نجيب نصرالله *
ليست «الفرادة اللبنانية» كلها وهماً. وما يبدو منها كذلك له وظيفته. فالوهم، عموماً، دليل إضافي على الحقيقة. وإلى جانب عناصر الوهم التي تكتنف «الفرادة»، تقوم عناصر الجدة. اجتماع العناصر يؤلف صلب «الفكرة اللبنانية»، التي باتت اليوم تطبق الآفاق، وتستدعي كل هذا الاهتمام الأميركي الخاص.
يميز الفرادة اللبنانية أن تعابيرها غير مقيدة، تبدأ بـ«الصيغة» ولا تتوقف عند اللحظة. ومن تعابيرها الخاصة التي لا نظير لها، أن إحدى أساسياتها تقوم على التعتيم القانوني والعُرفي على المجرم، فلا يظهر. وإن حدَث وظهر، وهذا مُستبعد، تتكفل الآليات الموضوعة لهذه الغاية في تبرئته.
وبموجب هذه العادة يبقى المجرم الحقيقي «مجهولاً»، وتالياً، حراً طليقاً. بعبارة أوضح وأدّق «الجريمة اللبنانية» لا تشترط وجود مجرمين. المجرم غير الجريمة، والجمع بينهما ترف مُستورد.
والأرجح أن هذه الفرادة هي التي ألهمت إصدار قانون العفو العام عن جرائم الحرب. القانون الشهير أوجد بدوره إضافة مفهومية وقانونية جديدة، قضت لاحقاً، بدءاً من 1993 بمكافأة المجرم، والاعتذار من القاتل، والاحتفاء بالسارق. وهذا بدوره ما أوجب تقليدهم المناصب وإقطاعهم السلطات، على نحو ما نشاهد ونرى.
طابع المفاجأة الذي ميز استهداف الجيش، لا ينفصل عن الاستهداف الأصلي نفسه، والمُعَبر عنه باستمرار الاستئثار، بل هو جزء منه. والأرجح أن الوحشية المدروسة التي طبعت الاعتداء الآثم، أرادت بشكل رئيسي التأسيس لمناخ سياسي حارّ، عنوانه الوحيد: «لا صَوْت يعلو فوق صوت الانتقام»، يُساعد في تبرير الخطوات اللاحقة: استعادة المبادرة السياسية، إسْكات المعارضين، والتضييق عليهم، المباشرة بـ«الحسم العسكري» الذي يتخطى المخيم، استقبال المساعدات العسكرية الأميركية، إحراج الداعين إلى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، واعتماد الحلول السياسية، المانعة لامتداد الحريق، إلى خطوات أخرى أشد خطورة لن تتأخر عن الظهور.
المواقف السياسية «العفوية» الصادرة عن أقطاب السلطة المستنكرة للحادث، والداعية إلى الحسم العسكري الفوري، مع التركيز القاطع على مسؤولية دمشق، إلى عناصر أخرى، ساعدت في فَضْح طبيعة الخطة المجرمة. التطورات السياسية والميدانية التي تلت صدور المواقف (دعوة وليد جنبلاط إلى فتح باب التطوع)، كشفت عن أننا إزاء مشروع كبير يستهدف توريط الجيش، وتالياً البلد، في ما هو أكبر وأخطر من حادث أمني، تتحمل السلطة مسؤوليته. ويمكن معالجة سياسية أمنية وقضائية مركبة أن تطويه. التدقيق في مضمون التصريحات وأصحابها يكشف مقدار ما تنطوي عليه من تعمية هدفها الفعلي أن تُفاقم الاستهداف الأصلي.
ما الذي جرى بالضبط؟
استغلاق السؤال على اللبنانيين لا يعني استغلاقه على المسؤولين. والأجوبة التي تكفلت قيادات السلطة بتقديمها، تــبقى عاجزة عن تشكيل الصورة الحقيقية، فكيف بتوضيحها. بل إن «المحاولات» المبذولة في هذا الاتجاه أُريد منها حصراً مُفاقمة الغموض الأصلي، الوهم بنجاح الخطة دفع بحفلة «العنفوان» الأكثرية إلى الوقوع في الهفوات التي أدت بدورها إلى افتضاح الأدوار. التبرؤ الأكثري من الجريمة عنى بلوغ ذروة جديدة، ربما كانت تُماثل تلك التي سُجلت أيّام العدوان الإسرائيلي صيف العام الماضي.
يمكن الجزم بأن هذا الحادث الأمني الخطير، هو في جوهره كمين سياسي وأمني يستهدف صمود البلد، البراعة النسبية في نَصْب الكمين تجلت في وقوع بعض أطراف المعارضة فيه. الموقف المتسرع الذي عبر عنه الجنرال ميشال عون مثل سقطة بَنَتْ عليها قوى السلطة، وهو ما عبر عنه حديث فؤاد السنيورة في معرض تمييزه بين موقف الجنرال عون وباقي أطراف المعارضة.
إن في المعنى المباشر وربما الوحيد من تَمَكّن زمرة أُصولية فتية من نوع «فتح الإسلام»، من تهديد أمن الجيش وإرهاب البلد وتهديد توازناته الدقيقة، ما يؤكد المعلومات المتداولة عن المسؤولية المباشرة لأهل السلطة، وربما تورطها الفعلي تخطيطاً وتنفيذاً وتثميراً، وإلاّ فما معنى تجاهل الواقع السياسي اللبناني والفلسطيني والدعوة إلى الحسم. وما معنى المعلومات المتناقلة عن الملابسات التي سبقت وقوع الحادث، وأبرزها الرعاية السياسية لأفرادها، ومن ثم تعمد الانفراد في دهم الشقة التي كانت تؤوي المطلوبين. فهذه التفصيلات الصغيرة، وغيرها، تستبطن أشياء كبيرة.
ثمة في هذه الأحداث ما يُثير الريبة ويزيد من شهية الاسئلة، وخصوصاً أن طبيعة اللحظة السياسية اللبنانية الخاصة، لا تترك مجالاً للشك في أن الاستهداف الذي طال الجيش، يتجاوز الإطار الأمني، الذي يُحاول البعض حصره فيه، ليصل إلى هدف الإسقاط السياسي للمؤسسة التي سبق لها أن نجحت في تجاوز الكمائن العديدة التي نُصبت لها، وخصوصاً بعدما تبين أن القدرات التي تملكها «فتح الإسلام» تفوق التقديرات.
إننا أمام تنظيم يملك قدرة التحكم والسيطرة وحتى التخطيط، ما يجعل من الكلام التبسيطي عن حجم التنظيم في غير محله.
لا معنى لتعدد التفسيرات والقراءات التي تحاول سبر الموقف. إن في التوقيت ما يسمح بالقول: إنها محاولة «أكثرية» جديدة لاستعادة المبادرة من بعد سلسلة الإخفاقات التي أصابتها، وفي مقدمها العجز عن حسم الصراع الداخلي في الوجهة التي استدعت الإصرار على الاستئثار واستبعاد التسويات، وركوب المراهنات إلى حد التواطؤ السافر على البلد.
ليس الصراع اللبناني ــــــ اللبناني إلاّ انعكاساً للصراع مع العدو الأميركي للسيطرة على المنطقة. وهو يدور حول:
1ــــــ موقع لبنان الإقليمي، والتوازن الداخلي الذي يحمي، أو يصون، هذا الموقع.
الانشطار اللبناني ــــــ اللبناني في ذروته. تعذر الحلول وانسداد الأفق السياسي وارتباط الانسداد باستمرار الرهانات على استجلاب الغلبة هي العناوين الأساسية في الصراع. إنها الخلفية التي تُساعد على فَهْم المجريات الأخيرة ولها أن تُقدم التفسير للغدر الذي استهدف الجيش ومن ورائه أمن اللبنانيين المباشر ولنوع الرهانات التي يُعمل عليها ولحجم الضحايا والخسائر في الأرواح والممتلكات التي تصيب المدنيين.
2ــــــ الاستحقاق الرئاسي اللبناني. لم يصل الصراع على لبنان إلى نتائج حاسمة. الأفق السياسي المسدود أمام القوى التي ارتبطت بالأجندة الأميركية فرض عليها خطوات متهورة، وهي مُضطرة إلى زيادة وتيرة تهورها مع اقتراب الموعد الدستوري.
مُشكلة الفريق الحاكم أنه غير قادر على الاستمرار في مسار الاستئثار، كما أنه غير قادر على حماية مُكتسبات الانقلاب.
إذا كان هناك من رابط بين الأحداث الأمنية التي تضرب لبنان والموضوعات السياسية التي تلحّ على المشهد السياسي، فهو الرابط المتجسد في المحاولات الرامية إلى قلب المعادلات الجغرافية والسياسية والثقافية التي تجعل من لبنان ابناً باراً لبيئته. كل كلام آخر يندرج في الباب إياه، الذي يحاول حرف الأنظار عن حقيقة ما يُحاك في الدوائر الغربية.
يُعيد الاستهداف الأمني والسياسي المباشر الذي طال الجيش طرح الأسئلة المعلقة، تلك التي راجت عقب نجاحه في تجاوز الكمين الخطير الذي نُصب له يوم أحداث «الجامعة العربية»، وأُريد عبره تحويله إلى أداة إضافية في مشروع الانقلاب. رفضه التحول إلى طرف في اللعبة الداخلية جعله هدفاً لصليات حادة من النيران السياسية. يومها جرت محاولات حثيثة ارتَدَت طابع الحملة للطعن في دوره. صحيح أن الحملة تلك لم يُكتب لها النجاح، إلا أنها تركت في جسمه إصابات حدَّت لاحقاً من دوره، وجعلته أسيراً للحذر، وهو ما انعكس في انكماش معنوي جعله يتغاضى عن الإساءات التي وُجهت أو توجه إليه.
لا تقف مُفارقات الوضع اللبناني عند قدرة زمرة فتح الإسلام على شلّ العاصمة الثانية للبنان، بل تتعداها إلى حد تحول الفريق الحاكم إلى مُجرد مُستنكر «لفظي»، ومزايد، وكأن السلطة في مكان آخر.
كثيرة هي الأسئلة التي تلح على المشهد السياسي اللبناني. فالحدث كبير وخطير في آن. التعامل الذي شهدنا نماذج معبرة عنه من خلال العودة إلى تكرار معزوفة الاتهام المسبق نفسها تكشف عن حجم التواطؤ، كما تكشف عن مقدار القصور والصبيانية الذي يطبع الوعي الخاص بهذا الفريق الذي يبدو أنه يستسهل إحراق البلد في سبيل صون المصالح التي استأثر بها من بعد تخليه عن الحليف العبثي.
من الضروري القول إن الجيش يدفع ثمن مواقفه، وثمن حياده النسبي. فالمأزق الحاد الذي تُعانيه الخطة الانقلابية التي تستهدف موقع البلد جعلها تنصب للجيش كمين «فتح الإسلام».
ما لم يقله السيد حسن نصر الله قاله بيان اجتماع الرابع عشر من آذار. الوقوف عند البيان الذي يأخذ على السيد نصر الله دعوته إلى معالجة سياسية وأمنية وقضائية، يكشف بوضوح لا تشوبه شائبة عن مدى مسؤولية هذا الفريق عن الغدر بالجيش والرغبة في زجه والبلد في حرب لا أفق لها.
وقد ظهر واضحاً أن البيان لا يعدو أن يكون نسخة مكررة عن البيانات السابقة، وخصوصاً تلك التي تسبق أو تعقب الأزمات. والأرجح أنه جزء من الهجوم الأميركي العام.
لقد آن أوان التخلص من «الفرادة» التي تكافئ المجرم وتعتذر من القاتل وتحتفي بالسارق، وإلا فإن البلد مقبل على خراب لا يقارن بما شهدناه حتى اليوم.
* صحافي لبناني