ليلى نقولا الرحباني *
على الرغم من أن مفهوم الإرهاب هو مفهوم قديم تم تجديده على الساحة الدولية والمحلية، فإن ما نسمعه يومياً في وسائل الإعلام من عبارات الإرهاب، التطرف، الأصولية، الاغتيالات، الأحزمة الناسفة، والقيام بالعمليات الانتحارية، ونشر الذعر والخوف، اختطاف الأفراد، حجز الرهائن، تدمير المرافق الحيوية في الدولة، نسف المساكن وإشعال الحرائق... تُظهر أننا نعيش في أكثر فترات تاريخ الجنس البشري إغراقاً في العنف والإرهاب.
إن التاريخ الفعلي لعبارة «الإرهاب» بمفهومها السياسي لا يتعدى نهاية القرن الثامن عشر، حيث عُرفت أولاً إبان الثورة الفرنسية، وبالضبط ابتداء من عام 1794 حيث بدأت تستعمل في سياق سياسي بحت. وعلى الرغم من أن الفترة المعروفة باسم «حكم الإرهاب» في فرنسا تتحدد تاريخياً بين العاشر من آب عام 1792 وهو تاريخ الدعوة الى مؤتمر وطني، و27 تموز 1794 تاريخ سقوط روبسبيير، فإن ممارسة الإرهاب بصورة قانونية ومؤسسية، لم تحصل بشكل علني وواضح إلا ابتداء من 10 آذار 1973. وقد اكتسبت هذه العبارة مضموناً فكرياً سياسياً تاريخياً على عدة مراحل، ففي المرحلة الأولى من تطورها لم تكن هذه العبارة تدل على أي معنى سياسي بل كانت تتضمن معنى سيكولوجياً بحتاً، ثم ما لبثت أن بدأت تأخذ بعض الملامح السياسية في استعمالها ولو بشكل خجول، أما المرحلة الثالثة التي جاءت نتيجة تطور تاريخي في الفكر والاجتماع والسياسة، فبرز فيها المعنى السياسي بكل وضوح وجلية.
إذا أضفنا الى المدلول السيكولوجي الذي كانت تتضمنه منذ نشأتها، أتت هذه العبارة في المرحلة الأولى تجسيداً لردة فعل فورية قام بها الشعب واستخدمها كأداة دفاع وطني وثوري ضد العصاة والخونة وأعداء الثورة، وقد سارعت السلطة القائمة آنذاك في فرنسا الى تغطيتها وتبريرها وإبراز عدالتها بغية تحقيق هدف سياسي واضح المعالم. أما في المرحلة الثانية فقد أصبحت نظام حكم تدعمه المؤسسات الرسمية وأجهزتها السياسية والعسكرية، حتى أصبح من المستحيل أن نذكر الإيديولوجيا الجاكوبية من دون أن نتكلم عن الإرهاب ودوره في تسيير عجلة الحكم في السنتين الأوليين من عهد الجمهورية الفرنسية الأولى.
أما اليوم فتطلق صفة الإرهاب على كثير من الجرائم الواقعة ضمن إطار الحق العام وعلى أعمال العنف المختلفة التي يقوم بها الأفراد كمحاولات الاغتيال التي يتعرض لها أشخاص لهم صفة سياسية أو معنوية أو أناس عاديون أبرياء، وعلى أعمال التخريب التي تتعرض لها الممتلكات الخاصة أو العامة. وتطلق أيضاً كلمة «إرهابي» أو «إرهابيون» على الأشخاص والمجموعات السياسية والأقليات الإتنية التي تضرب من تعتبره عدواً لها، بشكل دموي رهيب. وعلى الرغم من عدم وجود توافق عالمي حول تعريف الإرهاب، إلا أن المعاهدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب حددته بـ «كل فعل من شأنه التسبب بالموت أو بأي ضرر جسدي خطير يطال المدنيين أو أي أشخاص آخرين لا يشاركون مباشرة في النزاع في حال المواجهة المسلحة وذلك عندما يهدف هذا الفعل الى ترويع السكان أو إرغام الحكومات أو المنظمات الدولية على القيام أو الامتناع عن القيام بأعمال معينة». وهكذا يمكن القول إن هذه الصيغة تمثل أول مشروع لتعريف الإرهاب.
أما في الأسباب المحفّزة للتطرف والمؤدي إلى استعمال الإرهاب وسيلة سياسية، فيعتبر الباحثون أن الإرهاب ظاهرة مركّبة ومعقدة وأسبابها كثيرة ومتداخلة. ومنهم من يحاول ربط هذه الظاهرة بغياب «الديموقراطية» في المجتمعات العربية والإسلامية وانتشار الفقر وانعدام فرص العمل، ويحصر المشكلة بالأوضاع الداخلية في الدول العربية والإسلامية، معتبراً إياها بحكم ظروفها وأوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية بيئة مؤاتية لنمو الإرهاب. أصحاب هذا الرأي شددوا على ربط هذه الظاهرة بمسارات التحول الاجتماعي ومؤشرات «ترييف» المدن العربية وبالقنبلة الديموغرافية الإسلامية المتفلّتة من كل تحكم وسيطرة.... وهي كلها عوامل قد تفيد في تلمّس بعض أسباب ظاهرة التطرف، لكنها لا تكفي لتفهّم خصوصية ظاهرة التطرف والإرهاب الموسوم بالإسلامي، وخاصة بعدما تبين أن أفراد هذه الجماعات المتطرفة وخاصة أن أولئك المتهمين بتفجيرات 11 أيلول هم أفراد لا ينتمون الى المجتمعات العربية المأزومة اقتصادياً ومجتمعياً، بل هم أفراد متحدرون من أوساط عائلية ميسورة، ومعظمهم من المملكة العربية السعودية.
والبعض الآخر يعزو أسباب هذه الظاهرة إلى سياسة «الكيل بمكيالين» التي يعتمدها الغرب تجاه القضايا العربية، وانحيازه الفاضح لإسرائيل، فيتبنّى مقولة «اضطرار» المجموعات الإرهابية لاستخدام أسلوب العنف المسلّح ضدّ المدنيين والأبرياء. وهم بهذا المسعى يحاولون تغليف الأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يعانيها الإرهابيون بأثواب من مبادئ قومية وعربية ودحر المحتل الغاصب...
أما الرأي الثالث والأهم، فيُرجع نمو ظاهرة التطرف والإرهاب الأصولي الى أزمة المشروع الإصلاحي العربي وانهيار الأحلام بالوحدة العربية ومشاريع الإصلاح التي امتطاها كثير من الحكام العرب بهدف الوصول الى السلطة. وهكذا لم يجد المواطن العربي ملاذاً يلجأ إليه بعد انهيار الآمال سوى «الإرهاب» يتوسّله أسلوباً للتغيير ولو باسم القيم الدينية. لقد وجد الإرهابيون في الدين الإسلامي عاملاً ثقافياً يمكن استعماله في تحقيق أهداف سياسية، فأدخلوا في عقول العامة مفاهيم تتبنّى رؤية إيديولوجية للعالم تتسم بالانغلاق الفكري والجمود النفسي منطلقين من اقتناع عميق بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتكفير الأديان والمذاهب الأخرى، وعدم القبول أو التسامح مع أي رأي آخر مختلف، ورفض الحوار رفضاً مطلقاً، والسعي الى تغيير الواقع بالقوة المسلحة، زاعمين أن لهم أهدافاً ترتبط بتحقيق مثل عليا صاغتها أفكار أمراء الجماعات الإرهابية، وهي تطبيق «حاكمية الله»، ونفي حاكمية البشر وتأسيس الدولة الدينية التي تقوم على أساس الفتوى، وهدم الدولة المدنية التي تقوم على أساس التشريع، وهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف يقتلون من المسلمين ما يفوق عدده من الأديان الأخرى. إن ظاهرة الإرهاب الأصولي تتفشى كالمرض الخبيث في مجتمعاتنا العربية، وتنخر فيها كالسوسة التي تجوّف المجتمع من جميع مقومات الصمود والتقدم والرقي والحضارة. فباسم الدين يقومون بالسلب والنهب والسطو على المصارف وقتل الأبرياء، ويكفّرون كل من لا يلتزم كلامهم وطروحاتهم الدينية التكفيرية التي يرفضها الشرع الإسلامي والمنطق السليم، وتنبذها كل الأديان السماوية.
إن ما يحصل في طرابلس ظاهرة ليست بجديدة، لقد استمر التغاضي عنها لا بل تقويتها من قبل السلطات المتعاقبة في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى باتت وباءً منتشراً ومرضاً عضالاً لا ينفع معه سوى الاستئصال المكلف.
* باحثة لبنانية