عزمي بشارة
في يوم ذكرى النكبة التاسعة والخمسين، كان فلسطيني يطلق النار على فلسطيني في غزة. وإن لم تعتبر هذه بطاقة دعوة ممهورة بالدم وبصرخات استغاثة النساء التي تكاثرت أخيراً في كل مناطق الشتات من فلسطينيي بغداد ونهر البارد وغزة وغيرهم لإعادة التفكير بالمسار كله، فلا أدري متى تكون الدعوة؟
لقد تمت حوصلة ما بقي من الشعب الفلسطيني في غيتوات في غزة والضفة خلف جدار على أرضهم وفي وطنهم، كأنهم جسم غريب ترفضه إسرائيل فتفرز غشاءً يغلفه. الجسم الغريب هو الذي يرفض الجسم الأصيل. وتبدو الصورة مقلوبة على هذا النحو المثير للنقمة من جراء التعامل مع قضية فلسطين كأنها تولدت عام 1967، وكأن إسرائيل دولة أصيلة ولكنها محتلة، وثانياً تحويل الفلسطينيين في وعي الناس إلى جماعة، أقلية سكانية تطالب بحقوقها مثل حرية الحركة وحق البيع والشراء وتلقي المعونات، وهي تطالب بحقوقها مما بات يبدو في أعين بعض مؤيدي التسوية الأوروبيين والأميركيين والعرب كأنه الدولة الأصلية. في المقابل، تنهار حالة اللجوء الفلسطيني إلى ما نراه في العراق ولبنان دون تنظيم يرعاها.
ولا شك أنه منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى اليوم يجري منهجياً وعن قصد، أو بدون منهج وعن غير قصد، وذلك بفعل نشوء واقع السلطة الفلسطينية، يجري تفريغ منظمة التحرير الفلسطينية من المضمون والمعنى والبنية والصلاحيات. وكأن مهمة المنظمة كانت مثل ملكة نحل أن تلد السلطة بتوقيع اتفاقيات أوسلو ثم تموت، أو تقتل. فقط لهذا الهدف اعترفت بها إسرائيل في أوسلو.
وقد شجع مؤيدو التسوية العرب والأجانب على اعتماد السلطة ممثلاً للشعب الفلسطيني والاعتراف بها، وعدم الالتفات إلى مؤسسات المنظمة بما في ذلك عندما كان نفس الفصيل يسيطر على المؤسستين، وقد اتخذ ذلك شكل مرارات عند نشطاء هذه المنظمة في الخارج، وعند دائرتها السياسية، كما تم إفشال وإهمال النقابات والاتحادات الفلسطينية وغيرها ودورها في الحفاظ على حياة فلسطينية منظمة في الشتات.
ووقع استثناء رث وقصير المدى عندما لجأ نفس الفصيل المركزي إلى م ت ف لمقارعة السلطة المنتخبة، فأحيا ألقاب ومؤسسات المنظمة ضد السلطة الفلسطينية، لقد همّشت هذه المحاولة منظمة التحرير أكثر مما أحيتها، إذ حوّلتها، ولأشهر قليلة فقط، إلى أداة في الصراع على السلطة، ما لبثت أن نحّيت جانباً مرة أخرى.
وفي لحظة تاريخية، وجد اللاجئون الفلسطينيون أنفسهم دون تنظيم يقودهم ككيان سياسي وذلك قبل تحقيق حق العودة، ورغم استمرار، بل وتفاقم مأساتهم في بغداد ونهر البارد وفي غزة.
أما في فلسطين، فقد تمّ تبني مصطلحات وتعابير الدول: رئيس وزير أجهزة أمنية في اي بي، كدت أترجمه إلى مختصر (VIP: Very Important Palestinian) ، كل هذا قبل نشوء الدولة ودون استقلال. ويبدو لي أنه بعد انكشاف معنى هذه العملية التي بدأت في أوسلو وانتهت إلى أن يطلق فلسطيني النار على فلسطيني في المناطق المحتلة في ذكرى النكبة، فلا بد من تطوير وثيقة إعلامية أخلاقية تحرّم استخدام هذه المصطلحات، رئيس، وزير، واستبدالها برئيس السلطة كما ينص اتفاق أوسلو، ومسؤول الموضوع كذا بدل وزير، مثلاً مسؤول التعليم ومسؤول الصحة في السلطة الفلسطينية.
واقترح أن يتفق كل من حماس وفتح على رفض هذه التسميات المضلّلة التي تغذي وهماً وأوهاماً وتساهم في استمرار تمثيلية تطلب من الشعب الفلسطيني واجبات دولة من نوع الحفاظ على أمن واستقرار إسرائيل دون حقوق الدولة وسيادتها بما في ذلك حقوق المسؤولين فيها. وإذا كانت مهمة الإعلام العربي توخّي الواقعية والموضوعية، والموضوعية لا تعني الحياد، فإن أقل ما يمكن أن يساهم به هو رفض استخدام هذه التعابير واستخدام تعابير أكثر دقة وواقعية في محاولة لتنقية الثقافة السياسية العربية والفلسطينية من الأساطير والأوهام العالقة بها من ميتافيزيقية عملية السلام غير الواقعية والحالمة والرومانسية.
اتفاق مكة لا يتضمن هذا الكلام، لكنه يتضمن إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها. ولكن الإعلام العربي لا يتابع تحقيق هذا البند في الاتفاق. وهو الأكثر إلحاحاً. فماذا يعني عدم تحقيق التحرر وعدم تحقيق حق العودة سوى العودة إلى تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، ليس كنوع من الحنين، بل من منطلق فهم أن تفريغها وإضعافها كان خطأً جسيماً، ومن منطلق الواقع الجديد وليس العودة إلى القديم. ويعني الواقع الجديد وجود قوى مناضلة ومقاومة مثل حماس. ولكي تدرك حماس معنى وأهمية م. ت. ف. عليها أن تتخلى عن الثنائية في الاتصالات بين فصيلين: فتح وحماس (هي صيغة السلطة) وأن تشترط وجود الآخرين من مناضلين وفصائل ومستقلين لكي تكسبهم كحليف في إعادة بناء م ت ف. لا يكفي تفاهم فتح وحماس بوساطة عربية لإعادة بناء م ت ف، فكل ما يتفق عليه بينهما هو كيفية إدارة السلطة الفلسطينية. ولا بديل لفتح وحماس في إعادة بناء المنظمة، ولكن ليس وحدهما، ولا بديل لهذا الإطار على مستوى الشتات وعلى مستوى الانسحاب من صيغة السلطة «حافظة الأمن والاستقرار» كنواة لدولة فلسطينية دون القدس ودون اللاجئين، ودون إزالة جميع المستوطنات.
في أي صيغة للمجلس الوطني الفلسطيني المقبل يجب ضم المجلس التشريعي المنتخب، ولكن يجب بذل جهد لانتخاب مندوبين آخرين، إضافة إلى مؤسسات الفصائل والأحزاب المناضلة وإضافة إلى الاتحادات والمنظمات الأهلية وغيرها. إطار المقاومة السياسي على المستويين المحلي والعالمي هو منظمة التحرير الفلسطينية، ولا بد من تنفيذ بنود الاتفاق التي تقضي بإعادة بنائها والتراجع عن نهج تهميشها.