نسيم ضاهر *
وضع تنظيم فتح الإسلام الأكثرية والمعارضة أمام الامتحان في ظروف مأساوية تكبّد خلالها الجيش الوطني شهداء بالجملة جرّاء مجزرة دامية نزلت بجنوده المقيمين على تخوم مخيّم البارد. ولليوم، يتحفظ الجميع من رواية حقيقة ما جرى صبيحة نهار الأحد الدامي، وكيفية تسلل العناصر الإرهابية الى الحواجز العسكرية المضروبة حول المخيم، وتنكيلهم المروِّع بالوحدات النظامية غيلة. المفاد أن ثمة إحراجاً حيال هذا الأمر، من جانب السلطات، حفاظاً على الهيبة والمعنويات، وتعتيماً مقصوداً بغية التستر على بشاعة الفعل وطابعه الظلامي الموصوف، من خفة المعارضة، إذ سارعَ فريق المعارضة الى اتهام السلطة وأجهزتها بالتقصير وانعدام التنسيق محتجاً بتأييد الجيش والبلاغة اللفظية. أتتْ مواقف أطرافه متأخرة على مسافة ساعات طويلة من بدء العمليات، ما أوحى بترقب حذر ريثما ينجلي غبار المواجهات، وتخبّط بانتْ ملامحه عبر بيانات متفرِّقة صدرت عن أركان المعارضة، يلفّها الغموض في المراد وعدم الانسجام إزاء التعامل عملانياً مع الظاهرة والقضاء على بؤرتها. ومع تتابع الأحداث، سوف ينجلي عمق الفوارق بين الحلفاء حالما يخرج الخطاب من مقدمات إدانة الحكم وديباجته المعهودة المكررة حيث الملتقى المريح للمعارضة والميدان الأمثل للعماد عون.
يواجه الوطن محنة قاسية تهدد أمنه وسيادته وسياجه المتمثل بقواته المسلحة، بما يتخطى النزاع الداخلي ويقحم عوامل تفخيخ وتفجير تطال المعادلة القائمة وترهق كاهل جسد المجتمع والمؤسسات. والحال أن الجميع وضعوا على محك تجربة، لن ينجو لبناني مخلص من تداعياتها. هذا بالضبط ما يدعو الى وقفة مكاشفة وبيان المسؤوليات جرّاء الحسابات الخاطئة والمراهنات الفاسدة، وما قد يترتب عليها مصيرياً في مدى منظور. ويقيني أن حزب الله، والأكثرية، هما المعنيان أساساً وجوهراً، باعتبار ان التيار الوطني الحرّ غارق في المتناقضات بعدما تفرَّدَ العماد بطلب الحسم الميداني أي الاقتحام الفوري على ما فهم من إشاراته، ربما لحشر السرايا الحكومية، أو لتملق المؤسسة العسكرية أو للسببيْن معاً حتماً.
منذ اليوم الأول، تولت المعارضة دق إسفين بين قوى الأمن الداخلي والجيش، بالطرق على ثغرات التنسيق المسبق، على خلفية تقاعس جهاز المراقبة وادعاء زجّ الجيش في المواجهة على غفلة لمآرب فئوية، بعدما حجبت عنه المعلومات. وفي غمرة الطعن الانتقائي بفرع المعلومات، المحسوب في عرف المعارضين على تيّار المستقبل تحديداً، حُجبت مديرية كاملة مولجة أساساً بالأمن السياسي عن الصورة، ولم يرد ذكرها لقربها من رئاسة الجمهورية ورضى الفريق المعارض عنها. وحيث تكشَّف هول الاعتداء الدامي على المؤسسة العسكرية، وفرض بداهة التلاحم معها، شنّت المعارضة حملة عاتية على مركز القرار السياسي، وعمدت الى فصل قاطع فرَّقَ بين السلطة وذراعها المسلح، وكأنما ثمة اختلافاً في الأهداف، وتبرّؤاً من التبعات، وما هو أخطر وأدهى، تعارضاً جوهرياً في الموقف من ظاهرة فتح الإسلام وخطورتها.
بنت المعارضة موقفها بناءً على تحليلات سبقت اندلاع شرارة الأحداث بأشهر، لوحّت باستمرار الى نيَّة دفينة لدى السلطة في استثمار مجموعة فتح الإسلام لأغراض الداخل، والاتكاء عموماً على الحركات الأصولية في مواجهة حزب الله. ولقد ألصقت المعارضة شُبهة التهمة هذه بالحريرية، وتداول جناحها المسيحي طويلاً خروجها من رحم الوهّابية، وبالتالي اصطدامها بكيان الأقليات وحقوقها. ولئن كانت هذه الرؤية مغالطة مسطّحة فإنها، مع ذلك، وجدت في شريط الشواهد الماضية ما أثار الحفيظة وعَزَّزَ قراءتها، بمساهمة غير مباشرة من الخصوم بالذات. فما من ريب في أن علاقة السلطة القائمة ببعض الملفات قد شابها التردد والتلكّؤ واللين والارتداد الى لون من التسوية أو المسايرة عوض الحسم الصريح. وليس بمجهول أو خافٍ ما انزلق إليه نواب وحلفاء من مطالبة السلطات بالكفّ عن الظن والتعقّبات في حق معتقلين ومطلوبين في حوادث مشهودة، وتجاهل صفة الأفعال الجرمية. لكن هذه المآخذ المشروعة على أداء طاقم الأكثرية، على وجاهتها، لا تجيز مطلقاً الدمج الآلي بين التيارات الدينية المتشددة والإرهاب أو الشروع في العمل الجُرمي. وتتعلق بالقشور والمظهر، وتلصق بتيار المستقبل تهمة باطلة، مع معرفة المعارضة الأكيدة بمدى حداثته على الساحة السنية وما أدخله من اعتدال وانفتاح في بيئته، خلافاً للتقليديين من أركانها وحلفائها.
تصرّ المعارضة على نفي عامل التدخل السوري في الشأن اللبناني، وتوظيفه المحتمل لكل ما يُزعزع مواقع الأكثرية، وممانعته الصريحة لكشف الضالعين في الاغتيالات. فبطريقة ما، وعطفاً على عدائها المستحكم لفريق «المعارضة»، أجازت لأقلامها وأعلامها، اللعب على وتر الحساسيات، ظنّاً منها أن ثمة إفادة من استفحال ظاهرة فتح الإسلام وشبيهاتها، لأنها تنخر موضوعياً قاعدة تيار المستقبل، وتمنعه من استمرار الإمساك بجمهوره العريض. تلك خطيئة تضاف الى ما تحاول المعارضة ترويجه حالياً، ويمعن فيه تشكيك في نيّات فتح (والسلطة الفلسطينية) المبعدة عن مُخيَّميْ الشمال (نهر البارد والبدّاوي) لزمن طويل بتدبير سوري قامع. المستخلص أن المعارضة ترتاح إلى رمي كُرة النار في ملعب الأكثرية، وتقف شامتة من المصاعب النازلة، غير معنية بالمخاطر التي تحيق بمفهوم الدولة المصادرة، في رأيها، وبالتالي لا تبدو ضنينة بها أو مُبالية بتسيّبها.
لفظ قاموس السياسة النبيلة منطق الرهان على الأسوأ. فما من مُسوَّغ مقبول للفواصل التي تقيمها المعارضة اعتباطياً بين المؤسسات وأدوات السلطة، وما من تبرير مقنع للتفريط بركائز الدولة بغية النيل من الخصوم السياسيين، مهما احتدم الخلاف الداخلي والصراع على السلطة. ثمة ضوابط لا بدّ من احترامها، وفي طليعتها، محاذرة الإيقاع بين القوى الشرعية وزرع بذور الشك في مفاصلها، والكفّ نهائياً عن تأليبها وحرفها عن مهماتها. وفي السياق نفسه، يندرج الإيحاء المسموم بتعرضها العشوائي للمدنيين، واستطراداً الدعوة المُبطَّنة بشلّ حركتها تحت شعار الدوافع الإنسانية. فعلى رغم ما شاب المؤسسات الأمنية والعسكرية من عثار سابق بفعل السياسة، إلاّ أن ذلك لا يخوِّل مطلق طرف اليوم، في ظروف المحنة والمأساة، إنكار ما تقوم به موحّدة لدرء الاعتداء على الدولة والسيادة (وحتى مجرد المقارنة مع أحوال سابقة، والهمس بإمكانية تطيّفها)، أو الغمز واللمز من مناقبيّتها أو تشتيت ولائها. إلى ذلك، واحتراماً لكيان المعارضة كبديل ديموقراطي من الحكم القائم، لا يمكنها في حال من الأحوال القعود في موقع المتفرّج على التفجيرات المتنقلة وتجهيل فاعليها، أو الركون بسذاجة إلى مسؤولية القوى الأمنية عن التقصير، وعلى الأخص عدم ملاحظة أنّ العبوات تستهدف مناطق محدّدة وتستبطن تدمير الاقتصاد وإركاع اللبنانيين.
إنّ منشأ المنظمات الإرهابية يتعدّى الواقع اللبناني وإطاره. ومن البديهي أنّها تستوطن بؤراً ذات تربة صالحة، وتتوسل استثمار كل أشكال المظالم، الاجتماعية والقومية والدينية، تحقيقاً لمآرب بعيدة عن الحلول والمضامين الجادة. وإذ يسجل على السلطات اللبنانية المُتنابذة والعرجاء بالمحصلة، تلكّؤ في الاحتواء والمعالجة، كيفما اختلف تقويم أسبابه الظرفية والعملانية، فذلك بأفق التصويب والحسم، وفق المتعارف عليه. لكن العيب الخطير يبقى في ما ذهب إليه خطاب المعارضة، المترجم صراحة بلسان رئيس الجمهورية ونائب الرئيس السوري، من تعويل على المساومة المأساوية والمقايضة الفجّة في غير أوانها، القائلة بمعادلة الخطأ والجريمة. وعليه يضحي من الغرابة بمكان أن تشهر معادلة السلطة وولادة حكومة الوحدة الوطنية قيصرياً بدفع من تآمر واعتداء سافر على الأمن والسيادة، وكأنما زخم الحسم المطلوب والمهمة المنوطة بالسلاح الشرعي رهن بمزاج السياسة، أو أن تأييد العمل الميداني بلا تحفظ ولا مواربة، موقوف على تغيير في نصاب الحكم. فكيف للمعارضة أن تُضحِّي بالدولة على مذبح السلطة، وهل باتَ من المسموح الإيغال في الحرد والتشفّي واستحضار الحلول الفورية العجائبية، فيما يسيل الدم ويسقط الشهداء؟ تلك مسائل وشواغل يجدر بالمعارضة التمعّن فيها وقياس خطواتها، لأنها، ولإشعار آخر، فاجأت العديد من اللبنانيين، وأضعفت حسن الظن بحكمتها، على ما ستُبيِّنه الأيام.
رحمةً بوطن نحن جميعاً شركاء فيه لا وكلاء، عسانا لا ننسى هذه القاعدة والمرجعية البديهية الأساس.
* كاتب لبناني