عبد الزهرة الركابي *
يبدو من الواضح أن خطة «أمن بغداد» تلوذ الآن بحطامها المتوقع سلفاً، ومن المناسب استذكار قول الشاعر «الى الماء يسعى من يغص بلقمة... إلام يسعى من يغص بماء»، وقد يكون البيت الشعري الآنف خير وصف لحال المقيمين من الإدارة العراقية في المحمية الأميركية في بغداد (المنطقة الخضراء)، بعدما صار مكشوفاً وسافراً الاختراق الأمني في هذه المنطقة التي يلوذ بحمايتها أعضاء الإدارة الحكومية وكل من التحق بالعملية السياسية التي يتبنّاها الاحتلال تحت أي لافتة أو ذريعة، حتى بلغوا مستوى رذيلاً عندما رفضوا جدولة انسحاب الاحتلال.
ومن هذا الواقع، لا أدري كيف يفسر لنا الأميركيون والإدارة العراقية الملحقة بهم ملامح النجاح الذي يتحدثون عنه في إعلاناتهم اليومية بصدد الخطة الأمنية أو ما يسمونها خطة «حفظ القانون»، مع أن القانون في العراق المحتل لا وجود له وبغض النظر عمن يقوم بخرقه واختراقه وجعله في حال من العدم، وبالتالي كيف نصدق هذا «الحفظ» لأمر غير موجود، وخصوصاً أن التداعيات اليومية في المشهد العراقي لانعدام القانون تؤكد ذلك، وعمليات العنف والإجرام التي طالت العراقيين أكدت أن الإرهابيين راحوا يستخدمون تكتيكات جديدة واكبت تنفيذ العملية المذكورة، سواء ما يخص التفجيرات المزدوجة في آن واحد أو استخدام مادة الكلور السامة في هذه التفجيرات بالنسبة إلى النشاط الإرهابي الذي قام بتفجير الجسر التاريخي ونسفه (جسر الصرافية)، وفي مظهر من التحدي قام هذا الإرهاب باختراق المنطقة الخضراء والقيام بعملية انتحارية في مطعم ملحق بمقر مجلس النواب وكانت نتيجتها سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف أعضاء المجلس كتأكيد آخر لإمكانية اختراق المنطقة الخضراء.
وأما بالنسبة إلى النشاط المقاوم للاحتلال فلم تتقلص عملياته وكمائنه التي أمعنت في قتل الأميركيين والبريطانيين، وعلى نحو متزايد في الأيام الأخيرة، مع التنويه بأن الأحداث تتلاحق في اليوم الواحد ولا يمكننا ذكرها في هذه الكتابة.
إن أكبر تأكيد لفشل الخطة الأمنية هو التحدي الذي واجهها ميدانياً حتى وصل امتداده الى قلب «المنطقة الخضراء» التي تعتبر مركز الأمان للإدارة العراقية، لكن هذا المركز تعرض لتفجيرات من داخله كما حدث في محاولة اغتيال نائب رئيس الوزراء سلام الزوبعي، وكما حدث أثناء المؤتمر الصحافي للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيس الوزراء نوري المالكي عندما سقطت قذيفة هاون بالقرب من موقع المؤتمر الذي اهتز بشدة وتحطم زجاج نوافذه بفعل انفجار هذه القذيفة، ومن الحوادث في هذا السياق تفجير مبنى محطة تلفزيون بغداد التابعة للحزب الإسلامي (الإخوان المسلمون)، المشارك في العملية السياسية ويحتل أمينه العام طارق الهاشمي من خلالها منصب نائب رئيس الجمهورية، ويأتي في هذا السياق العمل الإرهابي والإجرامي في كربلاء من خلال تفجير سيارة مفخخة في مرأب للسيارات الذي بلغ عدد ضحاياه أكثر من مئة قتيل وجريح.
وعلى الرغم من «ادعاءات النجاح» تقوم الإدارة العراقية بدحض نفسها بنفسها على نحو يناقض ادعاءاتها هذه، عندما أعلنت ارتفاع عدد القتلى العراقيين في شهر آذار على الرغم من ‏تطبيق الخطة الأمنية، وأشارت الأرقام الى أن العنف أسفر عن سقوط 1861 قتيلاً مدنياً في آذار بزيادة 13 في المئة عن الشهر السابق، وقد بلغ عدد الضحايا من المدنيين في شباط 1645 قتيلاً، وهذه الإحصائية أو الأرقام أوردتها بيانات وزارات الداخلية والدفاع ‏والصحة، مع أن الإحصائيات غير الرسمية تؤكد أن عدد الضحايا أكثر بكثير من ذلك، والجدير ذكره أن تنظيم «القاعدة» الإرهابي كان يقف وراء أغلب التفجيرات والعمليات الانتحارية، حيث وقع أسوأ هجوم من خلال تفجير انتحاري بشاحنتين ملغومتين في بلدة تلعفر في شمال البلاد ‏أسفر عن سقوط 152 قتيلاً ليصبح أكبر هجوم منفرد يوقع قتلى منذ غزو أميركا للعراق عام 2003، ورافقه رد فعل طائفي من أفراد الشرطة في المدينة أسفر عن مصرع ما لا يقل عن 75 عراقياً.
‏وعلى هذا الواقع التأكيدي للفشل العام الذي يكتنف اجراءات الإدارة العراقية التي تسندها بالزخم الأكبر قوات الاحتلال الأميركية على الصعيد الأمني، نرى ان إشكالية الفشل تعم أيضاً صفوف المقاومة العراقية في الشق السنّي بالنسبة إلى الموقف من تنظيم القاعدة الإرهابي، على الرغم من أن الأخير واصل عملياته الإجرامية في المناطق السنية وتحديداً في مدينة الرمادي (محافظة الأنبار) عندما قام في السادس من الشهر الجاري بتفجير شاحنة محملة بمادة الكلور السامة أمام مجمع سكني غربي المدينة، ما أدى الى سقوط أكثر من 27 قتيلاً، حسب بعض المصادر الحكومية، بينما قالت مصادر أميركية إن العدد لا يتجاوز 12 قتيلاً كان أغلبهم من النساء والأطفال، بالإضافة الى العشرات من الجرحى.
والواضح ان مجموعات المقاومة العراقية السنية تواجه معضلة في حسم موقفها من القاعدة، بعدما وضعها هذا التنظيم أمام خيارين أحلاهما مرّ هما: البيعة لما يسمى «دولة العراق الإسلامية» أو المواجهة، وتتمثل هذه المعضلة في عدم الاتفاق على موقف موحد من تنظيم القاعدة الإرهابي، الأمر الذي أعطى انطباعاً سلبياً في المناطق السنية حيال هذه الجماعات المسلحة التي اشتهرت في هذه المناطق بأنها تؤدي دور مقاومة الاحتلال، مثل كتائب ثورة جيش المجاهدين، وجيش الراشدين وكتائب الناصر صلاح الدين، وأنصار السنة التي تباينت مواقفها من التصدي للقاعدة التي استهدفت العشرات من عناصر هذه الجماعات وقادتها.
وقد كان الانشقاق الذي حصل أخيراً في جماعة «كتائب ثورة العشرين» ناتجاً من هذه المعضلة، إذ إن القسم الأكبر في هذه الجماعة الذي يضم أفراداً من «عشيرة زوبع» تبنّى موقفاً حاسماً يتمثل في محاربة هذا التنظيم الإرهابي، بينما قسم آخر فضّل عدم تبنّي هذا الموقف وقرر الانسحاب من الجماعة التي هي في الأصل الجناح العسكري لإحدى المرجعيات السنية واتخاذ اسم آخر هو «حماس العراق»، وقد تكون لمناشدة بعض رجال الدين في هيئة علماء المسلمين الفصائلَ عدم الانجرار الى حرب مع القاعدة في هذه المرحلة، علاقة بما حصل من تباين في المواقف داخل جماعة «كتائب ثورة العشرين» من «القاعدة».
وبخصوص الأمن في المناطق الشيعية، وتحديداً الجنوب والفرات الأوسط والقسم الأكبر من بغداد، ظل الأمن فيها غائباً أو مغيّباً بفعل هيمنة الميليشيات الشيعية عليها، ولا سيما في مدينة الثورة (الصدر) والبصرة والعمارة والديوانية والكوت والحلة وكربلاء، ومن هذا الواقع جاءت الأحداث الأخيرة التي عصفت بمدينة الديوانية التي ظلت خاضعة لميليشيا «جيش المهدي» التي لن تخضع لمشيئة الإدارة العراقية منذ تصادمها مع القوات العراقية في آب من العام الماضي، حيث تقاعست الحكومة عن مواصلة إخضاع هذه الميليشيا التي أرعبت سكان المدينة بتصرفاتها وممارساتها، الأمر الذي أعطى مبرراً للقوات الأميركية في الأيام الأخيرة كي تجتاح المدينة وفق ما سمته عملية «النسر الأسود».
وقد تكون المصادمات التي جرت بين القوات الأميركية والحكومية من جهة والميليشيا المذكورة من جهة أخرى، جاءت بعدما وقعت أحداث دامية في المدينة بين الميليشيات الشيعية التي أسفرت عن سيطرة ميليشيا «جيش المهدي» على المدينة وإنهاء نفوذ ميليشيا «فيلق بدر» التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وعن مقتل أربعة أشخاص من بينهم ممثل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم في المدينة. وكان لتصاعد التوتر بين الأطراف المشاركة في قائمة «الائتلاف الشيعي»، وخصوصاً بين أنصار الصدر وجماعة الحكيم، انعكاس سلبي على الأمن في المدن والمناطق الشيعية وكان من بينها مدينة الديوانية التي لم تنعم بالأمن وتكاد تكون مع مدينة البصرة أكثر المدن الشيعية التي سادتها الفوضى من جراء خضوعها لسيطرة الميليشيات.
وعلى ذكر مدينة الديوانية التي لها تاريخ مشهور في مقاومة الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الفائت، وخصوصاً أنها كانت محل انطلاق الشرارة الأولى لثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، وهي الثورة التي عمت مناطق الجنوب والفرات الأوسط وامتد شرارها الى مناطق أخرى من العراق، وما زال الطاعنون في السن يرددون الأهزوجة الشعبية الخالدة «الطوب أحسن لو مكواري» التي كانت تلهب الحماسة لدى الثوار آنذاك، لكون «المكوار» وهو العصا التي يتكون رأسها من مادة القير، والتي كانت السلاح الذي استخدمه الثوار في مهاجمة أطقم سلاح المدفعية البريطاني (الطوب: المدفع) والقضاء عليهم في إحدى المعارك.
* كاتب عراقي