محمد سيد رصاص *
أخذت المجابهة بين البعث والشيوعيين العراقيين، في يوم انقلاب 8 شباط 1963 الذي قام به البعثيون على حكم عبد الكريم قاسم، طابعاً مناطقياً بين الأعظمية والكاظمية من مناطق بغداد: بعد يوم 9 نيسان 2003، لوحظت سيطرة الأصوليتين السنّية والشيعية على كل من المنطقتين، فيما تحولت (مدينة الثورة) التي بناها قاسم للوافدين الجنوبيين إلى بغداد، من معقل للشيوعيين حتى منتصف السبعينيات إلى مركز قوة رئيسي لحزب الدعوة، وصولاً إلى (الصدريين) التي سموها (مدينة الصدر) عقب سقوط حكم صدام حسين.
لم يقتصر ذلك على العراق، بل شمل إيران أيضاً حيث كانت قوة حزب توده الشيوعي مؤثرة في الشارع أيام حركة الدكتور محمد مصدق /1951-1953/ ضد الشاه والبريطانيين، فيما لم تكن الحال كذلك في أيام ثورة 1978-1979، وهو ما تمكن ملاحظته كذلك في لبنان عندما كان الحزب الشيوعي (ومعه منظمة العمل الشيوعي التي أسسها السيد محسن إبراهيم في ربيع عام 1971) تعبيراً سياسياً رئيسياً في منطقة الجنوب اللبناني وفي الضاحية الجنوبية حتى عام 1975.
أعطى الإسلاميون ذلك اسم (الصحوة الإسلامية)، فيما يعتبرها اليساريون، ومعهم الليبراليون الجدد، نوعاً من «الردة الرجعية» ونكوصاً إلى «الظلامية»، وهو ما يقترب، أكثر من أي شيء آخر، من الحكم الإيديولوجي على مسار اجتماعي عميق، الشيء الذي هو بعيد، كل البعد، عما أعطاه تراث اليسار الماركسي لدور التعبيرات الدينية في العصر الحديث، لمّا بيَّن ــ مثلاً ــ كيف استطاعت البورجوازية الإنكليزية الناشئة، في ثورتها ضد الملك تشارلز الأول (1642-1649)، أن تستعير النزعة البيوريتانية، ذات الاتجاه الديني المتزمّت والحرفي، فكراً لحركتها السياسية التي انتهت بقطع رأس الملك الحاكم المطلق، وهو ما كان بذرة أولى للملكية الدستورية عام 1689، وكذلك هو بعيد عن بعض ألمع التحليلات الليبرالية، كالتي قدمها ماكس فيبر في كتاب «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، لما أعطى نظرة تحليلية جديدة لدور البروتستانتية، كمناخ فكري ــ سلوكي، في ظهور الرأسمالية وانتصارها، وهو أمر لم يقتصر على التعبيرات الدينية في العصر الحديث، من حيث استعارتها من مخزون الماضي للقيام بوظيفة اجتماعية ــ سياسية حديثة، وإنما امتد ذلك إلى نزعات سياسية لادينية، مثل يعاقبة الثورة الفرنسية الذين استعاروا عناصر من تراث روما وصوَّبوه ضد الكنيسة الكاثوليكية والحكم الملكي المطلق.
يلاحظ، في هذا الإطار، أن صعود الإسلاميين في العالم العربي (إذا تركنا إيران التي سيطرت التعبيرات الدينية على جمهور واسع من فئاتها الوسطى والفقيرة منذ الستينيات، وتركيا التي بدأ صعود الإسلاميين فيها في الثمانينيات) قد انطلق في السبعينيات، بعد موجة سادت فيها الأفكار الغربية الحديثة بدأت مع سقوط الدولة العثمانية عام 1918، وهو ما شمل الإيديولوجيات الثلاث: الليبرالية، الماركسية، والنزعة القومية العربية المستمدة من الأفكار القومية الحديثة بطبعاتها الألمانية والفرنسية والإيطالية، وقد كانت حركة الإخوان المسلمين (1928) اتجاهاً معاكساً في وجه تيارات سائدة، الشيء الذي هو ملاحظ أيضاً على كتاب السيد محمد باقر الصدر: «فلسفتنا»، المكتوب في أواخر الخمسينيات عند تأسيس حزب الدعوة، حيث لا يمكن عزل تكريس السيد الصدر معظم صفحات الكتاب للسجال الفلسفي ــ الفكري مع الماركسية عن المشهد السياسي العراقي الذي كان لحظتها متحدِّداً بمدٍّ شيوعي قوي وجد في حكم قاسم مظلةً وسنداً له.
كان انحسار الليبرالية العربية القديمة مترافقاً مع هزيمة 1948 ومع فشل أحزابها الحاكمة في حل المسألة الزراعية، فيما بدأ تراجع التيار القومي العربي بعد 5 حزيران 1967، بينما كان دخول الحركة الماركسية العربية في مرحلة الجزر منذ السبعينيات مترافقاً مع انتهاء الهجومية اليسارية العالمية ــ البادئة عام 1917 ــ وبداية اختلال التوازن الدولي لمصلحة الغرب، وهي التي كانت حركات مدِّها العربي (بين 1945-1948، ثم بين 1956-1959) متناغمة مع صعود القوة السوفياتية بعد الحرب أو مع ما قدّمه السوفيات من خدمات للعرب (حرب السويس)، مثلما كانت انتكاساتها ومطبّاتها مترافقة مع موقف موسكو من قرار التقسيم وتسابقها مع الغربيين للاعتراف بإسرائيل، ثم مع صدامها (ومعها الشيوعيون المحليون في مصر وسوريا والعراق) مع عبد الناصر في عامي 1958-1959. يبدو أن المجتمعات هي، مثل الطبيعة، لا تعترف بالفراغ، حيث يلاحظ أن الفئات والطبقات الاجتماعية التي وقفت مع القوميين العرب، في الخمسينيات والستينيات، قد انزاحت نحو الإسلاميين خلال العقود الثلاثة الماضية في المنطقة الممتدة بين النيل ودجلة، مضافاً إليها المهمّشون الجدد، من النازحين الريفيين (وأغلبهم من المتعلّمين) إلى الضواحي الفقيرة للمدن الكبرى، وهو ما يلاحظ في الرقعة الجغرافية الواقعة بين القاهرة والجزائر.
إلا أن ذلك ليس ملئاً للفراغ، أو يقوم على فاتورة فشل الآخرين فقط، وإنما تعبير عن حراك اجتماعي فشلت التعبيرات السياسية الحديثة، عند العرب، في الاستمرار في التعبير عنه بعدما فشلت في أن تكون تعبيراً ناجحاً عنه، ما أدى إلى انزياحات لكتل اجتماعية كبرى نحو مواقع إيديولوجية أخرى، وكذلك كان ذلك تعبيراً عن مسار اجتماعي، وجد أفراده أنفسهم في موقع المتضرر من السياسات القائمة للأنظمة، وهو ما ترجم نفسه في فكر وسياسة وفي برنامج اقتصادي ــ اجتماعي، هو في الضفة الأخرى من موقع الأنظمة.
ربما، ما كان من الممكن أن يحصل ذلك إلا في مجتمعات ما زال حاضرها موزعاً ومتنازعاً عليه بين (الماضي) و(الغرب)، وما زال حديثوها ومعاصروها يشعرون ويحسون ويعيشون الكثير من مشكلات الماضي حاضرة بين ظهرانيهم وصدورهم، وهو ما وجد شيء مماثل له في الغرب بين فترتي عصر النهضة والثورة الفرنسية حتى وُجدت معادلة فكرية ــ ثقافية بين (الحاضر) و(الماضي)، وذلك في مجتمعات لم تشعر بثقل (الآخر) المهدِّد، بل كانت سائدة عالمياً، بخلاف العرب والمسلمين الحديثين والمعاصرين الذين شعروا ويشعرون بأن الغرب المقتحم للمنطقة، خلال القرنين الماضيين، يحمل الكثير من المسيحية، مثله مثل الصهيونية المغتصبة لفلسطين، التي قامت وتقوم على التوراة والتلمود، حيث يلاحظ أن بداية الانتعاش الفكري للتيار الإسلامي قد حصلت بعد سقوط فلسطين فيما حصل ذلك سياسياً عقب هزيمة 1967، وهو ما أخذ مدّاً جديداً عقب سقوط بغداد بعد فترة من الانحسار عاشتها الحركة الإسلامية العربية في النصف الثاني من التسعينيات.
السياسة، كمكثِّف تعبيري للبنية الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ الثقافية بالتنويعات المختلفة لهذه البنية الموجودة في مجتمع محدد ومعين، يمكن أن تعبّر عن أشكال من الصراعات الاجتماعية التي تأخذ أحياناً شكلاً طبقياً، أو قومياً، أو دينياً، أو قومياً دينياً، أو فئوياً، أو جهوياً، ولكن عبر حمل تلك الأشكال لحمولات ومحتويات اقتصادية ــ اجتماعية ــ ثقافية، يحملها كل طرف من أطراف الصراع، وهي لا تعبّر عن عدم وجود طبقات اجتماعية، بل عن نزوع هذه مجتمعةً، أو معظمها، إلى تغليب أحد هذه الأشكال في لحظة تاريخية ــ سياسية معينة وفي أثناء وعند درجة معينة من درجات تطور المجتمع، ولو أن المصالح الاقتصادية ــ الاجتماعية (+المحمول الثقافي) تكون ــ وتبقى ــ هي الوقود المحرِّك لهذه الصراعات.
* كاتب سوري