ناصيف قزّي *
جميل أن يطالب «زائر أميركي» بعدم التدخل في شؤون لبنان، «لأن لبنان دولة ذات سيادة ومستقلَّة... وعندها إمكانيات لحل مشاكلها بنفسها»... وجميل أيضاً أن يقابله «ضيف روسي» بالشيء نفسه، معتبراً «أن بيروت ليست ضاحية من ضواحي نيويورك أو باريس».
ففي هذا الكلام ما يضع، ومن دون شك، حداً نهائياً لتدخلات الدول في لبنان، ولا سيما منها دوقيَّة الـLuxembourg وسلطنة Bruney... نأمل بعده أن ندخل «هدنة المئة يوم» التي دعتنا إليها الهيئات الاقتصاديَّة المحليَّة، وتنزيلاتها الموسميَّة، على لحن الـQuatre Saisons لـVivaldi، لا على لحن موسيقى الموت لـMozar... الهدنة التي لا نظن أن أحداً يمكنه أن يرفضها بالمطلق، وإن كان ثمة اقتتال أخوي في فلسطين وأشلاء في بلاد الرافدين، الى ما تصاعد البارحة من دخان في بساتين الفيحاء... فالعرب، عرب الهزيمة، ما زالوا يبحثون، ومن دون بطء أو كلل، عن مخارج لحقن الدماء، كل الدماء، من تاريخ ما قبل التاريخ حتى الآن.
والأجمل من كلِّ ذلك، هو أن يعلن الرئيس الفرنسي الجديد الذي، والى جانب انهماماته الداخليَّة والأوروبيَّة، يحمل، على ما قال مراراً وتكراراً، حنيناً الى متوسط، كنا ولا نزال، نحن اللبنانيين، قلبه وتاريخه وقبلة شعوبه قاطبة ومهبط الهداية فيه... متوسط «حرفنَتهُ» أبجديَّة جبيل، و«أخلَقَتْهُ» قيم قرطاج، و«عَمْلَقَتْهُُ» بطولات صور وصيدون... متوسط «أقمَحَت» على ضفافه سنابل بولس الرسول وخفقت في عُرضِه أجنحة بني أميَّة على ألواح خشب الأرز، الى جانب عظمة روما وأثينا... وما أتت به من عقل وبنيان. أن يعلن الرئيس الفرنسي الجديد رغبته في «الدفاع عن استقلال لبنان بالقدر عينه الذي سيدافع به عن أمن إسرائيل».
فمرحباً بك Mr le Président Nicolas SARKOSY، خلفاً لرئيس أرهقتنا فيه دموع التماسيح وسياسات العلاقات الشخصيَّة... مرحباً بك في رحاب متوسطنا الكبير، رسولَ تلاقٍ وحوار، طالما أنشدناه وأنشدته معنا شعوبٌ من حولنا... ومرحباً بحكومتك وبخاصة وزير خارجيتك الذي عرفناه مدافعاً عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها ومنادياً بعدم التدخل الخارجي في شؤونها.
هكذا، وبالعودة الى تاريخنا الطويل، وما عرفناه من صعود وهبوط في مؤشر مسيرتنا الحضاريَّة، وسط مسارات الشعوب والأمم، فإننا نعي تماماً أنه بقدر ما قدمنا للبشريَّة من إسهامات، تلقينا من شعوب الأرض عطاءات. وإذا كان بعض الرحالة والمستشرقين قد أغنى تراثنا العريق بتجاربه ورؤاه، فإن بعض هؤلاء قد أسهم في حرق تراثنا، وبعضهم الآخر أطاح غير مرة سلمنا الأهلي.
والأنكى من كل ذلك، أن يأتيك اليوم، بعضٌ من أهل البيت اللبناني، بمواقف تجهل حقيقة تاريخنا ولا تمت إليه بصلة... مواقف لا تأتي من عدم فهم الأمور على حقيقتها فحسب، بل من عدم الرغبة في الفهم، ولا سيما عند بعض الذين باتوا يختصرون التاريخ اللبناني بتاريخهم الشخصي، وأسماء صروحنا ومنائرنا بأسمائهم.
في أي حال، فتاريخنا اللبناني لا يلغيه خطأ في التقدير من هنا، وسوء فهم من هناك... إنه أعظم من أن يُقاس بمعايير سياسات الزمن الهزيل ورجالاته وأقلامه. فتاريخ لبنان هو تاريخ قيميّ بامتياز...!؟
أما مشكلتنا مع هذا التاريخ فتكمن في أننا لم نسعَ لشرحه لأولادنا كما يفترض، بحيث بقيت قيمنا، التي شوهتها أضاليل الحروب والمؤامرات، محجوبة عن الأجيال...
وإذا كان لنا من مهمة في هذا الزمن المضطرب... فإنها تنحصر في إعادة ترميم تلك القيم وتفعيلها وتسليمها لأجيالنا المقبلة منطلقاً لتربيتهم من أجل مستقبل واعد.
وإذا كان من واجبنا أن نتذكر تلك القيم اللبنانية العريقة، فلا بد لنا من أن أعود الى كلمتين باح لي بهما يوماً الجنرال عون... كلمتان بسيطتان، كان حفظهما منذ طفولته، ككل إنسان لبناني نشأ وترعرع في كنف عائلة متواضعة تخاف الله وتحب القريب... كلمتان تخرجان بعفوية على لسان كل أب لبناني وأم: «عيب» و«حرام»...!؟
أجل أيها الناس... عيب وحرام...!؟
ترى هل بقي لهاتين الكلمتين من مكانة في المنظومة التربوية التي درجنا على تنشئة أجيالنا بموجبها؟
عيب علينا أن نكذب... وحرام علينا أن نتجنّى... تلك هي منطلقات فلسفة السلوك اللبناني القروي العفوي، التي لا بد من أن نعود إليها كي تستقيم الحياة وتستوي الأمور في بلد بات الفجور فيه مدرسة أخلاقية، أوشك الجميع أن ينتظموا في صفوفها.
باختصار، وكي ننقظ أجيالنا من جرائمنا الأخلاقيَّة قبل السياسيَّة... وكي نستحق الرحمة والإنصاف يوماً من أجيال لم تولد بعد... أجيال نريدها أن تولد حرة كريمة تفخر بتراثها. لا بد من أن نعود الى بساطة القرية وإيمانها وسلوكياتها... بما فيها تلك التي تحمل «النقار» و«العياط» و«المسبات»، وما الى ذلك... فحتى هذه الآفات البيضاء، لا تخرج عن سكة الأخلاق... خلافاً لما هي حال النميمة والشتيمة وتشويه الحقائق أمام الناس بدم بارد.
لبنان... لبناننا خطٌّ قيمي قبل كلّ شيء... إنه خطٌّ قيميٌّ لا يموت...!؟
كلهم زائلون، ولبنان القيم باقٍ... فهل أدرك قادة زمنيون وروحيون، ومعهم نواب الأمة، بمن فيهم أولئك الموجودون بالصدفة... نواب «التحصيل حاصل» و«الدكمة» والأتباع. هل أدرك هؤلاء ثقل المهمة الموكولة إليهم بانتخاب رئيس عتيد للجمهورية اللبنانية يجسد ذلك الخط القيمي... الجمهوريَّة التي لها في التاريخ جذور وسع التاريخ. هل أدرك هؤلاء ما يمكن أن ينتظرهم من أحكام يوم تنجلي الأمور وتتساقط الأقنعة وأوراق التين؟
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة