تقوم القوات الصينية بغزو سيبيريا الروسية. الذهب المكتشف هناك، إضافة إلى الاحتياطات الضخمة من النفط والغاز، تدفعها إلى احتلال المنطقة، وذلك لدعم اقتصادها المرهق جراء التوسع في الإنفاق العسكري. هنا يقوم الأميركيون بإقناع حلف الناتو بضم روسيا. وتتعاون القوات الروسية والأميركية في صد الغزو وتدمير الأسطول البحري الصيني. ويتبع ذلك حركة طلابية تطيح بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، ليبدأ تحوّل الصين إلى الديموقراطية. هذا التخريف هو تلخيص شديد لرواية أميركية عنوانها The Bear and The Dragon كتبها توم كلينسي، ونشرت عام 2000.
قد لا نجد في هذا الكلام أمراً جديداً، فالسينما والأدب الأميركي مليء بمثل هذه الترهات التي تعكس الدعاية السياسية المضادة لبلدان بعينها. ولكن هنا نجد أن العدو الروسي الكلاسيكي يتراجع لمرتبة الصديق المهدد، والشرير هو الحكومة الصينية. في مواد دعائية كهذه نشرت باكراً، وفي مواد أخرى صحافية وإعلامية نشرت لاحقاً، نجد تلمس الغرب لحساسية هذه المسألة بالنسبة إلى العلاقات الروسية ـ الصينية.
في مقالة منشورة في مجلة The Diplomat Magazine عام 2013، يقول الباحثان أندرو اس بوين ولوك روديهيفير إن «العلاقات الثنائية بين البلدين لا تشكل بالنسبة لموسكو سوى حسابات مرحلية قصيرة الأمد، وإن كان هناك ما يفرض تعاوناً بين البلدين في المرحلة الحالية، فإن ذلك لا يغطي حقيقة أن الصين هي التي تشكل الخطر الاعظم على الوجود الروسي في الشرق». وإذا ما صدقنا هذا الكلام، فإنه يتوجب دفع الفترة القصيرة الأمد إلى حدود زمنية أبعد، وخصوصاً بعد توقيع صفقة الغاز الضخمة بين البلدين عام 2014 والتي تمتد لأكثر من عقدين، إضافة إلى حزمة الاتفاقات الاقتصادية والتنموية التي رافقتها والتي خص معظمها منطقة الشرق، الشرق الأقصى الروسي تحديداً، المنطقة التي يتوقع الكاتبان أنها منطقة انفجار حتمية مؤجلة بين البلدين.
تقع منطقة الشرق الأقصى الروسي في أقصى الشرق من القسم الآسيوي من روسيا. وتمتد من بحيرة بايكال في شرق سيبيريا إلى المحيط الهادئ. تبلغ مساحتها 6.2 مليون متر مربع، تعادل ثلث مساحة الاتحاد الروسي. وقد أخذت وضعها الحالي كمنطقة فدرالية عام 2000، وتعد أكبر مناطق روسيا الفدرالية السبع مساحة، وأقلها سكاناً (أقل من 6 ملايين نسمة).
جزء كبير من مناطق الشرق الأقصى الروسي المحاذية للصين كانت جزءاً من الامبراطورية الصينية وذلك حتى القرن التاسع عشر، قرن الإذلال كما يسميه الصينيون، حيث انتزعت هذه الأراضي من قبل روسيا القيصرية في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر عبر معاهدتي اغن وبيكنغ، وذلك في عهد سلالة كنغ الصينية.
وإذا ما نظرنا إلى مساحة المنطقة الهائلة، وعدد سكانها القليل جداً والمتناقص، بفعل عوامل انخفاض معدل الولادات والهجرة، (من الملفت أن إحدى المناطق التي يقصدها المهاجرون من الشرق الأقصى الروسي إضافة إلى روسيا الأوروبية هي الصين نفسها)، سوف نستنتج دونما عناء أنه لا يوجد عدد كاف من القوى العاملة لاستثمار الكم الهائل من الثروات الموجودة فيها والتي يشكل الوقود الأحفوري كالنفط والغاز أهمها، إضافة إلى الفحم والمعادن والخشب. فالمنطقة تمتلك مساحات شاسعة من الغابات البكر، ولدينا مخزون هائل من المياه العذبة، أهمها في بحيرة بايكال التي تشكل 20% من المياه السطحية العذبة الموجودة في العالم. كذلك الثروة السمكية، سواء في المياه المالحة أو العذبة.
لم تجد روسيا بدّاً من زيادة نسبة التعاون مع الصين بعد الأزمة الأوكرانية
الجار الصيني الذي يتزايد طلبه بمعدل هو الأعلى عالمياً على المواد الأولية، يجد في هذه المنطقة المحاذية لحدوده مجالاً حيوياً لدعم النمو والطلب المتزايد على المواد الأولية والمنتوجات الزراعية، حيث تحوي هذه المنطقة مساحات شاسعة صالحة للزراعة بحاجة لمن يستثمرها، ومن الممكن أن تصبح مستقبلاً مزوداً كبيراً للصين بالأغذية والمنتوجات الزراعية، بخاصة أن الصين تعاني من تقلص في مساحات الأراضي القابلة للزراعة، هذا جراء التوسع العمراني، والتسمم الذي يصيب التربة بفعل مخلفات الصناعة. ومنذ عام 2014 منحت الحكومة الروسية من يرغب بالهجرة إلى تلك المناطق من الروس مساحة من الأرض، بغية استثمارها في الزراعة. ولكن لا يتوقع أن يجذب هذا الإجراء أعداداً كافية من المواطنين الروس، بحيث تتمكن من سد الفجوة السكانية الضخمة هناك. إن من يمكنه ذلك ومن لديه الرغبة والمصلحة والقدرات المالية والبشرية هو جمهورية الصين الشعبية.
يقول البروفيسور في جامعة الشرق الأقصى الفيديرالية الروسية أرتيوم لوكينى «إن الاعتماد المتزايد للصين على استيراد المواد الأولية، إضافةً إلى ارتفاع حدة التوتر بين الصين والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المحيط الهادئ، جعل منطقة الشرق الأقصى تحتل مكانة كبرى في السياسة الصينية. كما أن الاهتمام الصيني بمنطقة الشرق الأقصى الروسية قد تزامن مع ساعة الحاجة بالنسبة لموسكو». ساعة الحاجة هذه دقت بقوة عندما اندلعت الأزمة الأوكرانية، إذ لم تجد روسيا بدّاً من زيادة نسبة التعاون مع الصين. وستنعكس هذه التفاعلات الاقتصادية والسياسية لدى كل من روسيا والصين على الشرق الأقصى الروسي بشكل كبير.
هذه العوامل جعلت البلدين يقومان بخطوات فعلية لتجسيد المصلحة المشتركة لهما بالتعاون في تلك المنطقة. ولكي نكون أكثر تحديداً، يقصد بالتعاون، السماح للمستثمرين الصينيين والعمال المهاجرين بالدخول والعمل والاستثمار. ويعني أيضاً استثمار الحكومة الصينية نفسها لمبالغ كبيرة في مشاريع تطوير البنية التحتية والموانئ والزراعة والمشاريع الاستخراجية. منذ عام 2011 عموماً، يبدو أن روسيا بدأت تمنح دوراً متزايداً للصين في تنمية منطقة الشرق الأقصى. وتحول ذلك إلى استراتيجية ثابتة مع توقيع اتفاقية الغاز بين البلدين عام 2014، والتي احتوت على فقرات مهمة تختص بتطوير البنية التحتية للشرق الأقصى الروسي، عبر مشاريع مد السكك الحديدية والطرق والبناء، وغيرها من الاستثمارات التي تعتبر تلك المنطقة بأمس الحاجة إليها، إذ أنها تعاني من نقص مزمن في الاستثمار والاهتمام التنموي. وبدأت بالرفع التدريجي للتقييدات التي كانت تحد من هجرة الصينيين إلى تلك المنطقة.
عاملان جعلا التقارب الروسي ــ الصيني، الاقتصادي والسياسي، يتجسد في الشرق الأقصى الروسي، عبر وصل البلدين بوصلة ديموغرافية واقتصادية متينة. دفع الغرب لروسيا بعيداً عن مساره وخاصة بعد أحداث أوكرانيا، بالإضافة إلى وجود نقاط توتر أخرى في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط. ارتفاع منسوب التوتر بين الصين وجيرانها المتحالفين مع الولايات المتحدة كالفيليبين واليابان وفييتنام وكوريا الجنوبية. وازدياد حدة التنافس الاقتصادي الأميركي ــ الصيني، بنتيجة الصعود الصيني والترهل الاقتصادي الغربي، بخاصة في المؤسسات المالية. وليس غريباً أن تجتذب البنوك التي تنشئها الصين مساهمين من دول كانت حتى وقت قريب لا يمكن أن تقوم بأي اجراء مالي ضد رغبة الولايات المتحدة، ذات اليد المالية الطولى. وما حدث منذ وقت قريب في انضمام بريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا إلى بنك الاستثمار في البنية التحتية الصينية، أوضح مثال على ذلك.
التقارير التي يستند إليها المعلقون والمحللون الغربيون، تتحدث عن هجرة متزايدة للصينيين من المحافظات الصينية المحاذية لروسيا، والتي تمتلك تعداداً سكانياً يزيد على المئة مليون نسمة، إلى الشرق الأقصى الروسي الفقير بعدد السكان. وتتوقع أن يصبح الصينيون هم المجموعة العرقية الأكبر في الشرق الأقصى الروسي خلال مدة زمنية ليست بالطويلة. هنا نقطة بالغة الأهمية سوف يلعب عليها الغرب والولايات المتحدة، عبر النشاط الإعلامي المكثف، وفي مجالات أخرى، وهي شد العصب القومي الروسي، بتخويفه من فقدان هذه المناطق لمصلحة الصين، وإزكاء المشاعر القومية الصينية التي تمتلك حقاً تاريخياً في تلك المناطق كما يعتقد الصينيون. هنا تستطيع الأفاعي أن تنفذ من خلال الشقوق الموجودة في تاريخ وبنية العلاقات بين البلدين. وهنا يجب أن تكون المصالح العليا وحقائق الجغرافيا والبنية الاقتصادية الاجتماعية هي صاحبة الكلمة الفصل في طرد هذه الأفاعي.
* باحث سوري