ناصيف قزّي *
كُنتُ ما أزالُ فتىً تضجُّ به الحياةُ صَخَباً ولهواً، عندما اندلعَتْ حربُ الأيامِ الستَّة في الخامسِ من حزيرانَ عامَ سبعةٍ وستين وتِسعمئةٍ وألف... حين ضاعَتْ الضَفَّةُ والقِطاع، وصحراءُ سيناءَ والجَولان... وحين هَوَتْ زهرةُ المدائِنِ، مدينةُ القدسِ... الحربُ العربيَّةُ ــ الإسرائيليَّة التي تَشَظَّتْ حروباً، فالتَهَمَتْ كلَّ شيء... تداعَتْ أسوارُ بترا واحتَرَقَ لبنان. ومنذ ذلك التاريخ صارَ الجنوبُ أرضَ النار بدَلَ أن يكونَ واحَةَ سلام.
لَمْ أُدرِكْ في حينِهِ أنَّ الحَربَ الثالثة تلك، كانت نِهايةَ ثورةِ الضباطِ الأحرار والجمهوريَّةِ العربيَّةِ المتّحدة... ظَنَنتُ، كما الكثيرونَ يومذاك، أنَّها حقاً «نَكسَة»...!؟
لَمْ أُدرِكْ في حينِهِ أنَّ النَكسَةَ هي الهزيمة، وأنَّ الهزيمَةَ تلك ستعُمُّ البلادَ، من المحيطِ الى الخليج، وتُربِكُ تاريخاً من الأمجادِ والفُتوحات... حتى صارَ الأدَبُ «أدبَ النكسة»، والشعرُ «شعرَ النكسة»... والفكرُ تَقَوْلَبَ في شعاراتٍ كانَت مُنطَلَقاً لشتّى الحماقات... فغَدَتِ النَهضةُ استنهاضاً للغَرائِزِ والعَصَبيَّات.
لَمْ أُدرِكْ في حينِهِ أنَّ «النكسةَ» تلك، ستكونُ فاتِحَةَ الزمنِ الرديء... وأنَّها علامَةٌ من علاماتِ الزمنِ العربيِّ المهزوم... بل العقلِ العَرَبيّ...!
ولَمْ أُدرِكْ في حينِهِ أنَّ عقوداً أربعةً من الكوارثِ والنَكَباتِ كانَت تنتَظِرُنا، وأنَّنا كُنَّا على قابِ قَوسينِ من الحَربِ على لبنان، التي تَغَيَّرَ بَعدَها كُلُّ شَيء... فصَارَ العَرَبُ عُرباناً، والوَطَنُ أوطاناً، والناسُ أشلاءً، والتَحريرُ انهِزاماً واستسلاماً، والحريَّةُ في استجمام... وتُخومُ الجَنوبِ تَبكي سَلامَ الجَنوب. وكم وكم من قمَّةٍ عربيَّةٍ انعقدت منذ ذلك التاريخ، لكن من دون جدوى... وكأن معالم الطريق الى التحرير والتحرر تُرسمُ في غير مكان... وقدَرُنا أن نتأبَّدَ في الهزيمةِ الى ما شاء الله.
غريب أمر هذا العالم العربي، أسيرِ نزاعاتِه والتناقضات، الذي لا قيمة فيه لشعب يعاند، ولا لعاقل يسائِل... وخروجُ السجناء مرهون بولي العهدِ ويوم الختان...!؟
غريب أمر عالم عربي يعيش الهزيمة كما الانتصار، ويمارس السياسة كما النزوات... حتى لو جاء ذلك على حساب دول الناس وكرامات الناس ومستقبل أولاد الناس. فترى بعض زعمائه ومفكّريه يتحدثون عن «الشرق الأوسط الجديد» وكأنه تجديد لعروبتهم المجيدة بعد ركود.
ترى، أيمكن العقل المهزوم نفسه أن ينتصر على الهزيمة، وبالأدوات والوسائل نفسها، وفي مقدمها روح الاستتباع وغياب التضامن والإخاء... الهزيمة التي أسقطته يوماً ليصبح رهينة مسارات يندى لها الجبين؟
غير أن القدَرَ لم يَنْعَسْ... فشاء ربُّكَ ألّا يُهزَمَ الإنسانُ العربيُّ، مع حكوماته البائسة وقمَمِها المسطَّحة... فكان أن أثمرت نضالات المقاومة اللبنانيَّة الباسلة، نصراً حقيقياً أسقط في داخلنا جدران الهزيمة والخوف واليأس، وإن لمْ يُخرجنا، كما نطمح، من صنميَّة الطوائف والمذاهب، وعبثيَّة الفتن والصراعات التي تخبَّط فيها شعبنا طوال ثلاثة عقود.
وبعد، أتكون قمة الرياض مدعاة أمل في خضم هذا المنعطف التاريخي الذي تمرّ به منطقتنا، أم تبقى كسابقاتها أسيرة ذلك العقل المهزوم؟
نرجو أن يكون الزعماء العرب قد أدركوا في قمة الرياض ما سبقتهم عليه شعوبهم، من أن تبدّلاً ما طرأ على المسار العربي بفعل ذلك الانتصار، وأن ذهنيَّة الهزيمة باتت محصورة في بعض القصور والعقول؟ نرجو أن يكون الزعماء العرب قد أدركوا، ولو متأخرين، أنَّ ما حدث في لبنان، على أثر عدوان تموز، هو انتصار حقيقيّ وتاريخي... وأن يكونوا خرجوا من مقولة «المغامرة غير المحسوبة النتائج»؟
ثم، ألم يحن الوقت بعد كي يدرك بعض العرب أن في لبنان المنتصر حكومة لادستورية وأكثريَّة وهميَّة متسلّطة، وأنه لا بد من تسوية، قاعدتها إعادة تكوين السلطة... أم هم غارقون في مقولة أن الحالة الشعبيَّة الاعتراضيَّة العارمة قد «حوَّلت شوارع بيروت إلى فنادق»؟
هل أدرك عرب الهزيمة أن في لبنان دعاة سلام حقيقي لا استسلام... أم ترانا مضطرين إلى أن نقرأ على مسامعهم لازمة عمر أبو ريشة غداة انعقاد قمة الرباط بعد هزيمة حزيران، إذ قال:
«خافوا على العارِ أن يُمحى فكان لهم على الرباطِ لدعمِ العارِ مؤتمرُ»...؟
بالطبع، فإذا كنا نسوق هذا الكلام الذي يصف مرحلة مهمة من تاريخنا المعاصر، فليس للنيل من قمّة الرياض الأخيرة التي تفصلها عقود أربعة عن «قمة العار» في الرباط... عقودٌ رحل خلالها جيل من الزعماء العرب ومعهم أسرار تلك المرحلة الصاخبة. وحده معمر القذّافي، صاحب الكتاب الأخضر، الذي اصفرَّ مع الزمن، بقي شاهداً على تلك القمم. إذا كنا نسوق هذا الكلام، فلأنَّه منغرزٌ في ذاكرتنا التاريخيَّة كما في وجداننا الجماعيّ. نقول ذلك على الرغم من أن قناعتنا، نحن اللبنانيين، تفترض اليوم أن سياسة دوليَّة جائرة تقعدنا عن مسيرة السلام والنهوض... المسيرة التي قد ترقى بنا، فيما لو انطلقت فعلاً، وفي ظلِّ ما نتمتع به من مزايا وصفات، الى مصاف الدول المتقدمة... ولا سيما أننا شعب مرابط منذ أقدم العصور عند الضفة الشرقيَّة للمتوسط، شاهدٌ على التاريخ ومتفاعل فيه، سلاحه الإيمان والمعرفة وحب المغامرة...!
في أي حال، قد تحمل قمة الرياض إيجابيّاتٍ، غير أن تصديقها مرهون بالمسار السياسي الرسمي للحكومات العربيَّة، لجهة إمكان وقف النزف، بل الانحلال الذي يطاول الشعوب العربيَّة كافة، ولا سيما في فلسطين والعراق ولبنان.
أما أخطر ما في الأمر، فهو أن يستفيق ذلك العقل المهزوم، قبيل القمة وبعيدها، في سياسات الأكثرية الحاكمة في لبنان، والتي باتت ميليشيات رسميَّة مستأثرة ومرتهنة لمسارات قد لا تخدم القضية العربية ولا القضية اللبنانية.
أيعقل أن يعتبر رئيس الحزب الحاكم في لبنان أن مشاركة المعارضة في الحكم هي بمثابة «انتحار سياسي» للأكثريَّة أو أنها «تكملة لقتل والده»؟ وهل يجوز رهن قضايانا الوطنيَّة كافة، ولا سيما المصيريَّة منها، بتلك الحالة العاطفية المشروعة التي يعيشها ابن الشهيد... وأن نوظِّف الشهيد في قضايانا المطلبيَّة؟
أيعقل أن يعبث رئيس الحكومة الفاقدة للشرعيَّة والمشروعيَّة بالمؤسسات الدستورية والقوانين؟
أيعقل أن تمعن شبكة العصيان الرسمي في اتباع سياسات وسلوكيات ضد التفاهم بين اللبنانيّين... كأن تتمحور تصريحات زعماء الأقليات السياسيَّة في لبنان على ردات فعل لا تصبّ في مصلحة الوطن... أو كأن يعتبر أخيراً، فخامة الرئيس الأسبق، على سبيل المثال لا الحصر، «أن كل شعارات وبرامج التيّار الوطني الحرّ المعلنة أصبحت في سلَّة المهملات»؟ وكم كنا نتمنى أن يجيبنا الرئيس الأعلى، قبل ذلك، عن أسئلة طالما تجنَّب الإجابة عنها في كتابه «الإهانة والغفران»... أسئلةٍ كثيرة ومنها تهجير مسيحيي الجبل... فماذا فعلت يا فخامة الرئيس لمنع تهجير المسيحيين من الجبل، وأنا واحدٌ منهم، خلال ولايتك الميمونة في الثمانينيّات من القرن الماضي... أو كأن يكرِّسَ مفوضُ «مكتب الجبل»، ومن على منبر المجلس النيابي، «مصالحة الجبل»، وينهي قضية المهجّرين المسيحيين عند التوافق السياسي بينه وبين البيك... هو الذي لم ينل من أصوات المسيحيين سوى العُشر... متناسياً أن المصالحة الحقة تكون مع الأرض والناس والتاريخ والشهداء، قبل الشركاء في الحرب...!؟
أيكون هذا الكلام كلاماً في السياسة، أم هو سياسة الكلام الموكول من الداخل والخارج ليصار الى تطبيقه في لبنان؟
يبقى أن نشير الى أن العقل المهزوم هو هو... في بلاد الأرز كما في دنيا العرب... في القمة كما على الأرض... أأعطى أميركا مبرراً في العراق عبر اتهامها بالاحتلال، أم رمى بورقة السلام في مرى نيران إسرائيل، أم أوهم الناس بإيجاد حل عادل في لبنان... إنه هو هو... وقمة الهزيمة ألا يكون النصرُ على تخوم الجنوب قد أدرك صحارى العقول والقلوب.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيَّة