عبد الحليم فضل الله *
يمر لبنان من جديد بعملية إعادة بناء، إذ إن العدوان الإسرائيلي الأخير كان مدمراً إلى حد تصح معه مقارنة نتائج ثلاثة وثلاثين يوماً من التدمير الأعمى، بما خلفته الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً. لكن المقارنة الأهم هي بين مشروعي الإعمار، المشروع الذي أطلق في بداية التسعينيات وتمحور حول الوسط التجاري وشمل بعض قطاعات البنية التحتيّة، والمشروع الجاري إطلاقه حالياً والهادف على نحو رئيسي إلى إسكان مهجري الحرب.
وتساعد المقارنة المبكرة بين العمليتين على تحديد جملة حقائق ومفارقات، من شأنها أنّ تحسن فهمنا للسياقات والأدوات التي تكفل نجاح العملية الراهنة، وتجنّبنا الوقوع في دوامة الأوهام نفسها التي عطلت قبل عقد ونصف عقد تحقيق الطموحات التي داعبت مخيلة اللبنانيين..
أربع حقائق:
الحقيقة الأولى: انطلق مشروع إعادة البناء الأول بدفع من الحكومة فيما لاقى ممانعة اجتماعية واضحة وواسعة.
كانت السلطة الجديدة منهمكة آنذاك بتغليب وجهة نظرها في المسار الذي على لبنان سلوكه بعد الحرب، فعمدت ــ إذا أحسنا الظن ــ إلى حصر اهتمامها بتوفير شروط المنافسة الإقليمية في بضعة مجالات محظوظة (القطاع العقاري وعلى نحو أقل السياحة والمصارف) في مقابل اهتمام محدود بالجوانب الإنسانية والاجتماعية كإعادة المهجرين، ومكافحة الفقر، والحد من البطالة والهجرة وتنظيم المناطق العشوائيّة... بكلمة أخرى جرى فرض تعريف لأضرار الحرب ورؤية لكيفية معالجتها، يختلفان إلى حد كبير عن تعريف ورؤية «مجتمع المتضررين»، وهو الذي انتابه شعور عميق بأنّ حقوقه وممتلكاته تتعرض للانتهاك وربما للنهب والمصادرة..
على العكس من ذلك يسير المشروع الحالي بدفع من قوى المجتمع، أما السلطة فتشكل عنصر مقاومة وقوة تعطيل. الرؤية هنا اجتماعية بالكامل، والتركيز ينصبّ على الاحتياجات التي يحددها المتضررون أنفسهم، وعلى المطالب المترتبة عليها، والتي تقع بين التعامل الفوري مع النتائج المباشرة للحرب ومعالجة انعكاساتها الاجتماعية والإنسانية البعيدة الأمد. التعطيل يتم من قبل الحكومة، عبر التأثير في انسياب خطوات إعادة البناء والعرقلة المتعمدة لعمل المؤسسات الأهلية، ومحاولة فرض أهداف لا تراعي مصالح الفئات المعنيّة. فمثلاً ترفض الحكومة حتى اليوم الاعتراف بحق المؤسسات الاقتصادية بالتعويض، وتعيد ترتيب الأولويات على نحو مستهجن، فمع أن التمويل بحسب ما تعلنه محدود وأقل من المطلوب، فإنها تنفق بسخاء من مساعدات إعادة الإعمار لتحقيق أهداف لا علاقة لها بخسائر الحرب، وعلى بنود يفترض أن ينفق عليها من الخزانة نفسها (مثلاً: مدارس جديدة، شق طرقات..). بكلمة أخرى تريد السلطة أن تكون العملية الحالية استمراراً لعملية الإعمار السابقة بل نسخة طبق الأصل عنها، فيما يودّ المجتمع أن تمثل نموذجاً يصحح الأخطاء السابقة ويقدم مثالاً على ما يجب أن تكون عليه مشاريع النهوض والبناء.
الحقيقة الثانية: لم تكن عمليات إعادة الإعمار التي جرت في التسعينيات شفافة أو ديموقراطية. فقد انغمست الإدارة الاقتصادية في ذلك الوقت في تحقيق أهداف تتعارض مع مصالح الغالبية أو على الأقل لا تراعي إلاّ مصالح الأقلية. لقد أعلنت الحكومة وأجهزتها المختلفة خلال عقد ونصف عقد من الإعمار أكثر من خمس خطط بمعدل خطة كل ثلاث سنوات، وجميعها خطط خمسية أو عشرية، لكنها لم تلتزم أياً منها، وتكفلت أهدافاً مضمرة لم تخضع البتة لنقاش سياسي أو شعبي. لقد فرضت الأقلية التي أمسكت بالموارد العامة تصوراتها فرضاً على المجتمع الذي كان خارجاً للتو من الحرب، فأرجأت معالجة الجوانب الاجتماعية والبشرية، وقدمت حلولاً تقنية لأزمات أكثر عمقاً. ونظراً إلى ما يتطلبه ذلك من مساومات ومناورات فإن الطابع الرئيسي لما عرف في حينه بمشروع النهوض كان التلازم بين النقص في الديموقراطية والنقص في الشفافية.
إعادة الإعمار التي تقودها حالياً المؤسسات المدنية والأهلية وفي مقدمها مؤسسات المقاومة، تبدي ميلاً إلى أن تسير الأمور على نحو مختلف. فالهدف المركزي بات اليوم تحقيق «الرضا العام»، وهذا يتوقف على مدى تلبية الحاجات التي تفترض الفئات المتضررة أنها ضرورية للتغلب على نتائج العدوان. بالتالي فإن فرص نجاح المشروع الأهلي لإعادة البناء، تزداد كلما ارتفع منسوب الوضوح، واتسع نطاق التشاور، وأتيح للمواطنين الوصول إلى ما يلزم من معلومات تمكّنهم من المتابعة والرقابة.
الحقيقة الثالثة: هناك علاقة بين الفعالية واتحاد المصالح بين المشرفين على مشروع إعادة الإعمار والمعنيين بنتائجه.
في التسعينيات جرت هذه العملية في إطار وصاية شرائح اجتماعية على أخرى. هناك من كان دوره تحديد ما هو صالح وما هو غير صالح للآخرين، وما الذي ينبغي رفعه أو خفضه في سلم الأولويات.. فبالنسبة إلى جمهور إعادة الإعمار، كان المشروع «خارجياً»، أي إن مساراته مفروضة فرضاً من قبل من لا يمتّون إلى مصالحه بصلة، وبالنسبة إلى القائمين على العملية كان ذلك الجمهور مجرد هدف جانبي وممر إلزامي للوصول إلى أهداف أخرى.
على العكس من ذلك يندرج مشروع إعادة الإعمار الراهن في إطار علاقة تفاعلية وذات طرفين بين المشرفين وأصحاب الحقوق، بل إنّ التداخل كثيف إلى حد يصعب معه الحديث عن تقاسم أدوار أو تقسيم عمل، فالجهة التي تتولى إدارة العملية هي نفسها الجهة ذات المصلحة في إتمامها على أحسن وجه.
نحن إذاً أمام نموذجين، الأول يكتفي بالفعالية المؤسساتية والثاني يضيف إليها الفعاليّة الاجتماعية، وهذا يفسر التفاؤل في أن تحقق العملية الحالية أغراضها، على اعتبار أن التعثر المؤسساتي سيقابله تصحيح تلقائي. وقد ظهرت الفعالية الاجتماعية حتى اليوم في إتمام المراحل الأولى من إعادة الإعمار بأقصى سرعة ممكنة وبانتظام لافت.
وهنا نصل إلى الحقيقة الرابعة وهي أهمية التعاون والثقة. إذ يسجل لمشروع إعادة الإعمار الحالي نجاحه في تعبئة رأسمال اجتماعي من شأنه المساعدة على تخطي الصعوبات، والصعود على سلم متين من التضامن الشامل. الرأسمال الاجتماعي يعني وجود مخزون كاف من الحوافز التي تجعل من كل وحدة اجتماعية، فرداً أو مؤسسةً، شريكاً محتملاً في إتمام العملية وتطويرها وتحمّل أعبائها. هذا الدخول الجماهيري إلى نطاق العمل لا يقلّل التكاليف فحسب بل يخلق قيم إعادة إعمار تسمح بالتغلب على الممانعة التقليدية التي تواجه برامج التطوير والتنمية، أو التي تعرقل إمكانية قيام تعاون بدرجة كافية. في التسعينيات بُدِّد الرأسمال الاجتماعي عبر إحلال الرأسمال المادي محله، ووُضع الإلزام (القانوني والإداري) في مكان أنماط التعاون الاجتماعي التلقائي، وهذا ما أدى، من بين أسباب أخرى معروفة، إلى اعتماد أطر تقوم على الإكراه والقهر (الشركة العقارية مثلاً) بدعوى أنها الشكل الوحيد المتاح لتنظيم المجال المشترك. بمعنى آخر جرى إحلال القوانين والهياكل المؤسسية الإجبارية، محل القيم التي تسمح بقيام تعاون طوعي يستند إلى الثقة ولا يتطلب تدخلاً شاملاً من قبل طرف ثالث هو الدولة.
مفارقات:
إلى جانب الحقائق المذكورة هناك أوهام ومفارقات طبعت مشروع التسعينيات ويُراد إلصاقها بالمشروع الحالي.
المفارقة الأولى: السلطة مسؤولة عن إعادة الإعمار بحدود ما تتلقاه من مساعدات.
من الطبيعي أن تحظى البرامج العامة بتمويل كاف، لكن من غير المقبول ربط الحاجات العامة بمصادر التمويل وشروطه، فتغدو الجهات الممولة صاحبة اليد العليا في وضع السياسات.
في مشروع التسعينيات ربطت خطط الإعمار تدريجاً ببرامج التمويل الذي تحول مع نضوب الموارد المحلية إلى تمويل خارجي، فبات الممولون يتمتعون بوصاية ضمنية على مسار العملية وأولوياتها، وقد برز ذلك جلياً على سبيل المثال في برنامج إنماء المناطق المحررة، إذ تركزت الأعمال في المجالات التي توفر لها تمويل خارجي بينما أُهملت الجوانب الأخرى بما فيها التعويض على المتضررين والنهوض بالقطاعات الاقتصادية ومعالجة الأوضاع الاجتماعية..
في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس فؤاد السنيورة (في 7/5/2007) لإعلان إنجازات حكومته في مجال التعويض على متضرري الحرب، جرى قياس تقدم العمل كنسبة من مجموع ما تلقته الحكومة من مساعدات حتى تاريخه، بينما كان يجب مقارنة هذا التقدم بالأهداف المفروض تحقيقها. وهذا يدل على وجود نية مواصلة النهج الإعماري السابق الذي يربط بين الأولويات وحجم التمويل الخارجي المتاح.
المفارقة الثانية: السلطة مسؤولة عن إعادة الإعمار بقدر مسؤوليتها عن الحرب.
إن تحميل المقاومة مسؤولية تفجير الحرب (مع ما في ذلك من نقص في الحس الوطني وتجاهل للوقائع) لا يعفي الدولة من واجباتها أو يقلّل من مسؤوليتها تجاه ما حصل. بعد الحرب قام الخطاب الرسمي على أمرين: الأول هو الربط ــ غير المعلن بطبيعة الحال ــ بين إطلاق ورشة إعادة البناء وحسم قضايا سياسية أساسيّة من بينها ما يدعى «قرار الحرب والسلم»، والثاني: تحويل مشروع إعادة الإعمار من برنامج استثنائي ملحّ وعاجل إلى برنامج عادي يخضع للآليات الإدارية التقليدية ويرتبط تقدم العمل فيه بتقدم العمل في الملفات العالقة منذ نهاية الحرب الأهليّة، ومن شأن ذلك ليس فقط إبطاء العملية نفسها بل إخضاعها لقاعدة التمويل التعويضي المتكافئ بين المناطق والطوائف التي أرهقت الخزانة العامة خلال سنوات الفترة الماضية.
المفارقة الثالثة: السلطة مسؤولة تجاه أولئك الذين يمثلون قاعدتها الاجتماعية أكثر من غيرهم.
في العقد الماضي كانت قاعدة السلطة واسعة نسبياً، ما جعل نظام التوزيع الريعي يعمل بصورة مقبولة، ويراد اليوم بمناسبة إعادة الإعمار الحالية تكرار المعادلة نفسها، أي حصر المنافع بالفئات التي تستند إليها قوى السلطة. لكن مع تقلص تمثيل هذه السلطة إلى حدود لم يعرفها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، وفي ظل الخسائر المترتبة على العدوان، فإن العودة إلى القواعد السابقة ستكون لها عواقب وخيمة، وستؤدي إلى تبديد حقوق المتضررين وصرف عملية إعادة الإعمار عن تحقيق الحد الأدنى من أهدافها.
المفارقة الرابعة: يتناقض دور الأجهزة الحكومية والمؤسسات العامة مع دور المؤسسات الأهلية والمدنية.
منذ نهاية الحرب أنجزت مؤسسات حزب الله خطة هائلة للإغاثة والإيواء والترميم، وقد أسهم ذلك في تخفيف الأثمان الاجتماعية المباشرة للحرب. وبدلاً من أن تعمل الحكومة على اعتبار ذلك مثالاً للشراكة بين القطاعين الرسمي والأهلي يمكن تطويره وتشجيعه، والاستعانة به في توطيد الصلات مع مجتمع المتضررين، إذا بها تدخل في صدام غير مشروع مع هذه المؤسسات، مع العلم بأن الأصل في إعادة الإعمار هو الشراكة الناجحة والفعالة بين الأطراف المعنية بهذه العمليّة، في ظل تدخل حكومي بنّاء.
* كاتب لبناني