مهدي شحادة *
راهن الدبلوماسيون الأوروبيون حتى اللحظة الأخيرة على تطور ولو نسبي في موقف السلطات الإيرانية لتجنّب الدخول في مشادة فعلية مع طهران، وبعد اعتماد مجلس الأمن الدولي بتاريخ 24/3/2007 وبالإجماع القرار الرقم 1747 والخاص بفرض إجراءات قسرية جديدة على الجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من البعد المحدود للعقوبات المعلنة الجديدة وانعدام تأثيرها عملياً في سير مؤسسات الدولة الإيرانية، يعكس إدراجها في آلية بدأت منذ ثلاثة أشهر والتصويت عليها بالإجماع انهياراً صريحاً في علاقة القوة القائمة حتى الآن بين الطرفين. ويرى الدبلوماسيون الأوروبيون ان المعركة المعلنة بين طهران والدول الغربية تنذر بمواجهة وخيمة العواقب على الطرفين، وأنها ستطال من دون شك أداء الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط تحديداً، وستلقي بظلالها على الموقفين في أفغانستان والعراق إضافة الى لبنان.
وتندرج العقوبات الجديدة المعلنة ضد إيران ضمن منهجية خططت لها الولايات المتحدة منذ البداية ويقوم الأوروبيون بتسويقها على مراحل، وتتمثل في خنق النظام الإيراني، وتضييق هامش مناوراته وتحديداً أمام الرأي العام، والسعي الى إحداث قطيعة بين مؤيدي الدول الغربية وبين التيار المتشدد. ولم تتمكن طهران بوضوح هذه المرة من نسف الإجماع المسجل داخل مجلس الأمن الدولي بسبب التنازلات المعلنة وغير المعلنة أيضاً التي قدمتها الدول الغربية ليس للدول غير المنحازة مثل قطر وجنوب إفريقيا وأندونيسيا فحسب، بل لكل من روسيا والصين من جهة أخرى.
ومن بين هذه التنازلات استبعاد أي ركون للقوة والحرص على استئناف الاتصالات وترك الباب مفتوحاً للحوار. وتوسِّع العقوبات الجديدة دائرة الإجراءات الاقتصادية والتجارية المتخذة ضد إيران، لكنها تستبعد وبشكل رسمي أي عمل عسكري.
وتجري المضاربات ضمن الأوساط الدبلوماسية حول ردود الفعل المتوقعة من إيران التي ستختلف هذه المرة من دون شك على ما يتم ترديده للاستهلاك المحلي والدعائي، والمتمثلة في التركيز على حق الاستمرار في الأنشطة النووية.
وفي خطوة مهمة لجسّ نبض القيادة الإيرانية أسرع منسّق السياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا إلى الإعلان أن الاتحاد الأوروبي الذي يدير الملف الإيراني جزئياً كلّفه رسمياً باستئناف الاتصالات بكبير المفاوضين الإيرانيين علي لاريجاني. ويرى خبراء الشأن الإيراني في بروكسل ان إيران معتادة أنظمة العقوبات المختلفة طوال العقود الثلاثة الماضية، وان أية عقوبات جديدة لن تحدث تغييرات جوهرية في موقفها.
وأمام هذه الوضعية فإن التركيز سيكون على بدائل أخرى تُتخذ بموازاة العقوبات المعلنة.
ويعتقد العديد من المحلّلين الأوروبيين أن إيران، وعلى رغم ما تسعى الى إظهاره من مظاهر القوة السياسية، لن تكون قادرة طويلاً على مواجهة حصار استراتيجي لها وخاصة على الصعيد السياسي الإقليمي وفرض عزلة عليها.
ويبدو ان استراتيجية الاستمرار في الحوار مع إيران والمعلنة رسمياً من كل الأطراف الأوروبية والأميركية نفسها إنما تندرج ضمن هذا الاعتبار الجيوسياسي والمتمثل في تجنّب عزل إيران.
وتوجد قناعة بأن السلطات الإيرانية وفي نهاية المطاف لن تجازف بالاستمرار في رفض سلّة المعاملة المتميزة التي عرضها عليها الأوروبيون الصيف الماضي والمتضمنة حوافز سياسية وتجارية محددة لم تعلن إيران رفضها لها حتى الآن.
ويبذل العديد من الدبلوماسيين جهوداً لتوظيف عملية احتجاز إيران فرقة من رجال البحرية البريطانيين لإطلاق مفاوضات مع طهران قد تتجاوز هذه الإشكالية لتطال جوانب أخرى من التعامل والتنسيق.
وكان منسق السياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا قد أعلن ان الاتحاد الأوروبي لم يباشر بشكل رسمي أو غير رسمي أية اتصالات مع طهران في شأن مصير البحارة البريطانيين الخمسة عشر المحتجزين حالياً في إيران والذين تقول طهران إنهم أُسروا داخل المياه الإقليمية الإيرانية.
وقال سولانا خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ياب ديهوب سخفير في بروكسل عقب الاجتماع الدوري لما يعرف باللجنة السياسية المشتركة الأوروبية ــ الأطلسية يوم 26 آذار 2007، إن قضية احتجاز البحارة البريطانيين تثير قلقاً أوروبياً لكن الاتحاد الأوروبي لم يقم حتى الآن بأية تحرّكات رسمية في شأنهم.
وكان زعماء الاتحاد الأوروبي قد دعوا الأحد بتاريخ 25/3/2007 على هامش قمتهم في برلين بمناسبة مرور 50 سنة على انطلاق الاتحاد الأوروبي الى ضرورة إطلاق سراح البحارة البريطانيين ورفضوا الربط بين مصيرهم وتطورات الملف النووي الإيراني. وقال سولانا إن مسألة البحارة البريطانيين مسألة منفصلة تماماً.
وتبدو إيران في حاجة ماسة الى الاستثمارات الخارجية وتأهيل مرافقها وبنيتها الاقتصادية في وقت يتجاوز فيه عدد العاطلين عن العمل داخلها نسبة عشرين في المئة.
وتخشى الدول الغربية في نهاية المطاف، إذا ما صعّدت العقوبات بشكل غير مناسب وموجع ضد إيران، أن تلقي بطهران في أحضان موسكو بشكل أكبر، وإذا ما قررت روسيا التراجع عن دعم الجبهة الحالية داخل وخارج مجلس الأمن الدولي وقررت التنسيق مع الإيرانيين خدمة لمصالحها الخاصة وتوظيف عامل الطاقة مجدداً للضغط على الغرب.
ويقول النائب البرتغالي في البرلمان الأوروبي باولو كازكا الذي يقود حملة لوبي فعلية ضد النظام الإيراني لمصلحة المعارضة الوطنية داخل المؤسسات الأوروبية ان العقوبات الاقتصادية لا تحمل أية ضمانات محددة بنجاحها وتحقيق أهدافها، ولكنها تسفر عن الإسراع في بلورة حلول دبلوماسية في نهاية المطاف وتجنّب الركون الى أسلوب الحرب(...).
ويبذل اللوبي الصناعي الأوروبي وخاصة في ألمانيا وإيطاليا جهوداً كبيرة هذه الأيام لثني الأوروبيين عن تصعيد العقوبات ضد الجمهورية الإسلامية. وتقول الأرقام الرسمية الأوروبية ان واردات إيران من دول الاتحاد الأوروبي سجلت ارتفاعاً يناهز ثلاثين في المئة خلال الفترة الممتدة من عام 2003 إلى 2005، وبلغت 13 مليار يورو.
وتشمل الواردات الإيرانية بشكل رئيسي المعدات الصناعية والنقل والمواد الكيميائية.
وارتفعت الواردات الأوروبية من إيران خلال الفترة نفسها بواقع 62 في المئة وبلغت 12 مليار يورو، إضافة إلى ان عدة مؤسسات أوروبية مثل شركة «شل» البريطانية ــ الهولندية، وتوتال الفرنسية وراسبول الإسبانية تقوم باستثمارات فعلية في قطاعات النفط والغاز الإيراني وتحظى بتغطية ائتمانية رسمية من حكوماتها.
وتملك إيران والدول الغربية حالياً فترة شهرين لتقويم علاقة القوة بينهما وسط مراهنات الدول الغربية على سلاح الانقسامات الداخلية الإيرانية، فيما تراهن إيران مثلما فعلت حتى الآن، على تحسّن الأوضاع الإقليمية لمصلحتها... أي على مزيد من الفرقة بين روسيا والغرب، ومزيد من المجابهة داخل أفغانستان والعراق ضد القوات الأميركية، ومزيد من الرفض للسياسة الأميركية داخل الأراضي الفلسطينية...
* مدير مركز الدراسات العربي ــ الأوروبي