محمد شقير *
لم يكن الفهم لله تعالى ودوره في الاجتماع الأرضي واحداً، بل تعددت المعتقدات حول ما يفعله الله تعالى وحدود هذا الفعل، فمنهم من كان يذهب إلى نسبة كل شيء إلى الله تعالى، بطريقة تتنافى واختيار الإنسان وحريته، وكان في المقابل من يذهب إلى أن الاجتماع الأرضي هو مسرح وحيد للبشر وفعلهم، وأنه لا دخالة للّه تعالى ولا تأثير له في أفعالهم وأحوالهم، وكانت هناك فئة ثالثة قالت باختيار الإنسان وحريته من جهة، لكنها لم تصل إلى حد القول بتعطيل الصفات الإلهية وعدم تأثيرها في المسرح البشري، بل ترى أن حرية الإنسان تعمل تحت الإرادة الإلهية وحضور التأثير الإلهي في كل شيء.
ما يعنينا في هذا المقال ما يتعلق بحضور التأثير الإلهي في هذا الكون ومجرياته وأحداثه، والذي يمكن مقاربته من زاوية كلامية ترى أن الله تعالى خلق الكون محتاجاً إليه وهو ــ من ذراته إلى مجراته ــ لا يستغني عن الله تعالى، بل هو محتاج إليه ليس فقط في أصل وجوده بل أيضاً في استمراره حيث إن الفيض الإلهي لو انقطع عن هذا الوجود لزال واندثر.
ويمكن مقاربة هذا الموضوع من زاوية قرآنية، حيث إن القرآن الكريم نسب جميع الأمور ــ من دون إلغاء اختيار الإنسان وحريته ــ إلى الله تعالى، يقول تعالى: «قل كلّ من عند الله» (النساء: 78)، وإن آيات أخرى تحدثت عن «حزب الله» و«حزب الشيطان» في إشارة إلى أن الاجتماع البشري ليس بعيداً عن وجود السمة الإلهية، وانقسامه إلى من يحمل هذه السمة ومن يحمل سمة الشيطان، بالإضافة إلى آيات أخرى تتحدث عن النصر وتوضح أن النصر ليس إلا من عند الله تعالى، يقول عزّ وجلّ: «وما النصر إلّا من عند الله العزيز الحكيم» (آل عمران: 126).
نسب الله تعالى النصر إلى نفسه، يقول تعالى: «إذا جاء نصر الله والفتح» (النصر: 1)، «ألا إن نصر الله قريب» (البقرة: 214)، إلى غيرها من الآيات التي تصرّح بإلهية النصر، وأنه من عند الله تعالى، وأن الله تعالى وعد بنصر المؤمنين، فضلاً عن تأييدهم وإمدادهم بالمدد الغيبي الذي لا يمكن مقاربته بمنطق الأمور المادية وعقليّتها.
أما بالنسبة إلى معنى إلهية النصر، فيمكن تقديم إجابة كلامية عن هذا السؤال تذهب إلى أن الإنسان يوفّر مقدمات الأفعال، فيما أن التأثير الحقيقي هو من الله تعالى ولله تعالى، حيث لا يمكن إغفال الجانب المعنوي والإيماني في مقاربتنا لتلك المقدمات وما يترتب عليها.
إذ إن مشيئة الله تعالى قد لا تمنح النصر لمن وفّر الكثير من المقدمات المادية، فيما أن هذه المشيئة قد تُنزل النصر على من يكون أقل توفيراً للمقدمات المادية، لكنه وفّر مقدمات غير مادية تستجلب النصر الإلهي وتنزله على عباده.
ويمكن تقديم إجابة تنسجم أكثر مع الاجتماع العسكري، الذي يلحظ في حسابات النصر والهزيمة جملة من العناصر أهمها العنصر البشري، الذي إن كان مشبعاً بالإيمان، قوياً بالإرادة، مصحوباً بالعزيمة، مؤمناً بأحقيّة القضية التي يقاتل من أجلها، فإنه يستطيع أن يتغلب على من يكون أكثر عدّة وعتاداً، وما ذاك إلّا للتمايز الإيماني والروحي وللتمايز في القدرة على التحمّل والصبر، حيث يصرّح تعالى بهذا الموضوع فيقول: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» (الأنفال: 65)، حيث إن الله تعالى هو الذي تولّى تربية عباده على الصبر وأدّبهم على التحمّل والثبات، وذلك من خلال فعل الإيمان واليقين وإنزال السكينة.
ويمكن تقديم إجابة ثالثة، تأخذ بعين الاعتبار الإجابة الأولى وتتماهى معها، وتتضمن أيضاً الإجابة الثانية: حيث تذهب إلى عدم انفكاك كل من عالمي الشهادة والغيب عن بعضهما، بل توجد علاقة جدلية ما بين هذين العالمين، حيث إن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، المادية إلى أبعد الحدود، من القوة والإعداد والتقنية «وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة» (الأنفال: 60)، لكن في المقابل يوجد نوع آخر من الأسباب هي أسباب غير مادية، تعمل على استجلاب النصر وإنزاله. وهذه الأسباب هي أسباب حاكمة على السبب المادي ومُقدّمة عليه، وهي أقوى تأثيراً منه، وهذا لا يعني إغفال السبب المادي، ولكن ما يُراد قوله هنا هو أنه كما يملك السبب المادي تأثيراً ما، فإن أسباباً أخرى غير مادية تملك أيضاً تأثيرها، وهي أقوى وأمضى في معادلة استجلاب النصر وإنزاله.
وعليه فإن معنى إلهية النصر، أن الله تعالى قد وفّر لعباده جميع أسباب النصر من مادية وغير مادية، وهداهم إليها وأمرهم بالأخذ بها، وأرشدهم إلى الأسباب، الأكثر تأثيراً في معادلات النصر والهزيمة، وأنزل السكينة في قلوبهم، وأيّدهم، وسدّد رميتهم، وأفرغ عليهم صبراً، وثبّتهم، وأمدّهم بمدد لا يمكن مقاربته إلا من خلال منطق الغيب ودخالته والشروط التي يجب توافرها، كي تعمل تلك العناصر الغيبية وتؤثر، من الصبر والتقوى.
وهذا يطرح سؤالاً عن دخالة العامل الغيبي في حسابات النصر والهزيمة. ومن الواضح هنا أن الرؤية الدينية هي رؤية حاسمة في هذا الموضوع، حيث تذهب إلى أن الاجتماع الأرضي بكل مجالاته ليس اجتماعاً معزولاً عن الارتباط بالغيب والتأثر به بل والخضوع له: وهو ما يفتح الباب على إجابة تتكامل مع ما تقدم من إجابات وتفصّل بعض ما تقدم فيها مما يرتبط بالبعد الغيبي وتأثيره.
إن روح القرآن الكريم وجملة الكتب الإلهية هي روح الهداية إلى الغيب والإيمان به. لكن هذا لا يعني أنه ليس للغيب منطق للعمل والتأثير، وهذا التأثير ليس محصوراً في الاجتماع الفردي بل يشمل بقية المجالات، بما فيها المجال الذي يرتبط بالمواجهة والصراع، حيث يصرّح تعالى بدخالة عنصر الملائكة في معركة بدر التي خيضت مع المشركين، ويقدم جملة من التعاليم التي توجّه إلى طلب المعونة الغيبية، وتوضح الشروط التي من خلالها يأتي ذلك المدد الغيبي. كل ذلك يبرز أهمية العامل الغيبي وإمكانية تدخّله ودوره في حسم نتائج أية مواجهة أو معركة. ولقد أبرز النص الديني شواهد على هذا التدخّل الغيبي، الذي ما إن تتوافر شروطه، حتى يتدخل قالباً المعطيات المادية وقوانينها وحساباتها، بطريقة لا يمكن فهمها إلا من خلال منطق الغيب. يذكر تعالى مواجهة النبي موسى (ع) مع فرعون حيث وصلت الأمور إلى حيث كان البحر من أمام موسى وقومه، وفرعون وجيشه من خلفهم، وبحسب المنطق المادي، فإن النتيجة قد أصبحت محسومة لمصلحة الطرف الأقوى مادياً، ولذا علّق بعض أصحاب موسى (ع) على هذا الوضع بقولهم: «إنّا لمُدرَكون» (الشعراء: 61)، فكان جواب المنطق الغيبي: «كلّا إن معي ربي سيهدين» (الشعراء: 62) عندها يتدخل الغيب: «اضرب بعصاكَ البحر» (الشعراء: 63).
ويقدّم القرآن الكريم نموذجاً آخر في معركة الخندق، حيث يقول تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها» (الأحزاب: 9)، هذه الجنود غير المرئية (الغيبية)، هي التي كان لها الدور في قلب نتيجة المواجهة لمصلحة الطرف الأضعف مادياً، وبالتالي فإن العامل الغيبي كان حاضراً بقوة وفاعلية في تلك المواجهة العسكرية.
* استاذ جامعي