرين كشف أن أسباب هجرتهم هي البطالة والضائقة الاقتصادية وارتفاع نسبة الضرائب والوضع الأمني. وأكدت أيضاً أن الهجرة زادت في أثناء الحرب الأخيرة على لبنان وبسببها.
في ذكرى قيامها الـ 59، هل دخلت إسرائيل سنّ التقاعد وأضحت هزيمتها ممكنة؟ الممكن غير مستحيل!
* باحث في الشؤون الاستراتيجية