خليل أحمد خليل *
هذا الذي يقال عنه إنه «يعيش من قلّة الموت» وإنه «بلا نفس» ـــــــ ما له نفس يحكي، يأكل أو يضحك ـــــــ، وتلك التي يقال عنها إن «لحمها لا يلحم مع لحمه» وإن «فمها يأكل ولا يحكي»، لم يدركا ما جاء في القرآن «وإذا النفوس زُوِّجَت»، ولم يتساءلا ـــــــ وقد عاشا معاً منذ ملايين السنين على كوكب واحد ـــــــ: لماذا أشكل الإنسان على الإنسان؟ ولو فعلاً، لربما اكتشفا سبباً عجيباً في بساطته، عنوانه مزدوج: إما تصور الإنسان أكثر مما هو، وإما تصوره كما هو. وأفهما أن الموت كثير، في كل مراحل التحضر البشري، وأن سبب بقاء جنسهم، (جنسه وجنسها)، يعود إلى ممانعة أو مقاومة دائمة لثاناتوس، وإلى استقوائهم بإروس، وأن اجتماع ثاناتوس وإروس في شخصهما معاً قد يعني استحالة البقاء. هذه الاستحالة الوجودية في الموت وحب الحياة معاً، أطلقت نزوات الخيال أو المتخيل بقدر تطور هندستنا الدماغية، على إيقاع نزوات الجسد المشترك، الذكر/ الأنثى، أو ما يمكن أن نسميه «الإروكسية» بديلاً من الإروتيكية ـــــــ أي «زواج النفوس»، هذا المورد القرآني الذي لم يستثمر علمياً، ولا دينياً، على ما نعلم.
وإذا كنا لا نملك حق القول في التحليل النفسي، كعلم وطبابة، فإننا نستطيع القول إن النفوس البشرية بقدر ما تحولت إلى ذوات اجتماعية تمكنت من تقديم بعضها لبعض ككائنات تاريخية/ وجودية، مؤسطرة قديماً وحديثاً، قبل الدين والعلم، ثم معهما، وربما بعدهما، كما قد يذهب إلى ذلك فلاسفة ما بعد الحداثة، أي ما بعد الدين والعلم، بترجيح الدين على العلم من وجه، وبترجيح العلم على الدين من وجه آخر. لكن، ما قد ينساه بعضنا هو كون النفوس (الذوات) موضوعاً مشتركاً بين التحليل النفسي والستر الديني والكشف العلمي معاً، بوصفها من أساسيات العلوم الإنسانية، الاجتماعية بامتياز، والفردية بامتياز أيضاً، كامتياز رجل الدين في مواجهة (تابعه)، وامتياز المحلل أو «الحلال» النفسي بإزاء (مصابه)، المكون بدوره من منظومة تعقيدات (علاقات ملتبسة) ومن شبكة منامق (ديكورات) تشكل في آن ذاكرة التابع والمصاب، وقد تحولا إلى موضوع قابل، وهما في الوقت نفسه ذاتان فاعلتان. من هنا نشأ هذا الحجاب المستطير بين معاصرة الدين والعلم للإنسان، بصفته ذاتاً، وفرداً جماعياً أو متعدداً، لا فرداً أحداً. ومع تطور هذا الحجاب بين الدين والعلم، من عصر إلى عصر، برز التناقض المركزي بين قطبي المعرفة النفسية: المعرفة من موقع الثابت المطلق الذي يدعيه «رجل دين»، والمعرفة من موقع المتحول النسبي الذي يتخذه «رجل العلم» ـــــ ويمكن أن نقول «رَجُلة دين» و«رَجُلة علم» أيضاً.
وحتى لا ننقاد وراء حفريات أو أحافير معارفنا التاريخية، وما اعتورها من أساطير وأساطير مضادة، نجدنا اليوم أمام بشرية غير مسبوقة من حيث حجمها وتطورها المعرفي العام، على تفاوتات بين قارة وأخرى، وبين بلد وبلد، وبين جماعات في بلد واحد، وخصوصاً بين أفراد نمطيين وأفراد لا نمطيين أو قيد التنميط. هذا الحال يستدعي تطور التحليل النفسي في اتجاه العصر الراهن بكل منامقه وتجمعاته البشرية، كما يستدعي في الآن نفسه توجه الدين والعلم إلى تخاطب تفاهمي، تفاكري، لا تناكري، وخصوصاً في اتجاه التحليل النفسي، الفردي والجماعي، واتجاه العلوم الاجتماعية، على رخاوتها الراهنة، بأفق تحولها إلى معرفة صارمة إن لم نقل إلى علم دقيق أو متين. ولئن كانت توجهات هذه العلوم والتحليلات هي في هذا المتجه، فهل لنا حق الافتراض أن الدين، التوحيدي واللاشخصي، يتوجه بدوره إلى أن يصبح معاصراً حقيقياً، شريكاً متفاعلاً مع هذه العلوم، هذا إن لم ندَّعِ تحول الدين إلى علم للمقدس؟
على خطى المعرفة الأسطورية ـــــ السحرية، قدمت المعرفة الدينية نفسها على أنها تنطوي بإطلاقيتها وقدسيتها على كل المعارف البشرية الأخرى، ثم تقدمت بوابل من الأجوبة عن أسئلة ما برحت النفوس البشرية تثيرها وتقدسها في آن. هنا تكمن المفارقة الكبرى بين نفوس تعبد أغراض المعرفة وبين نفوس تدرأها بما هي، لا بمآلها الميتافيزيقي أو الغَيبي، وتكمن أيضاً المصادفة في أن يكون المقدس حكراً على ديانات، وأن يكون درؤه من اختصاص علوم وضعية، كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والبسيكولوجيا... والتحليل النفسي. مشكلة المقدس هذا ـــــ وقد صار وظيفة اجتماعية ــــــ أنه يضفي قدسيته على موضوعاته وأغراضه وعلى ممارسيه، بالقوة نفسها. ومن الواضح أن هذا ليس حالنا، نحن العاملين في المجال الدنيوي، المتصل بالقدسي، المتأسس بدوره في المجتمع وفي نفوسه. وعلى قدر ما كان الدين يستر ـــــــ أي يقدس موضوعاته وشخوصه ــــــ، كانت النفوس تظن أن مشكلاتها الحادثة والعارضة دوماً هي «عيوب» يجب التستر عليها، علماً بمأثور «الاستتار عن المعاصي»، أي التي ينبغي تحريمها أو تقديسها هي أيضاً. وتالياً أخذت النفوس تحول «عيوبها المستورة» إلى «عورات»، «محظورات»، أي «معتقدات»، ومنها عبادات مجتمعية، رآها أفلاطون مجرد «ملهاة أطفال»، طبعاً على شاطئ الأبدية المتخيلة، خلافاً لما يحدث في قيعان المجتمعات البشرية الراهنة.
دين، علم، تحليل نفسي... وعلوم... لستة مليارات بشري يعمرون الكرة، بأقطاب مختلفة عن الثنائية القطبية لمجتمعات العصور الوسطى: الله مقابل الشيطان وبينهما الإنسان، ثم الرجل والمرأة وبينهما «الشيطان»، ثم عودة إلى شيطان أكبر، وأصغر، وإلى «محاور شر»... في مرحلة العولمة المعرفية هذه، توضع على المحك كل الحضارات وثقافاتها، وكل العقلانيات وعلومها، ومن طوائف ومسالك؟
كما هو حال «الأنا الرباني الأعلى» يضع الدين المنزّل من أعلى نفسه، وكذلك يضع ورثة الدين المتصلون بالأعلى، أنفسهم فوق الطبيعة والبشر، معتقدين أنهم يملكون سلفاً «العلوم» ومآلاتها أو غائيتها، مكتفين بما يسمونه «السببية الميتافيزيقية»، وساعين إلى تحويل هذه الملكية الميتافيزيقية إلى سلطة مطلقة على أفراد مقيدين بشروطهم الدنيوية وسببيتها الوجودية أو التاريخية، خالطين في مسعاهم التسلطي هذا بين الأفراد والجماعات، بين المجتمعات والدول، وزاعمين أن «مفتاح غيبهم» جدير بفتح كل أبواب المعارف الدنيوية، غير آبهين بعادات البشر وثقافاتهم وحضاراتهم، التي سرعان ما يحولونها، وخصوصاً في المجتمعات الرعوية ـــــــ الزراعية إلى «محرمات»، كعادة حمل البنت الجرة أو حملة الحطب على رأسها المغطى بقماشة أو بـ«حبل من مسَد»، وجعل هذه العادة مدعاة لحجاب، له قوّة المقدس. فضلاً عن أن العادة نفسها عرفها الرجل حين كان يحمل حطباً على ظهره ويشد الحملة برباط على رأسه، تحول بدوره حطة وعقالاً، في مكان، وطربوشاً، قلنسوة أو قبّعة في مكان آخر. وكذلك هو حال الحريم أو عزل النساء الذي عرفه المجتمع الفارسي ما قبل الإسلام، وتسرّب منه إلى الجوار العربي، وصار عادة إسلامية. نقول هذا على سبيل المثال لا الحصر، لنؤكد أن الدين وظيفته الأساسية هي التقديس، نعني ستر الموجودات وادعاء امتلاك أسرارها، بلا تجريب ولا استكشاف. وفوق ذلك، لا يخفى أن هذه الوظيفة السترية للدين تتمتع بآليات كلامية، بخطابات شفهية، تستمد قوتها مما تجمّع لها في ذاكرات الأماكن المقدسة، المقامات والمزارات والمَحَجَّات المنسوبة إلى «معصومين» من أنبياء وأئمة وقسيسين، وإلى «صالحين» و«صالحات» من عابدين آخرين. هذا كله يشكل في الحقل القدسي للديني ما يعرف بالرأسمال الرمزي ـــــــ وهو في كل حال جزء ضئيل لا أكثر من الرأسمال الرمزي البشري ـــــــ الذي يسعى الديني إلى تحويله رأسمالاً سياسياً، فيما يكتفي العلمي بتوظيفه في حقل دلالي لاستكشاف العلاقة بين الدال والمدلول، بين الرامز والمرموز، أو بين الشيء ومعناه، والحال، فإن الرأسمال الرمزي، فضلاً عن الرأسمال الاقتصادي والعلمي والسياسي والثقافي، يتناوله الديني ساتراً، ويتناوله العلمي كاشفاً. وعلى هذا التناول تتوقف منهجيات الطرفين:
الطرف الديني يعتمد المصادرات أو الفرضيات المسبقة، ويرفعها ذهنياً، تجريدياً، إلى رتبة «حقيقة مطلقة»، أي مقدسة، مدعياً بذلك امتلاك «علم اليقين».
الطرف العلمي يصوغ فرضيات لاختبارها، (غير باحث كالفيلسوف الكندي، مثلاً، عما سماه علماً أيقن من اليقين)، بل للبرهان على صحتها وعلى قوة تحققها، كمصدر للحقيقة النسبية، أي المتناسبة بين السببية الوجودية ونتائجها الإنسانية أو الطبيعية.
وعلى ذلك، تقوم معرفتان: معرفة عابدة ومعرفة ناقدة، معرفة ساترة ومعرفة كاشفة. وتتبلور ذهنيتان: ذهنية التباسية وذهنية استكشافية، ذهنية تنكر ما يحدث خلافاً لرأسمالها الرمزي ومقاييسه الدوغمائية، وذهنية تفكر في ما يحدث بمعايير اختبارية، حرة، ومثال ذلك، ما ذهب إليه محمد باقر الصدر، في كتابيه «فلسفتنا» و«اقتصادنا» (نا: تشير هنا إلى الرأسمال الرمزي الديني)، من إنكار للفلسفتين اليونانية والغربية، لتنافيهما مع «فلسفة إسلامية» لا يقول لنا ما هي، ومن إنكار للمذهبين الرأسمالي والاشتراكي، لتنافيهما مع مذهب اقتصادي «إسلامي»، لم نعرف ما هو حتى اليوم. والعلة هي في إنكار العالم والعلم كما هما، والتفكر فيهما بالمنقول (المأصول، حالياً) لا بالمعقول. والنتيجة المميتة لهذا الستر الديني لمعرفة العالم بدين ـــــ لا بعلم ـــــ هي: حجاب الفصل بين المجال الحيوي والفضاء المعرفي. إن هذا التحجيب للبشر وأشيائهم، وأخيراً لأحزابهم ودولهم وأجسامهم، يحول أكثر فأكثر دون مقاربة دينية/ علمية لمسارات الحداثة وما بعدها، وحتى العولمة الراهنة، ويفضي إلى تحول الحجاب إلى احتجاب عن العالم. ومع ذلك يواصل العلم استشكافه للعالم، فيما يواصل «دينيون بلا حدود» احتجابهم عن العصر، ولو أدى ذلك إلى «أن الإنسان لفي خُسر». وماذا يهم هؤلاء أن يخسروا دنيا، وقد استعاضوا عنها سلفاً بـ«دنيا أخرى»؟ إنهم يعيشون العالم بالمقلوب، ويرفضون ردّ عادات الناس وثقافاتهم إلى مجتمعاتهم.
في المقابل تواصل المعرفة العلمية ـــــــ التقنية الراهنة كشفها عن كل الظواهر المتاحة للدرس، بما فيها الظاهرة الدينية التي يتوسلها سياسيون أو دول، نيابة عن «الأنا الرباني الأعلى»، لأغراض دنيوية عادية جداً، كالجاه والمال والنفط والسلاح والمخدرات... والحروب طبعاً. إن هذا التوسيل للديني في السياسة هو مصدر كل إكراه، وميدان كل إرهاب، من محاكم التفتيش إلى جماعات «التكفير» و«التهجير» ـــــ تهجير العقول عن مجالات بحثها المعرفي، وحبسها في محابس ميثولوجية موروثة ومستحدثة. إن مصادرة الآخر هي بذاتها حرب، تتوسل كل الرساميل المعرفية، وتستبيح كل «حقوق الإنسان» الحديث، سواء بتكفيره دينياً لتخوينه سياسياً، أو بتعقيمه نفسياً وعقلياً لجعله مقتولاً (شهيداً) أو قاتلاً (مجاهداً، بطلاً). أمام هذه الظاهرة تقف العلوم الإنسانية، وفي مقدمتها التحليل النفسي الاجتماعي، متسائلة: ما جدوى هذه الوظيفة «التقديسية» لديانات وسياسات لم تنتج لهذه البشرية سوى جحيم الحروب؟ وما هي الأخلاقية الدنيوية التي أكسبتها لتابعيها من خلال العدوان على ما تسميه «المدنس» باسم ما تدعوه «المقدس»؟
هنا يتشارك الديني والسياسي في تقديس ذاتهما المشتركة، بوصفهما سلطة متقاطعة أو متبادلة، وهنا أيضاً يكاد توظيف الناس، أو الجمهور، في حرب لا هوادة فيها، ولا أخلاقية لها، إلا أذا اعتبر «قتل الآخر» من الأخلاقيات! ولأن العلمي يكشف لعبة الديني والسياسي معاً، نجدهما يتبادلان ستر عوراتهما معاً. ولا يعود ثمة موجب «للتساؤل عمن يتوسل من؟
إذ الأهم بنظر العلوم الإنسانية والتحليل النفسي، بعد الكشف عما ذكرنا، البحث في أحوال الناس، ضحايا هذه الشراكة الافتراسية بين السياسي والديني، اللذين آثرا الستر على الكشف، أو التقية السياسية: هذا باسم مصلحة الدولة، أي مصلحة الحاكم، وذاك باسم مصلحة الدين، أي مصلحة الوكيل «الإلهي». وعليه، يسهل فهم هذا الحجاب المفروض، في الشرق الأوسط الراهن، على العلم ورجالاته، وفي طليعتهم المحللون النفسيون، ويسهل أيضاً فهم آلية الطرد المطَّرد للعلماء والمفكرين والمثقفين، حين لا يكون اغتيالهم متاحاً ولا يكون سجنهم أو ابتياعهم مباحاً.
* كاتب لبناني