محمد نعمة *
من المعلوم أن حقبة الخلافة الراشدة من التاريخ العربي قد قامت على إدارة السلطة وانتقالها وتسيير العلاقات الاجتماعية من خلال معايير ومقاييس محكومة أساساً لرؤى (فيها بالتأكيد موازين وعلاقات قوى) تغلب عليها الهموم والمهمات الدينية التي تتوجب على «أمير يسوس» أمور «المؤمنين»، وبالتالي فإن من حسن حظ العرب حضارياً أن المدماك الأول للسياسة المتمأسسة في تاريخهم كان يرتكز على معطى نفسي ووجداني يقوم على ضبط رغبات التحكم والقهر لا بل على تجاوزها علائقياً: هاجس الإنصاف والعدل، قوننة التملك والعنف والثأر، ضبط وتخفيف التمييز والاعتباط، التزهد بالحياة ومفاتنها، الرجوع المستمر للمثال المحمدي في أمور الدنيا «الزائلة» و«الزائفة» بحسب مقاربات وسلوكيات هؤلاء الراشدين الأوائل. إن هذا الإطار الأخلاقي والقيمي للعلاقات الاجتماعية الذي شكل اللبنة الأولى في تاريخ المؤسسة السياسية العربية تم التخلي عنه بسرعة قياسية. بالإضافة إلى ذلك ومنذ أن كان العرب الفاتحون وسطاء في الاستنساخ والترجمة والنقل ما بين فلاسفة الإغريق وأوروبا القرون الوسطى، فإن تجارب وثقافات الشعوب الأخرى من حيث نظم الحكم بقيت قلباً عديمة الأثر وقالباً مقتصرة على دردشات السمر في ديوان «الحاكم بأمره»، لا بل إن كل ما أتت به أوروبا المهيمنة ومن ثم العولمة إلى المنطقة العربية لم يترك أثراً يذكر على ضرورة استبدال علاقات الاستبداد بغيرها الأكثر انفتاحاً و تسامحاً ورقيّاً. فالدولة العربية قد انقطعت عن التواصل والوصال مع الحقبة الراشدة التأسيسية لمجتمع متوازن وذي رفعة، وقطعت مع ضرورات تثمير التفاعل الثقافي والواعد مع حضارات أخرى قريبة أو بعيدة قد أكدت بدورها عبر مجرى ماضيها وحاضرها أنها كانت ولم تزل جديرة بالتغيير وبالتقدم.
إن الدولة العربية، سواء كانت ذات لافتة قومية أو قطرية، اشتراكية أو ليبرالية، جمهورية أو ملكية، لم تنجز مجتمعياً إلا سمتها التأسيسية لها، ألا وهي ديمومة الاستبداد. وبالتالي فإنه من المبالغة تكرار القول بأن هذه الدولة قد فشلت تاريخياً وفكرياً في تحقيق وعودها بالاستقلال القومي أو الوطني أو بالرقي والازدهار. أجل، هذه الدولة لم تفشل لأنها لم تكن جاهزة لذلك، إنها لم تنجز ما لم تأت من أجله، إنها لم تحقق ما لم تحلم به.
إن «لعبة الأمم» ليست «مضرب خيلها» وإن بقيت في حيز المتفرجين عليها تصفق حيناً وتتأوّه أحياناً أخرى. أما مآزم الاستقلال: فلسطين، الاحتلالات، الهيمنة، توازنات وديناميات التداخل بين ما هو قومي وما هو محلي أو وطني، فهل هي بالنسبة إلى الدولة هذه، قضايا تستحق الذكر؟ ما هي مفاهيم «التنمية» و«الترشيد الاقتصادي» و«التأهيل الاجتماعي والمهني» و«استراتيجيات» حماية المستهلكين أو السوق الداخلية أو حماية القطاع الزراعي أو الحرفي؟ هل قرأَت هي يوماً في كتاب صيانة الثروات الجوفية من غاز ونفط وماء؟ أين هو ذاك «التخطيط» في وقف الهدر والفساد في عمل الإدارات والمؤسسات؟ وفي وطأة «توزيع الثروات» القائم، هل ثمة «اعتدال» في تجاهلها؟ أين هي من مفاهيم أولية وبديهية كالتعليم والتسرّب الدراسي وحماية الطفولة ومحو الأمية؟ كلها تبدو طلاسم عديمة الجدوى لدولة الاستبداد.
إن دولة الاستبداد لم تأت لكي تعطل الطاقات العربية الجمة والدفينة، وإنما لإدارة وتأبيد الجمود السابق لها والمتأسس على قهر علائقي والذي لم يبحث في مشاربه وأصوله ومصائره بمقاربات منهجية ومؤسساتية. إن دولة الاستبداد هي جهاز تشغيل وتفعيل الاستفراد في دفة الأمر والقرار. وهي أيضاً الاستئثار الخاص والفئوي في ما هو عام وجمعي من ناحية، والإقصاء والغلبة كقاعدة رباط مع الأخ اللدود سجين التمييز الإتني أو الطائفي أو الجهوي المصطنع من ناحية أخرى. إن دستور الدولة العربية لم يكتب على وقع «عقد اجتماعي» بين مواطنيها «الأحرار». إنه وليد إرث سيطرة وشرعنة فوقية لغلبة عديمة الشرعية العلائقية والمؤسساتية والتاريخية.
أما على وجه العموم فإن الاستبداد هو أساساً في حالة ترابط محكم مع مفهوم التفرّد. الانفراد في استعمال العنف والاستفراد في تبريراته. الانفراد في السيطرة وفي الإمساك بمعارج السلطات ومراكز القرار. التفرّد في تمليك وتوزيع الثروات الوطنية وترسيم حدود التداخل بين ما هو عام وما هو خاص. إن الاستبداد قد لا يكون رديفاً للاشرعية دستورية، لأنه قد يتجسد في دساتير شتى وذات أصول وضعية أحياناً، أو دينية فقهية أحياناً أخرى. إن لاشرعية الاستبداد تكمن أصلاً في غياب الإجماع الوطني عليه، هذا إن لم نقل الرفض التلقائي والطبيعي له. وبالتالي فإن اللاشرعية هذه هي علائقية وتأسيسية، وما مظاهر التفرّد المستترة أو الفاقعة لدى الحاكم إلا تأكيد ضمني على رفضها المكتوم والمكبوت من قبل العامة.
في الاستبداد ثمة جدلية تحكم طرفيْ العلاقة المضطربة. في حالة المستبد يوجد حالة دينامية مكونة من عاملين متفاعلين تجده حبيسهما، وهما:
ــ الشعور بعدم الأمان التذنيبي والمرتبط بقلق الهجر له من قبل المحيط.
ــ السلوك القهري لتثبيت سيادته، وذلك من خلال الإمعان والاستدامة في استبداديته.
أما المواطن فهو يخضع من جهته لدينامية عاملين مختلفين اثنين هما:
ــ الرفض والعداوة الواعيان لهذا الاستبداد.
ــ الشعور الملازم لهما بالخوف والرهبة تجاه جبروت الحاكم.
إن الاستبداد على رغم كل ثباته الظاهر من حيث عنفه المكشوف اليومي أو من حيث استباحته الرتيبة أو المباغتة للزمان ــ المكان، فإنه يلهث دائماً وراء وهم تأبيد الخضوع المعلن للمستبَدّ به. هذا وعلى رغم كون الحاكم يدرك تماماً أن بؤرة العصيان الفعلي على سطوته تكمن جوهرياً في متخيّل المواطن، ذاك المكان النائي الذي يبقى عاصياً على السقوط. من هنا تأتي وظيفة العنف بوجهيه المرمّز و«المشفّر»، والعاري الحسي الدامغ، فبها يحصل الحاكم على وقاية دفاعية رئيسية، يقوم دورها على إشباعه نرجسياً من مكتسبات السيطرة الظاهرة وملذات السيادة على «سطح» العلاقات. لكن تلك الوظيفة الضابطة لإيقاع العلاقات تؤكد بذاتها وهم مصائرها، وضعف انغراسها لدى موضوع الاستبداد، ما يولد جوهر مفارقة الاستبداد عينه من حيث كونه شكّاً وريبة تجاه الذات نفسها كما تجاه الآخر.
* مدير مجلة مدارات غربية في باريس