سامح فوزي *
يصل تعداد المسيحيين في المنطقة العربية ما بين اثني عشر إلى خمسة عشر مليون نسمة، غالبيتهم يعيشون في مصر. ويتوقع بعض المراقبين أن يهبط الرقم إلى ستة ملايين نسمة فقط بحلول عام 2020م، نتيجة موجات الهجرة المتوالية للمسيحيين، وهكذا تصبح المنطقة العربية على شفا حالة جديدة يغيب فيها الآخر الديني، ويصبح الإسلام هو الدين الوحيد، والمسلمون هم وحدهم أهل هذه البلدان. خطورة هذا الأمر أن الإسلام سوف يظهر ــ للمرة الأولى بعد أربعة عشر قرناً ــ بصورة ما لا يستطيع العيش مع الآخر الديني، ويصبح المسلمون ــ في نظر العالم ــ أحاديّي النظرة، لا يقبلون التعددية الدينية. هذا الأمر يضرّ بالإسلام والمسلمين. ويجب التعقل في النظر إلى هذه القضية قبل فوات الأوان.
تشير الدراسات إلى أن تعداد المسيحيين في تركيا بلغ مليوني نسمة عام 1920م، وتناقص الآن إلى بضعة آلاف، وهو ما يهدد الحضور المسيحي التاريخي هناك. وفي سوريا كان تعداد المسيحيين في بداية القرن يقارب ثلث السكان، وتناقص الآن إلى أقل من 10% من مجمل الشعب السوري. وفي عام 1932م كان المسيحيون يشكلون ما يقرب من 55% من السكان في لبنان، وأصبح عددهم الآن يدور حول 30% من السكان فقط. ولم يظهر الإحصاء الأخير للسكان في مصر عدد الأقباط، وهو ما يفتح الباب أمام تقديرات متضاربة، حيث يرى بعض الإسلاميين أن تعداد الأقباط لا يزيد على 6% من السكان، فيما ترى المصادر القبطية أن العدد يراوح ما بين 12% و15% من السكان. والوضع يبدو أكثر تأزماً في مناطق الصراع مثل فلسطين والعراق، وكلاهما تحت الاحتلال. وهي الملاحظة التي يتعين وضعها في الاعتبار، إذ إن الحضور المسيحي يتأثر بشدة بظروف الاحتلال، أكثر مما يتأثر في ظل وجود حكومات وطنية حتى لو كانت للمسيحيين مشكلات في ظلها. يمثل ذلك رداً مباشراً على دعاوي الاستنجاد بالخارج في مواجهة تحديات الداخل. في الناصرة كان تعداد المسيحيين يصل إلى 60% من السكان عام 1946م، وتناقص إلى 40% من السكان عام 1983م، والعدد آخذ في التناقص. أما القدس فإن حالة المسيحيين فيها تبدو أكثر إيلاماً. كان تعداد المسيحيين عام 1922م متقدماً مقارنة بتعداد المسلمين، حيث بلغ 15 ألف نسمة، في حين تعداد المسلمين وصل إلى 13 ألف نسمة. في الوقت الراهن لم يعد المسيحيون يشكلون أكثر من 2% من السكان في القدس العربية. ولعل هذه الظاهرة دفعت الأمير الحسن بن طلال إلى التندّر بقوله «يوجد في سيدني بأستراليا مسيحيون من القدس أكثر من المسيحيين الذين لا يزالون يعيشون في القدس». أما الوضع في العراق فهو أكثر سوءاً، إذ في ظل حكم صدام حسين بلغ تعداد المسيحيين 800 ألف نسمة، من مجمل سكان البلاد الذين يعدّون 26 مليون نسمة، وتضاءل الرقم كثيراً في ظل الاحتلال الأميركي وتنامي عمليات القتل والترويع إلى حد أنهم أصبحوا بضعة آلاف. وذكر مراسل صحافي أجنبي زار بعض الكنائس العراقية صباح أحد أيام الآحاد أن الكنائس تكاد تكون خالية من المصلين، وأن تعداد هؤلاء المصلين لا يزيد على بضع عشرات.
ماذا لو فرغت منطقة الشرق الأوسط من المسيحيين؟ هل يخدم هذا الإسلام والمسلمين؟ أتصور أن العكس صحيح، فلن يؤدي ذلك سوى إلى مزيد من الكراهية على أسس مذهبية وعرقية أخرى. الحضور المسيحي بالغ الأهمية للإسلام والمسلمين في الشرق الأوسط. غياب هذا الحضور أو تهميشه يؤدي إلى إظهار المنطقة جرداء من التنوع الديني، والأكثر يُظهر الإسلام بأنه غير قادر على التعايش مع الآخر الديني، ويُظهر المسلم في ثوب الرافض للحوار المسيحي الإسلامي. هذا يضر بالإسلام والمسلمين، ويهدر قروناً من التعايش الديني، ويجعل تعقيدات اللحظة الراهنة تصادر تاريخاً ممتداً من العيش المشترك، لم يكن كله وردياً، ولكن لم يكن كله أسود أيضاً. وسيؤدي رفض الآخر الديني إلى ممارسة رفض الذات على مستويات مختلفة. هذه هي خبرة المجتمعات الإنسانية التي تتقاتل أولاً على أساس من الدين، ولكنها لا تلبث أن تتقاتل على أساس اختلاف المذهب، بعد أن تنفتح شهية كل طرف للقتال، وتزداد رغبته في الانفراد بالمشهد، وتقرير مصير الجماعة وحده. المثال الصارخ على ذلك هو السودان. فقد عاش السودانيون سنوات حرب بين الشمال والجنوب، جرى خلالها توظيف المقولات الدينية لتأجيج المواجهة المسلحة لا على أساس عرقي بل على أسس دينية. وما إن وضعت هذه المواجهات أوزارها، حتى تفجّر الوضع في دارفور، هذه المرة لم يكن من المتاح إخفاء العامل العرقي، وتحول الصراع إلى مسلمين في مواجهة مسلمين. وفي كثير من الدول العربية ذات الأغلبيات السنّية تتأجج مشاعر الكراهية والغضب على أسس مذهبية، أكثرها ضراوة الصراع السني الشيعي. ويكفي أن نحصي عدد الكتب التي تقبع على أرصفة شوارع وسط القاهرة التي تهاجم الشيعة لنعرف إلى أي حد تجري صناعة الكراهية، وهي الكراهية نفسها التي صنعتها الكتب على الأرصفة تجاه الآخر الديني، أعني المسيحي. واللافت للنظر أن أياً من هذه الكتب لا يحمل اسم مرجع إسلامي له اجتهادات متداولة، معترف بها.
الحضور المسيحي يرفع من مستوى التعددية في المنطقة العربية. يجعل وجود الآخر الديني «حتمياً»، لا «عارضاً»، وهو ما يجعل تقبل الآخر «المذهبي» أو «العرقي» جزءاً أصيلاً من ممارسة الحياة، وأحد مقتضيات الوجود الإنساني عينه. التعددية لا تنقسم، رفض الآخر يؤدي تلقائياً إلى رفض الذات. واللجوء إلى التمييز ضد فصيل بعينه يؤدي بالضرورة إلى ممارسة التمييز ضد فصائل أخرى، حين يصبح التمييز آلية لتسيير الحياة، أكثر من كونها ممارسة موقتة.
المسلمون أكثر احتياجاً إلى المسيحيين في هذه اللحظة. وجود المسيحيين معهم ضرورة، تعايشهم في نسيجهم الاجتماعي غاية، ودفعهم على طريق المشاركة في صنع مستقبل وطنهم فرض أساسي. ولن يتأتى ذلك إلا بشعور المسلمين بأن المسيحي مواطن، جزء فاعل في وطنه، وشعور المسيحي بأن مستقبله لن يكون إلا في هذه المنطقة في تواصل مع شركائه المسلمين، والهجرة بديل لن يجلب اندماجاً سياسياًَ وثقافياً حقيقياً، وقوى الخارج لن تؤدي سوى إلى مزيد من الكراهية، وزرع الأحقاد التاريخية.
* كاتب مصري