فاروق الساحلي *
يعتقد الكثير من اللبنانيين أن إرسال المحكمة الى مجلس الأمن لإقرارها هو هروب من مواجهة أسبابها ونتائجها، وفي الأساس تنصّل من المسؤولية السياسية والأخلاقية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ويتساءل اللبنانيون اليوم، ببساطة، لكن بكثير من الذكاء: هل كان الذهاب بالمحكمة الى مجلس الأمن، قراراً تواطأت فيه المعارضة مع الموالاة بعدما أصبحت هذه القضية عبئاً على أطراف الأزمة وناؤوا تحت أثقالها التي تتراكم منذ 14 شباط عام 2005؟
ويمكن الاستطــــــــــراد أيضاً: وماذا في شأن المسائل الخلافية الأخرى مثل الاستحقاق الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية وسلاح حزب الله والعلاقات مع سوريا وغيرها الكثير من العناوين التي تشكل مــــــــواد ملتهبة ومتفجّرة تهدد هي أيضاً لبنان واستقراره؟ وهل يُقذف بها هي الأخرى الى الخارج لتجد حلولها هناك من دون أن تثقل على الطبقة السياسية وقياداتها أو تعوق من حركتهم في مساعي الوفاق وبناء الدولة القوية وإنقاذ الاقتصاد وإصلاح القضاء وإقرار قانون عادل للانتخابات النيابية، وحماية لبنان من الاعتداءات الصهيونية الى غير ذلك من العناوين التي يُجمع كل اللبنانيين بمن فيهم أطراف الصراع على أن التوافق حولها صعب بل هو أقرب الى أن يكون مستحيلاً.
لقد ذهبوا بالمحكمة الى مجلس الأمن، وما برح الجميع يزعم أنه لا خلاف عليها، بدليل الاتفاق عليها في جلسة الحوار الأولى وكبند أولي فيه خلال عشر دقائق.
والكل يعرف أن مجلس الأمن ليس جمعية خيرية ولا طرفاً محايداً، والأهم من ذلك لن يكون حريصاً على دم الرئيس الحريري أكثر من أي لبناني حتى وإن كان مناوئاً أو معترضاً على بعض سياساته.
وسواء أصبحت المحكمة وراءنا أو أمامنا فإن الطريق الذي تسلكه، أو وُضعت فيه قسراً، لن تُخرج لبنان من المأزق ولن تعفي قياداته السياسية من المسؤولية بعدما لجأت منذ بداية الأزمة الى أساليب غير مشروعة في إدارتها، فكان الضرب تحت الحزام وكأن المطلوب أن لا يعود أحد الى خطوطه الخلفية، وبدا أنّ هذا الجميع يستعجل الوصول الى الحدود القصوى في الترهيب والتخوين والتشكيك ما يقطع طريق العودة الى تسويات اعتاد اللبنانيون القبول بها على مضض، باعتبار ان لبنان قام بالأساس على تسوية، إن سقطت أسقطته معها وإن انتعشت وعاشت بقي كياناً موجوداً وشعباً حيوياً ونشيطاً، لكنه يفتقر دائماً الى القيادات المسؤولة والمخلصة.
لقد عاش اللبنانيــــون، طوال العقود الماضية التي تلت الاستقلال وقيام الدولة، في وطـــــــــنهم أسرى قناعات غير قابلة للنقض تقوم عـــــــــــلى أن التسوية الأم عام 1943 أنتجتها طبقة ســـــــــياسية لتحكم لبـــــــــــنان. وهذه الطبقة تفتقر الى العدالة والتنوّر ولا تتصل بالمستقبل لأنها عاجزة عن التواصل معه، بــــــــــل هي اعتبرت نفسها الأب الشرعي والوحيد للبنان ــ التسوية ــ وبالتالي وحدها مؤتمنة عليه دون شعبه ومكوناته السياسية والاجتماعية، وحتى الطائفية.
ووفق هذه الرؤية مارست سياسة استئثار شامل تارة باسم الشرعية الاجتماعية التي خرجت منها وتارة باسم الطائفة التي أوكلتها حماية حصصها، وثالثة باسم الحزب أو التيار السياسي الذي تنتمي إليه، وهكذا أصبح لبنان واللبنانيون ضحية دائمة لاستئثار يُمارس باسمهم ضدهم وعليهم.
لهذا، ليس من أحد يمكنه الادعاء بأن الخيارات السياســــــــــية التي تــــــــلجأ إليها هذه الطبقة هي خيارات وطنــــــــــــية وديمـــــــــوقراطية وأن رغباتها هي رغـــــــــبات اللبنانيين نفسها وما يتوقون إليه.
وليس لأحد الحق في أن يقلل من براعة هذه الطبقة وقياداتها في التكيف مع الأحداث والتعامل معها حسب ما تقتضيه مصالحها، لذا هي في أوقات معينة وأمام أحداث ما هوجاء شاردة يميناً ويساراً، تضرب بقسوة وفي وقت آخر وأمام أحداث أخرى هادئة وعاقلة توزع بسمات الرضى على البعيد قبل القريب.
في حالتها الأولى يتساءل المرء من أي غابة خرج هؤلاء، وهل هم ورثة نيرون وهولاكو وتيمورلنك، وفي حالتهم الثانية يحسبهم تلامذة نجباء لأفلاطون وغاندي ومؤسسة نوبل للسلام.
أمام واقع كهذا، وفي مواجهة التداعيات المقبلة، لا بد للمعارضة من أن تخرج من عملية التواطؤ هذه بإعلان إنهاء الاعتصام الذي دعت إليه قبل أشهر وما زال مستمراً، لأنه وصل الى النقطة التي يستحيل أن يتقدم منها، وبات حالة نافرة وبلا مردود على الصعيدين الوطني والتعبوي، وهو قام أصلاً من أجل المشاركة والثلث الضامن أو المعطل. أما اليوم فإن الاستمرار فيه بغير هدف سيكون غطاء لمشروع صراع جديد قد تكون مداخله معروفة لكن مخارجه غامضة ومجهولة.
لقد جـــــــاء الاعتصام بعد حرب تموز عام 2005، وبعد فشل مرسوم بعناية لطاولة الـــــــــتشاور، ما دفع بعض اللبنانيين الى الاعتقاد بأنه إشارة لهجوم كاسح يطيح الحكومة والمحكمة ويؤسس لمرتـــــــكزات جديدة أو يعيد بعضها القديم، وهو في هذه الوجهة غير مشروع لأن شروط نجاحه غير متوافرة وثمة نقص فادح فيها هــــو الإجماع اللبناني، إذ لا يمكن فئة أو طائفة أن تستثمر انتصاراً كلف لبنان وشعبه الكثير من الدماء والدمار، كما لا يمكن فئة أو طائفة أن تدفع ثمنه وحدها أو تواجه نتائجه إلا إذا اعتبرت نفسها بديلاً من الدولة تنتزع منها مهماتها في إعادة البناء والتعويض، وبناء الجيش القوي إلا إذا كانت «الاستراتيجية الخفية» تقتضي حل الجيوش العربية، وإزالة الأنظمة القائمة في الوطن العربي وربما في العالم الإسلامي لتستبدل ذلك كله بتجربة حزب الله ما دام «النصر الإلهي» مكفولاً له.
قد لا نكون بالضرورة مع هذا الرأي، لكن يجب القول بأن الاعتصام قد اعتراه الجمود والقصور وأصبح عاجزاً عن تحقيق الأهداف التي بدأ من أجلها. ولا بد لدعاته من إعادة النظر فيه لكونه لم يحقق نتائج ملموسة فالحكومة ما زالت قائمة وموجودة وقد تستقيل تحت وطأة تسوية معينة تمهّد للاستحقاق الرئاسي، لا بسبب الاعتصام وفاعليته، والمحكمة أصبحت في مجلس الأمن.
وثمة من يعتقد بأن الاعتصام في ظروفه وملابساته يشكل معبراً للانفلات يستحيل معه الحديث عن توافق وطني إلا إذا كان القصد من هذا التوافق التعامل مع عناوين الأزمات الأخرى بنقلها الى مجلس الأمن، فهل تقود حسابات المعارضة والموالاة الى الانتقال بلبنان كله الى مجلس الأمن؟
* كاتب لبناني