ألبير خوري *
عدد غير قليل من المراقبين في باريس وعواصم القرار، وخصوصاً بين أولئك الذين سبق أن فاجأتهم وصدمتهم «لا» فرنسية عالية وصريحة خلال الاستفتاء على الدستور الأوروبي، وراعهم موقف الأكثرية الفرنسية المعارض بشدة للحرب على العراق وفق الخطة الأميركية، توقعوا، بدخول نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه، الرئيس الثالث والعشرين للجمهورية الفرنسية والسادس للجمهورية الخامسة التي أرسى دعائمها الجنرال ديغول، تحولاً جذرياً في سياسة فرنسا الخارجية.
ربما تناسى هؤلاء أن دور باريس في العلاقات والســـــياسات الدولية انحسر كثيراً في السنوات الأخيرة أمام الهجوم الكاسح لسياسة المحافظين الجدد في واشنطن، حيث تكاد فرنسا تخسر كل مواقعها على الساحة العالمية، أكان ذلك في إفريـــــــقيا أم في الشرق الأوسط، ولا تبدو أوضـــــــــاعها مريحة في الدول الأوروبية التي يعمل قادتها على دراسة السيناريوهات التي طرحها ساركوزي إبان معركته الانتخابية، وكشف فـــــــــــيها عن طموح جارف لعودة فرنسا إلى الزعامة الأوروبية، وكذلك بالنسبة إلى استعادة دورها المتقدم الذي خسرته أمام الزحف الأميركي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
الأكيد أن سيد الإليزيه الجديد يحمل مثل هذه الطــــــــموحات، وتحدث عنها لمواطنيه في جولاته الانتخــابية. فإذا كانت الوعود الكثيرة و«الخيالية» أحياناً سيدة المواقف في المعارك الانتخابية، فإن الممارسة على الأرض سرعان ما تكشف الهوة الساحقة بين طلبات المواطن وقدرة المسؤول، كما بين طموحات هذا الأخير وضغط المصالح الدولية الكبرى، وخصوصاً الأميركية اليوم، التي سرعان ما تجعله أسير إرادتها وسياساتها.
لقد أعلن ساركوزي صراحة موقفه الرافض لضربة عسكرية لإيران، لكنه مع تشديد الحصار الاقتصادي على كل من طهران والخرطوم، ويرفض رفع الحظر عن بيع الأسلحة للصين، ويطالب بحل أوروبي مشترك ومن خلال الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي للدرع الأميركي المضاد للصواريخ البالستية في أوروبا، إلى غيرها من المواقف التي تبدو أكثر اعتدالاً من تلك التي اتخذها سلفه جاك شيراك.
وتوضيحاً لهذه المفارقة للمزيد من إدراكها، يجب بدايةً الإقرار بأن السياسة في فرنسا كما في غيرها من الدول، وربما أكثر أيضاً، تشكل عالماً حيث الأقوال غير الأفعال. ليس أمام المسؤولين الفرنسيين سوى إسماع مواطنيهم ما يرغبون هؤلاء في سماعه. وهؤلاء يبدون خوفاً شديداً من العولمة والهجرة والإصلاحات الاقتصادية. لقد أدى سقوط الحزب الشيوعي الفرنسي أمام الأحزاب الأخرى إلى استيلاد مئات آلاف المواطنين الحائرين في اختياراتهم، وبالتالي تهميش مواقفهم وإخراجهم من «السوق الانتخابية» حيث بات الأميركي «سي السيد» على الساحة الأوروبية.
والواقع أن خروج هذا الفريق والكثير من حلفائه من المشاركــــــة في القرار الفرنسي، شجع ساركوزي، وغـــــــــيره من المرشحين للرئاسة الفرنسية، على إطــــــــلاق وعودهم البلاغية والخطابية في اتجاه مـــــــناصريهم، حتى إذا انتهت هذه المــــنافسة الــــــــكلامية، يمكن الفائز بقصر الإليزيه أن يحكم خمس سنوات بحرية مطلقة وبأقل قدر من الخوف من منافسيه السياسيين. لقد سار عموم الرؤســـــــــاء المتعاقبين على هذا النهج للنفاذ إلى السياسة الأوروبية والتعاون مع حلف شمال الأطلسي. من جـــهة أخرى، وإذا كان لنا أن نحكم على الأفعال أكثر من الكلمات، فإن النخب الفرنسية تظل مشــــــــدودة إلى التعاون الأوروبي. وشيراك نفسه، الذي غالباً ما اتهم بافتقاره إلى المبادرة، كان من أشد المتحمسين لإقرار دستور الاتحاد الأوروبي، تماماً كما حال ساركوزي.
وكما حال الفرنسيين في مقاربة الاتحاد الأوروبي، كذلك هي حالهم في تعاونهم مع حلف شمال الأطلسي، إذ يكشفون عن حيرة متصاعدة. معارضة الحرب على العراق غالباً ما وصفت بأنها «محاولة فرنسية للوقوف في وجه الولايات المتحدة»، في حين أن توالي الأحداث كشف خطأ هذا التوصيف تحليلاً واستنتاجاً، فمنذ حرب الخليج الأولى عام 1989 وصولاً إلى اليوم، وحيث الصدامات والخلافات السياسية المتصاعدة تهدد وجود لبنان وكيانه، شكلت باريس وواشنطن جبهة واحدة. إلى ذلك، وبدعم أميركي واضح، توجد القوات الفرنسية في كل من لبنان، أفغانستان، البلقان، شاطئ العاج والكونغو. ولا يستثنى في هذا المجال التعاون الفرنسي ــ الأميركي الوثيق استخبارياً وعسكرياً، ما ساهم في تعطيل عدد من العمليات الإرهابية، هنا أو هناك، وحيث إن أياً من المسؤولين الفرنسيين لم يضع هذا التعاون موضع التساؤل والنقد.
والواضح أن القادة الفرنسيين، وخصوصاً في الإليزيه والـ«كي دورسيه»، يجيدون لعبة القفز على الحبال بين وعود كثيرة يغدقون بها على المواطنين، وتكاد تتكرر من مسؤول إلى آخر، وبين القدرة على تنفيذ سياسات خارجية تتعارض مع المصلحة الأميركية. ويبدو أن نيكولا ساركوزي أحد أسياد هذه اللعبة «النطناطة»، وفي مسيرته السياسية القصيرة كشف عن قدرة فائقة على المناورة والمجادلة واستغلال كل الفرص المتاحة لتحقيق انتصار على منافسيه وتقريب المواطنين من دعوته الضبابية والمختارة بدقة متناهية. ففي جولاته الانتخابية لطالما كرر مطالبته بخطة لإصلاح النقد الأوروبي، لكنه انتقد بشدة بعض المشروعات الأوروبية الكبرى التي تحاول النيل من الفرنك الفرنسي، الذي يعتبره أساس استقرار الاقتصاد الأوروبي. ومع ذلك يعترف مستشاروه استحالة السيطرة الفرنسية لوحدها على البنك المركزي الأوروبي، وأيضاً على التشريعات التجارية أو قوانين المنافسة في الاتحاد الأوروبي.
وفي جميع الأحوال، تبقى سياسة فرنسا الخارجية، «عاجزة» عن اتخاذ قرارها، حتى لا نقول «خارجية» عن الفلك الفرنسي كما أراده الجنرال ديغول. وإذا كانت الانتقادات المتصاعدة التي رافقت سياسة الرئيس شيراك حتى خروجه من الإليزيه، قد اتهمته بعجزه عن اتخاذ المبادرة واعتماد خطوات جديدة لكي تستعيد فرنسا دورها الدولي، سياسياً واقتصادياً، فإن ساركوزي سرعان ما سيجد نفسه في الدوامة نفسها، داخلياً وخارجياً، وخصوصاً أنه الرئيس المحافظ، الأكثر يمينية من كل الرؤساء الفرنسيين السابقين، وحيثُ، في جملة وعوده في خطابه الرئاسي الأول «القطيعة مع سياسات الماضي» و«ضرورة التغيير»، يبدو الأكثر ارتباطاً بواشنطن، في سلبياتها وإيجابياتها. وليس في الأفق من تغيير حتى الآن، سوى دخول الإليزيه المزيد من الأنوثة والأناقة والدفء، كما في أيام «ملك الشمس» و«الدولة أنا»!
* كاتب لبناني