محمد شقير *
لعل من المفيد القـول بأن هــــــناك التباساً في تحديد مفهوم الجهاد في الإسلام، وهذا الالتباس النظري المفهومي أدى إلى أكثر من التباس في الأداء العملي لبعض الحركات الجهادية وإلى أكثر من خلل في مشاريع العديد من الحركات الإسلامية.
يوجد من يوازي بين الجهاد والقتال بحيث يصبح مفهوما القتال والجهاد مفـــــــــهومين مترادفين ولعل من ذهب إلى هذا الرأي قد تأثر بالسياق التاريخي ونتاجه المعرفي الذي آل إلى حبس مفهوم الجهاد في القتال والفعل الحربي بسبب أن الظروف التاريخية للأمة أمــــــــلت استخدام مفهوم الجهاد بشكل أكثر في إحدى مفرداته أي الجهاد القتالي، لكن هذا التماهي التاريخي بين مفهوميْ الجهاد والقتال ساهم في إيجاد هذا الالتباس النظري بينهما، بحيث أصبح من الصعب لدى الكثيرين التمييز بين مفهوم الجهاد ببعده الديني ومفهوم القتال ببعده الحربي.
إن هذا الالتباس بين مفهوميْ الجهاد والقتال وإن أعلى من شأن القتال بما هو جهاد حربي، لكنه أدى إلى تقزيم مفهوم الجهاد وحصره في واحد من مصاديقه، الذي هو من أهم تلك المصاديق وأوضحها، لكنه ليس المصداق الحصري له، إذ إن مفهوم الجهاد يتسع للعديد من المفردات والمصاديق التي تنتمي إلى مجالات إنسانية واجتماعية متعددة.
إن مفهوم الجهاد يعني العمل الذي يستلزم بذل جهد حقيقي ومؤثر وجاد يهدف إلى الامتثال للواجب الإلهي في مخـتلف الميادين الاجتماعية من إقامة العدل وإحقــــــاق الحق والدعوة إلى الخير... ولذلك يجــــــب فهم معنى الجهاد لا فقط في إطاره الفردي بل أيضاً في إطاره الجمعي الذي يعني أن الإســــلام يريد تربـــــــية المجتمع، كما الأفراد، على أن يكون مجتمعاً عاملاً كادحاً ومنتجاً أي مجتمعاً يتميز بحيويته وحراكه الذي لا يملّ ولا يتعب بهـــــــــدف التنمـية والتقدم والتطور في مختلف المجالات الاجتماعية وفي جميع الميادين من مادية أو معنوية، أي يريده مجتمعاً مجاهداً، وإن كان ما يميز الجهاد بحسب مفهومه الديني أنه في منطلقه يجب أن يكون قائماً على أساس الواجب الإلهي، وفي غايته يجب أن يكون قاصداً القرب الإلهي، وهاتان النقطتان، أي البداية والغاية، هما اللتان تجعلان من الجهاد جهاداً في سبيل الله وتميزان مفهوم الجهاد الديني.
وبناءً على هذه التوسعة لمفهوم الجهاد سوف يكون أكثر من عمل تنموي أو معرفي أو اقتصادي أو خيري أو علمي أو تربوي... سيكون جهاداً بحسب المفهوم الديني النظري لا التاريخي للجهاد، ولن يقلّ عندها أي جهاد تنموي أو معرفي أو اجتماعي أو تربوي قيمةً وأهميةً عن الجهاد الحربي، وسوف ترتقي أهمية تلك الأعمال في الوعي الجمعي أو الفردي إلى مستوى الجهاد الحربي بحيث لا تبقى منقوصة الأهمية والاهتمام ولا يبقى عندها تصنيفها في مراتب متأخرة في سلّم اهتمامات الحركات الإسلامية، وهو ما يؤثر في بنية مشاريع الحركات الإسلامية بحيث يغدو مشروعها مشروعاً متكاملاً يلحظ كل أبعاد المجتمع الإنساني ومشاكله وقضاياه، باعتبار أن العناية بمختلف أوجه التنمية والتقدم والرفاه... كل ذلك هو جهاد بحسب المفهوم الديني الإسلامي للجهاد وهو يستحق أن يكون في أولويات الاهتمام في رؤية الحركات الإسلامية وبرنامجها وخطابها.
نعم ربما تُملي بعض الظروف الموضوعية المرحلية إعطاء أهمية خاصة لبعض مصاديق الجهاد، كالجهاد العسكري مثلاً. فعندما يكون هناك احتلال أو أخطار مشابهة تقتضي التركيز على ثقافة القتال والجهاد الحربي والشهادة، لكن كل ذلك يجب أن يبقى في إطار مقاربة نظرية مفهومية صحيحة لمفهوم الجهاد، بحيث لا يؤدي الظرفي والمرحلي الى تقزيم فهم النظري والمفهومي وتشويهه، بل على العكس من ذلك يجب أن يبقى الفهم للظرفي والمرحلي متأثراً بالفهم النظري لمفهوم الجهاد الديني وسعته التي تستوعب مختلف المجالات التنموية للحياة الإنسانية.
إن الجهاد هو فعل تنموي جاد بامتياز، لكنه لما كان فعل التنمية هذا يستلزم جهداً خاصاً وخصوصاً من حيث جعله لله تعالى منطلقاً ومقصداً فقد أخذ تحديده المفهومي الخاص في الفهم الديني الإسلامي.
وكما يبرز هذا الفهم الموسوعي للجهاد البعد الإنساني والتنموي للإسلام وعنايته برفاه البشرية وتكاملها المعنوي والمادي، فإنه لا يحصر مهمة الحركات الجهادية بالقتال حتى إذا انتهى الجهاد القتالي انتهت تلك الحركات وانتفت مبررات وجودها، وهو فهم غير صحيح، بل إن مقاربة الجهاد القتالي نفسه يجب أن تكون ضمن رؤية أشمل وأعم ومن خلال بنية مفهومية ترى في فعل القتال وسيلة لا غاية لتحقيق كرامة الإنسان وإنسانيته وحريته والتمهيد لفعل التنمية الشاملة والرفاه والتقدم.
وكما يسهم هذا الفهم المختلف للجهاد في إعطاء قيمة خاصة لأكثر من عمل تنموي واجتماعي ومعرفي، فإنه يسهم في سحب القدسية عن القتل والقتال بما هو قتل وقتال، إذ الجهاد ليس قتلاً لمجرد القتل ولا هو قتالاً لمجرد القتال، لأن الجهاد في مجاله الحربي هو فعل قتال هادف إلى مقاومة الاحتلال والدفاع عن الأرض والعرض وحماية الوطن. إنه نشاط حربي، لكن ضمن رؤية ثقافية وحضارية أوسع يتأثر بها ويتفاعل معها بحيث لا يبقى مفصولاً أو مبتوراً عنها، وبالتالي يجب أن لا يخرج عن سياقها ولا ينفصل عن قيمها ولا يبتعد عن أهدافها، بل يجب أن يبقى فهمنا للجهاد محكوماً لفهم أوسع للدين في عنايته بالإنسان وصون كرامته وحريته وفي اهتمامه بالقيم الأخلاقية والمعنوية.
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الفهم لمفهوم الجهاد يساعد على فقه نصوص الجهاد بطريقة صحيحة تؤسس لثقافة جهادية صحيحة، وبالتالي تجعل من هذا الفعل أكثر تلاؤماً مع القيم الإسلامية والإنسانية ومع رؤية الإسلام لوظائف المجتمع وعنايته بالتنمية والرفاه والحياة المعنوية.
إن ما ينبغي قوله هو أن قراءة موضوعية دقيقة لمفهوم الجهاد لا بد من أن تسهم في جعل مشاريع الحركة الإسلامية مشاريع أكثر تكاملاً وأكثر استجابةً لمختلف المشاكل الإنسانية وحاجات المجتمع وأكثر اهتماماً بمختلف قضايا التنمية والرفاه لتكون تلك المشاريع أكثر تلاؤماً مع ظروف المجتمع واهتمامات الإنسان، وأيضاً مع أهداف الدين ومقاصده النبيلة وأهدافه السامية، حتى لا يتحول الفهم المجتزأ إلى فهم مشوه يؤدي إلى تشويه الجهاد وتشويه الإسلام من خلال ممارسات خاطئة تتنافى مع الدين وأهدافه وتتعارض مع الإسلام وقيمه وتختلف مع الجهاد ومفهومه.
* أستاذ جامعي