غسان طه *
يعبّر المشهد اللبناني بانقساماته الراهنة، عن سيرورة تواصلية رافقت نشوء الكيان والصيغة، وامتدت في سياق غير متقطع، عبوراً نحو صيغة توافقية جسدها دستور الطائف في بدايات العقد التاسع من القرن المنصرم، ليلقي بظلاله على راهنية التصدع في جنبات المجتمع الأهلي.
على أنه جدير بالقول إن تلك السيرورة لم تكن لتعبّر عن نفسها في مسار تطوري بقدر ما كانت تدور في حلقة دائرية تنتهي حركتها من حيث بدأت. فثمة نقطة انطلاق فأزمة تحمل معها إرهاصاتها وحال من التسعّر والاتساع ثم تسوية قلقة فعود على بدء.
لكل مرحلة من الحلقة الدائرية رجالاتها ومفاهيمها وخطاب سياسي، حفلت مفرداته بما يجانس واقع الحال. لكنها مع تنوع الأزمات وتعددها شكلت موضوعة الهوية الوطنية والقومية للبنان، أهم عوامل التصدع. فمن ناحية الهوية الوطنية برزت الطائفية السياسية كإحدى الإشكاليات المطروحة من قوى أهلية ومدنية، على أنها من أهم معوقات المواطنية التي يتساوى فيها الأفراد في الحقوق والواجبات. غير أنه في خضم الانقسامات الراهنة، غابت تلك الإشكالية أو جمدت حتى من قبل أشد معارضيها، مفسحة المجال أمام إشكالية الدور المفترض للبنان وهويته القومية، علماً بأن هذه لم تكن جديدة بل تماشت في العقود السابقة مع تلك الانقسامات، ولم تكن بعيدة في إثارتها عن الموضوعة الأولى أي البنيان الطائفي للنظام، بل إنها تناسلت منه وراحت تتمفصل مع المتغيرات الإقليمية المحيطة.
لقد أخذ دور لبنان في الصراع العربي الاسرائيلي وتفاعله مع محيطه في قضاياه، مأخذاً عاش الاجتماع الأهلي والمدني ارتداداته على مدى عقود ليعاد طرحه مع مفاعيل القرار الدولي 1559 الذي هو بلا شك مثار الجدل المتراوح بين التأييد والرفض الصريح والضمني، والمفتوح على أفق الحوار بضرورة إلقاء السلاح من منطلقات جدوائية المقاومة وتحمل لبنان المغبة عن إخوانه العرب وفلسفة سيادة الدولة ومركزيتها، وعدم انصياع لبنان لمقررات الأمم المتحدة وهو عضو فيها.
من جهة أخرى، يرى المنافحون عن خيار المقاومة حلقة تواصلية على المستوى القومي كرافعة استنهاضية عربية بدورها المساند لآخر قلاع العروبة في سوريا، وإبقاء لجذوة الصمود لدى الشعوب العربية والأجيال اللاحقة التي لا تتحمل مغبة مغامرة أنظمتها التي تهاوت وهي في منتصف الطريق من الصراع، فيما بعض من الحركات الفلسطينية لم تحسم خياراتها تجاه الصلح مع العدو الاسرائيلي.
تجاوزاً للدور القومي للبنان، ومع الإمكان أنه لو تركت جذوة المشروع المقاوم في بعده العام على المستوى العربي لمصير حامليه من غير اللبنانيين، فإن ثمة نقاشاً على مستوى الهوية الوطنية لجهة دور لبنان بحد ذاته في موضوع الصراع اللبناني الإسرائيلي ينطلق من أن خيار لبنان وقدره الإبقاء على سلاح المقاومة، ولا سيما أن التحرير لم يستكمل إنجازه بصورة نهائية وأن لبنان لم يحسم خياره التصالحي مع العدو الإسرائيلي على غرار العديد من النظم العربية، حيث ما زالت تحكمه اتفاقية الهدنة عام 1949 التي لم تقم لها إسرائيل وزناً. وفي ظل التهديد اليومي وتراخي الأمم المتحدة في تطبيق قراراتها والتزامها الجاد حيال حماية لبنان وردع العدوان، يختلف الجدل الحالي عما رافق لبنان من انقسامات سادت منذ العهود الاستقلالية وحتى بداية تطبيق دستور الطائف لتمفصله وتلازمه مع البعدين الوطني والقومي، بين الداخل والخارج بحيث لم ينفصل في بعده القومي لدى حامليه، عن الاستثمار في تعديل التوازنات الداخلية التي قامت على معادلة الغلبة في المحاصصة، تمهيداً لانخراطه في المشاريع الوحدوية المطروحة آنذاك، ذلك أن ملاك المغايرة الراهنة، هي في حالة الانفكاك بين الهوية في الداخل وبين دور لبنان الوطني والإقليمي.
فالأيديولوجيا العلمانية من قومية واشتراكية، غادرت الجوانب المتصلة بخياراتها الثورية في الداخل من دون أن تغادرها على مستوى الدور، وكذلك الأمر نفسه مع الحركة الإسلامية التي سعت الى التكيف مع الداخل لجهة هوية لبنان الكيان الجغرافي وصيغة التعايش الأهلي، مع سعيها للإبقاء على الدعوة لخيارات الدور الصراعي للبنان من دون الاستقواء على الداخل لتعديل أو تغيير توازناته المرعية في آليات إنتاج السلطة وتوزيعها.
مهما يكن من أمر فإن حالة التكيف هذه تعود الى أسباب داخلية قبل أن تكون منحكمة إلى أسباب خارجية، ذلك أن البنية السياسية التي تقوم على المزاج التكويني بعناصره الطائفية المتنوعة، والتي تشكل النواة الخام لهيكلية النظام السياسي، تمتلك الكثير من آليات الاشتغال الجاذبة والدافعة في آن معاً، تتمتع بالديمومة والاستمرارية وبمزايا من القوة والقدرة على مدى عناصره والعناصر التي هي خارج المزاج التكويني على اختزال أفكارها الأيديولوجية وحمل تنوعاتها وتناقضاتها إلى الإطار الذي يشد ويحفظ هذه التباينات ويتمثلها في كيانه المؤسسي، مع دوام بقاء مكامن الدفع التي من شأنها إنتاج الأزمات المفتوحة دوماً على المستويات التي تبقيه رهناً لحلقته الدائرية، يمكن مع تحولها الى أزمة منتجة بفعل آليات عمل السلطة ومحاولات الإخلال بالتوازن وبالقاعدة التشاركية، ما يعني أن مخاوف بعض أطراف المزاج التكويني لم تعد ناشئة من محاولات الإخلال وتبديل مواقع الشراكة نحو غلبة بنيوية بقدر ما هي ناشئة من آليات اشتغالها السياسي.
على هذا الأساس، ثمة استاتيكا بنيوية تقوم على قاعدة توافقية محمولة في هيكلية البنية السياسية كرسها الطائف وعززتها من الناحية العملية، كل مكونات الاجتماع الأهلي والمدني، وبالخصوص الحركة الإسلامية التي أرسلت وفي أكثر من مناسبة ــــــ في المنعطفات المأزومة ــــــ برسائل طمأنة لجهة استراتيجياتها وطموحاتها التي لم تخرج عن قاعدة الشراكة في البنية المؤسسية للنظام.
تأسيساً على قاعدة الفصل الموصوف بين الداخل وبين دور لبنان الوطني القومي في الصراع مع العدو الإسرائيلي، ومع عدم الخوف من استثمار المشروع المقاوم في حقل التغيير البنيوي الهيكلي على مستوى الانتظام السياسي انطلاقاً من المبررات الآنفة، وحتى من قبل سوريا حليفة هذا المشروع، التي لم تسعَ طوال وجودها في لبنان الى محاولة التغيير الذي يخلّ بالمعادلة، بقدر ما عمدت الى الحفاظ عليها، بمعنى أنها حافظت على هذا الفصل كما هي حال الأطراف اللبنانية المقاومة. تأسيساً على ذلك، فإن الدعوات الحالية لنزع سلاح المقاومة يمكن أن يعيد حالة الارتباط بين الداخل والخارج إلى عهد خمسينيات القرن الماضي.
فلو نُزع السلاح أو انتُزع بصورة أو بأخرى، لا يعني أن لبنان أصبح معزولاً عن تلقي الارتدادات الإقليمية، ذلك أن موضوع نزع السلاح هو حاجة دولية، أي إن ما هو دولي في ترتيب ما هو إقليمي لم يؤت ثماره حتى اللحظة الراهنة. وفيما لو بقي على حركة المراوحة بين المد والجزر، فإن الداخل سيعيد تشكله هذه المرة على قاعدة تزخيم البنية الشعورية المعادية للمشروع الأميركي الصهيوني في الشارع الإسلامي عموماً والمتأثر بما يدور في عموم المنطقة، ومن الممكن استعادة الربط بين الداخل والخارج بحيث يمكن إنتاج أفكار وأيديولوجيا تعيد طرح شرعية النظام اللبناني على بساط البحث، ما يعني إنتاج أزمة على غرار أزماته الدورية كما في العهود الماضية.
وعلى هذا الأساس، فإن الحفاظ على الدور المقاوم للبنان يمكن أن يجنبه الكثير من إمكانات العودة إلى مكامن الضعف والقلق والتصدع في مكوناته الأهلية والمدنية ويسهم في تعزيز هويته الوطنية والقومية.
* باحث لبناني