عبير عثمان *
مرت في الأسبوع الماضي الذكرى التاسعة والخــــــــمسون على نكـــــــبة الشعب الفلسطيني ونكبة العرب في فلسطين، ولكن كيف تمر هذه الذكرى؟ يحدث ذلك بينما شهدت ساحة فلسطين اقتتالاً داخلياً كارثياً إذا لم يتوقف بشكل نهائي، وكارثيته تتجسد من خلال التشويش في اتجاهين.. أولهما الداخل الفلسطيني المنكوب دائماً ولا تنقصه نكبة أخرى من نوع صراع الداخل، إذ المعروف أن هذا النوع من الصراعات حبله طويل ومدمر وخاصة في مجتمعاتنا ذات البنية القبلية بتركيبتها، وكذلك يأخذ خصوصيته الكارثية من كونه بين فصيلين بنهجين مختلفين تماماً، وأخيراً على ما يبدو أخذ شكل الصراع على السلطة و«أي سلطة»، وثانيهما يذهب نحو الخارج، وتحديداً «المعنى» الذي تحمله القضية الفلسطينية كواحدة من أهم القضايا الإنسانية في هذا العصر، وعلى الجميع في الداخل والخارج عدم استسهال هذه المسألة، ففقدان المعنى يمثل خصوصية كارثية بقوة على قضية بحجم قضية فلسطين.
لكن علينا قبل الكثير من الجلد واللوم أن نسأل بوضوح لماذا حدث ما حدث في فلسطين؟؟ وهنا تتعدد الإجابات، وكل يدلي بدلوه عن الجانب المسؤول عما حدث، فهناك من يرى أن حماس أخطأت خطـــــــأ كبيراً بدخولها إلى السلطة باعتبارها فصيلاً مقاوماً لم يحقق التحرير بعد، وهذا يبدو قاعدة، فحركات التحرر لا تحكم قبل أن تحرر، وهناك من يرى أن في فتح مجموعة فاسدة نافذة تريد جرّ الفلسطينيين إلى الاقتتال الداخلي تساوقاً مع مشروع إسرائيلي أميركي لإطاحة حماس وإفشالها وإسقاطها، وأخيراً هناك من يضع المسؤولية على الطرفين لأن الاقتتال ما هو إلا اقتتال على السلطة وتأتي الردود من كل الجهات والجوانب والأطراف واحدة، وهي أنه لا أحد يريد الوصول إلــــــى هنا ولا أحد يريد الاقتتال.
ومن كـــــــثرة ما رُددت عبارات من نوع «ضرورة الوحدة الوطني، وعدم الانجـــــــــــرار إلى الحرب الأهلية التي يريدها الأعـــــــــــــداء، والالتزام بالاتفاقات الموقعة وغـــــــير الموقعة، والدم الفلسطيني خط أحمر، وما يجري هدية مجانية للعدو»، بتنا نخاف أن تــــــــبدو عـــــــــــــبارات مكرورة، والخوف من أن تــــــــــــفرّغ لدرجة تصبح كـــــــــــليشيهات أخرى تضــــــــــــاف إلى ما لا ينقصنا من كمّها المُنهك أصلاً.
لكن في إطار البحث عن أسباب ما يجري في فلسطين بالمنطق وبعيداً من الانحياز لطرف دون آخر أو تحميل جانب دون آخر للمسؤولية، ابحث عن الحصار أولاً، فليس علينا أن نتوقع من شعب يقع تحت الاحتلال والحصار وتُرك لمصيره ولا أحد مستعد للمبادرة إلى السعي لرفع الحصار عنه، أن يحتمل أي ضغط، ولا يمكن أن نتوقع من حكومة محاصرة غير قادرة على التحرك ويُحرم وزراؤها من دخول بلدان الديموقراطيات الغربية ويعاد أحد وزرائها من المطار، أن لا تشعر بالعار لتصرف كهذا، بل حتى رئيس حكومة «الوحدة الوطنية الفلسطينية» لا يستطيع الحراك خارج دائرة معينة (من دون أن يفهم ذلك إطلاقاً كتبرير للانجرار إلى الاقتتال)، ولكن حكومة كهذه بالتأكيد لن تحتمل الكثير من الضغط وخاصة مع الأصابع الخبيثة التي تلعب بالفتنة الداخلية، فالحديث الذي يساق في إطار التسريبات الإعلامية عن تسليح قوة الحرس الرئاسي وتعزيزها في مواجهة حماس ما هو إلا جزء من هذه اللعبة.
والمحصلة تمثلت في انعدام إمكانية الفعل في اتجاه رفع الحصار، وخاصة أن العالم العربي كله لم يستطع أن يخطو خطوة في هذا الاتجاه على رغم الكثير من القرارات والتصريحات و«التضامن» و«ما في حدا.. لا تندهي.. ما في حدا».
من هنا ربما ارتدّت ردود الفعل الفلسطينية في اتجاه الداخل لتتبلور في هذا الاقتتال البغيض.
ثم في إطار البحث عما جرى ابحث عن أميركا أولاً وثانياً وثالثاً وقدر ما استطعت.
ابحث عن إسرائيل.... وابحث عن إنسانية هذا العالم المتـــــــــشدق بحـــــــــقوق الإنسان ويضع إنساننا خارج الســــــــــــــــياق، وابحــــــــــث عمن عاقب شعباً بأكمله لأن خياره لا يــــــــعجبه، وابحث في المشاريع المقدمة للتفجير في كل «داخل» في المـــــــنطقة مع اشتداد مأزق أمـــــــــــيركا التي ستضطر إلى التـــــــــــفاوض وتحــــــــــتاج إلى أوراق ســـــــــاخنة وحرائق، وهذه وجــــــــــهة نظـــــــــر منطقية، فأميــــــــركا ستضطر إلى التفاوض مع سـوريا وإيران، وربـــــــــــــما قريباً جداً، ولا بأس من دخول التفاوض بأوراق مهمة للعب تخفض سقف المفاوضات للأطراف الأخرى أو تحـــــــــسن شروط تفاوض أميركا لكي لا تكون في الموقع الأضعف في التفاوض.
ثم بعد ذلك ابحث في التفاصيل الفلسطينية الداخلية.
في كل الأحوال إذا كان الصراع على السلطة، فسلطة «اللاسلطة» هذه لا تستأهل صراعاً بهذه العبثية.. وعــــــادة ما تكون صراعات الداخل هي الأكثر عـــــــــبثية على الإطلاق لأنها لا تقود في النهاية إلا إلى ضرورة التوافق، فلماذا نضحّي بهذه القرابـــــــــــين الفلسطينية الغالية إذا كانت نهاية الطريق بهذا الوضوح، وخاصة أنه على المقلب الآخر للمشهد تقبع إسرائيل التي باتت تجيد العدّ إلى الألف، وربما أكثر، قبل أن تقدم على أي خطوة حتى على مستوى قطاع غزة، وهذا تحديداً يشكل فرصة من غير المقبول أن تقابل هكذا؟؟
في هذا الوقت الذي نشهد فيه اقتتالاً داخلياً، للأسف، في أيــــــــــام ذكرى النكـــــــبة، ربما علينا أن نقف أمام أربع تجارب تتكامل لتشكل صورة واحدة، تجربة حزب الله في تموز، وتجربة المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال (التي يذكّرنا زئيف شيف بأنـــــــها تـــكمل مشهد النصر فاستنزاف المقاومة الفلسطيـــــــنية للقوات الإسرائيلية على مدار سبع سنوات كان له الأثر الكبير في انتصار حزب الله وخســــــــــارة إسرائيل لقوة الردع)، وتجربة سوريا مع المـــــــــقاومة عندما تكون خياراً حتى من دون طلقة أو حتى عندما تكون الطلقة مؤجلة، وعندما يتخلى عنها العالم القريب والبعيد وتصمد فينتصر خيارها على خيار من أرادوا تصفية دورها، وأخيراً تجربة عزمي بشارة الذي يهز إسرائيل بفــــــــــكرة وبنضال سياسي ملهم من أجل هويــــــــــــة ومــــــعنى وتحرر فعلي، وهذا ما لا يحتمل إسرائــــيلياً، بل وتعجز إسرائيل حتى عن مواجهة الفـــــــــكرة بفكرة فتواجه الفكرة عبر الشابـــــــــاك، فــــــهذه «الإسرائيل» بحكم تركيبتها كل ما هو خارج دائرتها «العبرية ــ اليهودية» في المنطقة هو خطر اســـــتراتيجي، والصورة التي تشــــــــــــــكلها هذه التجارب هي تعــــــــــبير واضــــــــح عن حقيقة إسرائيل، فلماذا علينا أن نضعف الآن.
إننا في ظرف جيد يا جماعة، وكل أشكال مقاوماتنا تثمر ميدانياً وسياسياً بدءاً بصورايخ حزب الله والمقاومة الفلسطينية وانتهاءً بأفكار عزمي بشارة والتجمع الوطني والحركة الوطنية في أراضي 48 ونضالهم السياسي الذي يفضح هشاشة اسرائيل من الداخل. إن هذا يعني أن المقاومة هي الحل بالضرورة.
ختاماً مهما كانت أسباب ومسببات الاقتتال الداخلي فهو خارج السياق... السياق اليوم هو التفكير في استكمال النصر قبل أن تتمكن إسرائيل من تحقيق ما تسميه «استرجاع العزّة» أو يجب أن يكون السياق كذلك. وربما علينا أن نرفع القبعات اليوم للجهاد الإسلامي ولكل من يستمر في الميدان ضمن السياق.
بينما أكتب هذه الكلمات تتوالى الأخبار عن اشتباكات نهر البارد، فأي سياق هذا أيضاً؟ وهل هذا ما ينقص الفلسطينيين في أيام ذكرى النكبة؟
* اعلامية سورية