جعفر فضل الله *
بعد سبع سنوات على تحقيق النصر التاريخي في عام 2000، وتحرير معظم الجنوب اللبناني من نير العدوّ الصهيوني، حدثت تطوّرات وأحداث متعدّدة شكّلت منعطفات كبيرة في تاريخ لبنان، وأسّست لانقسامات حادّة في المُستويين السياسي والاجتماعي، غذّاها ــ ربّما ــ انعدام التوازن بين التمثيل السياسي والمُستوى الاجتماعي.
وقد كان آخر تلك التطوّرات والمنعطفات، الحرب التي شنّها العدوّ على لبنان، في تمّوز 2006، مستهدفةً، بواقعها على الأقل، تطبيق الشق المتعلّق بنزع سلاح المقاومة، أعني حزب الله، من القرار الدولي رقم 1559، علماً بأنه قد قيل بأنّ هذه الحرب كانت تفويضاً دوليّاً لهذا العدوّ بتطبيق القرار المذكور. هذه الحرب، التي هُزم فيها جيش العدوّ، باعترافه، مع أنّه لم تكن ثمّة حاجة إلى اعتراف أحد بها، لأنّ الوجدان خير دليل.
بعد سبع سنواتٍ على التحرير، وما يقرب من عامٍ على حرب 2006، تثور أمام المراقب عدّة نقاط ودلالات:
أوّلاً: إنّ الأمّة تمتلك واقعيّة صنع النصر إذا ما تحقّقت لديها الإرادة والإعداد والتخطيط، وتملك واقعيّة تكرار النصر عندما لا تُصيب نفسها بالغرور والزهو الفارغ، بل تعي بعمقٍ طبيعة العدوّ وحجم التحدّيات التي يُمكن أن ينفتح عليها المستقبل، فتعتبر أيّ نصرٍ مرحلةً تتطلّب المزيد من إخلاص النيّة والعمل والتخطيط، وليست نهاية المطاف.
ثانياً: إنّ تكاليف النصر ــ سياسيّاً ــ هي أعلى من تكاليف الهزيمة، في مجتمعٍ، أو مجتمعاتٍ، أو ــ بالأحرى ــ أنظمةٍ تخافُ أن تُضبط متلبّسة بلباس القوّة، فتزدادُ ــ كلّما علت بيارق النصر ــ تقديماً للتنازلات، ورفعاً للأعلام البيضاء. فعلى انتصار عام 2000 ردّ العرب بتقديم مبادرة سلامٍ لا تُساوي ــ بنظر من تُقدّم إليه ــ ثمن الحبر الذي كُتبت به، وكان الردّ الإسرائيليّ عليها مزيداً من الجرائم في جنين وغيرها. وعلى انتصار عام 2006 ردّ العرب تعديلاً لنهائيّة المبادرة العربيّة للسلام، لتُعتبر ــ ضمناً وواقعاً ــ مبادرةً للتفاوُض، في أقصى وأقسى درجات السقوط والانحدار السياسي والعسكري والأمني لدى الصهاينة المغتصبين.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّه يصبح من البداهة أن تصدر الدعوات المتنوّعة لتحصين الداخل اللبناني، سياسيّاً واجتماعيّاً وأمنيّاً، حتى لا تتحرّك الضغوط والرياح الدوليّة المستقبليّة ليدفع لبنان ثمن إيقاع الهزيمة بمشاريع الهيمنة والسيطرة، والتي منها مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي أُريد للحرب الأخيرة أن تكون بوّابة له في المنطقة بأسرها.
ثالثاً: إنّ تكرّر العدوان الصهيوني على لبنان، واستهداف مقاومته بالخصوص، مع ما رافقه من تغطية دوليّة، قريبة وبعيدة، يدلّ على أنّ خلع ثوب الحذر، أو التخلّي عن أوراق القوّة، هو أشدّ خطورةً في حالة تحقيق النصر من حالات الهزيمة، لأنّ خصوصيّة عدوّنا أنّ أساس قيام كيانه واستمراره مرهونٌ باستمرار الهيبة العسكريّة وقوّة الردع، بحيث يكون من البديهي افتراض لجوء هذا العدوّ إلى التعويض عن الهيبة حين تسنح له الفُرص، وتسمح له الظروف. وبالتالي، يُعتبر من السذاجة الحديث عن انتهاء دور أيّ مقاومة من دون تحصين انتصاراتها من خلال بناءٍ قويّ يستطيع أن ينتقل بالمقاومة إلى مستوىً آخر، يجري حاليّاً الحديث عن أنّه مستوى بناء الدولة، فما لم يكتمل بناؤها يُعتبر إلغاء المقاومة ــ تحت أيّ اعتبار ــ عملاً أشبه بالسفاهة منه بالعقلانية أو الموضوعيّة أو ما إلى ذلك من عناوين.
على أنّ إثارة هذه المسألة ينبغي أن تضع علامات استفهام كبيرة، وبعدّة ألوان، على مـــــــواقف كلّ الذين يدعون ــ تحت أيّ اعتبار ــ إلى تمزيق أوراق القوّة، والركون إلى وعود سياسيّة، أو توازنات دوليّة خارجيّة ترتكز ــ بطبيعة الحال ــ إلى ظرفيّة حركة المصالح التي تحكم السياسات الدوليّة، فضلاً عن التواطؤ الذي بات يتحرّك دوليّاً بشكل سافر، معلناً بوضوح عمله الدؤوب، وضغطه الدائم، على كلّ حركات التحرّر والممانعة في العالم العربي والإسلامي، وقد كانت تغطـــــــية العدوان في تمّوز 2006 نموذجاً أعلى له.
لسنا هنا في معرض تخوين أحد، ولكن لا يجوز أيضاً أن يُعتبر الناس ملائكةً أو أنبياء، وبالتالي ينبغي أن يتمّ الإقلاع عن استخدام التخوين كعمل إجراميّ يخاف أحدُنا أن يُضبط بارتكابه، وليس من السليم أن يُفرض علينا، نحن اللبنانيّين، أن نتقبّل ببساطة سرعة التنقّل بين المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أو إعلاناً كلاميّاً أن تاريخاً إجراميّاً ما قد انطوى مع الزمن من دون أن يكون في حركة الحاضر ما يدلّ على التوبة، أو أنّ الدول التي أعلنت عداوتها لنا، وتُعلنها كلّ يوم، تعمل من أجلنا.. إلى ما هناك من أمثلةٍ على مستوى الضحالة الثقافيّة التي يُراد فرضها على تفكيرنا، على طريقة ما قصّه القُرآن عن فرعون، في قوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطَاعُوهُ).
رابعاً: بات من الواضح تماماً أنّ ثمّة منطقيْن يحكمان الخطاب والحـــــــــركة السياسيّين في لبـــــنان: المنطق الذي ينظّر لضعف لبنان، بحـــجّة أنّ «قوّته في ضعفه»، وفي مقابله منطقٌ يملك الثقة بقُـــــــــدرة لبنان على إنتاج القوّة، ويعمل على بنائها من خلال الواقعيّة السياسيّة أيضاً. وبات جليّاً أنّ المنطق الأوّل يؤدّي إلى فقدان الهويّة الذاتيّة، ليُصبح لبنان، في كلّ حراكه، صدىً لحركة المصالح الدوليّة المتضاربة والمتناقضة، وأنّه ليس في إمكان هذا المنطق أن يبني دولةً، أو أن يؤسّس كياناً قابلاً للثبات أمام حركة العواصف والاهتزازات الحاصلة على المسرح الدولي والإقليمي.
إنّ كلّ ما تقدّم، ينبغي أن يؤسّس لدى المجتمع اللبناني، والمجتمع العربي والإسلامي أيضاً، قــــــاعدةً للوعي السياسي، لتنتقل مجتمعاتنا من مستوى الاستهلاك السياسي، ومستوى الشعارات والكلمات البرّاقة، إلى مستوى نقد المضمون والمواقف، وأن تنتقل من حالة فقدان الذاكرة السياسية إلى حالة اليقظة والوعي، إذ إنّ أمّةً بلا ذاكرة هي أمّة تُستلب في حاضرها ومستقبلها من حيثُ لا تشعر.
* رجل دين لبناني