فنسان الغريّب *
لا يمكننا فهم ما يحصل لإيران اليوم من تعرّضها لضغوط شديدة من قبل المجتمع الدولي ـــ وخاصة الغربي منه ـــ للتراجع عن برنامجها النووي والانصياع لشروط وقواعد اللعبة التي يفرضها الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، من دون فهم آليات السيطرة الرأسمالية الغربية على العالم ككلّ، حيث إن أي متجاوز لهرمية وتراتبية النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وتابعيها الأوروبيين، سوف يتعرّض لعقوبات اقتصادية شديدة تفرضها المؤسسات المالية الدولية، وإن لم يرتدع وتحدّى إرادة الميهمن، فإن عقابه لن يكون أقلّ من ضربة عسكرية تنفّذها الذراع العسكرية الأميركية ـــ بحسب تعبير توماس فريدمان ـــ مستعينة بحلف شمال الأطلسي. لا بدّ لنا إذاً من ربط ما يجري لإيران اليوم بالهيمنة الاستعمارية المتجدّدة والعولمة المسلّحة ومشروع الليبرالية الجديدة في السيطرة على العالم وإخضاعه لمتطلبات الرأسمال المتفلّت من عقاله، والذي هو شكل جديد للاستعمار القديم، ولكن بأشكال أكثر حداثة. في كتيّب بعنوان «لا للعولمة الرأسمالية»، الصادر عن مركز الدراسات الاشتراكية في مصر، نقرأ أن الرأسمالية قد ارتبطت دوماً بالهيمنة الإمبريالية والتوسّع الاستعماري، وأنه مع اتّساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، لعبت مؤسسات الدولة الرأسمالية (السياسية منها والعسكرية)، دوراً هاماً في حماية وتدعيم مصالح رأسمالياتها خارج الحدود الوطنية.
وإذ تعدّ سياسات الليبرالية الجديدة في هذا الإطار استمراراً للرأسمالية تلك، ولكن بشكل أعنف، فإن أحدّ أهم ركائزها تكمن في حماية المصالح الرأسمالية خارج حدودها وتوسيع نطاق هذه المصالح وتطويرها. وإذا كانت سياسات الليبرالية الجديدة تهدف، وتحت شعار العولمة، الى تحرير رؤوس الأموال والاستثمارات من كافة القيود، وتوفير كافة أشكال الحماية لها عبر العالم، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الهيمنة، حيث يتزايد دور الدولة (وخاصة الأميركية) يوماً بعد يوم في دعم الرأسمالية وحمايتها (داخلياً وخارجياً). فتحت شعار الحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي أكثر من استفاد منها شركات النفط والسلاح الأميركيين، ازدادت الرقابة على التحرّكات الشعبية والعمالية في أميركا وتوسّعت دائرة الحروب الأميركية لتخرج الاقتصاد الرأسمالي الأميركي من أزماته المتنامية. كما إننا نجد أن مؤسسات العولمة (كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين)، لا يتوقّف دورها عند دعم المصالح الرأسمالية عبر العالم لتحسين مناخات الاستثمار، بل إنها تتدخّل في الوقت المناسب لإنقاذ تلك المصالح (كما حصل للعراق بعد أن بدأ صدام حسين يهدّد المصالح الرأسمالية الغربية عبر مشروعه الطموح جداً في السيطرة على منابع النفط في الخليج، وبالتالي تهديد الاقتصادات الغربية ككلّ).
وتقوم أيضاً المؤسسات السياسية الدولية (كمنظمة الأمم المتحدة) بدعم الهيمنة الإمبريالية وإضفاء الشرعيّة عليها (وما قرارات الأمم المتحدة منذ عام1991 وحتى اليوم، أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتحوّل العالم الى القطبيّة الأحاديّة بقيادة الولايات المتحدة، سوى خير دليل على ذلك). إلا أن الخطير في الأمر هو أن تلك المؤسسات المدنيّة، لا تستطيع وحدها حماية المصالح الغربية، أو مصالح الثلاثيّة على حدّ تعبير سمير أمين، وإزالة الحواجز التي تقف أمام حركة الاستثمار العابر للحدود، بالرغم من قدرتها على فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية (كما حصل للعراق والذي أدّى الى وفاة عشرات الألوف من الأطفال، أو كما هو مخطّط لإيران اليوم)، من دون الاستعانة بـ«الأداة العسكرية» لحسم الصراع بين مصالح الرأسمالية الغربية والمصالح الوطنية لدول العالم الثالث، وهنا يظهر الوجه المسلّح للعولمة وذراعه العسكرية المتمثّلة بوزارة الدفاع الأميركية وحلف شمال الأطلسي، حيث إنه في عصر العولمة الذي نعيش، وفي ظلّ سياسات الليبرالية الجديدة، من غير المقبول أو المسموح لأنظمة أو دول أن تعوق توسّع مصالح الغرب وعلى رأسها مصالح الشركات الأميركية. ففي أفغانستان، لم يكن مقبولاً أن يقوم نظام الطالبان بتعطيل خطّ أنابيب نفط القوقاز وإضاعة فرص الاستثمارات الضخمة على شركات النفط الأميركية العملاقة. كما إنها لم تكن لتترك احتياطي النفط الضخم في الشرق الأوسط بيد رجل كصدام حسين. فكان الدور الذي لعبته الذراع العسكرية للعولمة الأميركية لتأمين وحماية مصالح الشركات الكبرى تلك بالقوّة. وما التوجّه نحو خصخصة قطاع النفط في العراق وتطبيق قوانين السوق الحرّة فيه بعد الغزو مباشرة، سوى خير دليل على ذلك، إضافة طبعاً الى عقود إعادة إعمار ما دمّرته الحرب وعقود النفط الضخمة والتي حظيت بمعظمها شركات أميركية، أهمها هاليبرتون ذات الصلة الوثيقة بنائب الرئيس ديك تشيني وغيرها. هذا من دون أن ننسى الفوائد الجمّة التي توفّرها الحروب التوسّعية الأميركية، تحت شعار القضاء على «محور الشرّ»، لشركات صناعة الأسلحة الأميركية، والتي ارتفعت قيمة أسهمها بعد أحداث 11 أيلول 2001 وحربي أفغانستان والعراق، ما تسبّب بمضاعفة الأرباح لديها وتحريك عجلة الصناعات الأميركية التي كانت لتعاني من ركود وتباطؤ في أعمالها لولا تلك الحروب، من دون أن ننسى إنعاشها للاقتصاد الأميركي الذي يعاني من منافسة حادّة من قبل اقتصادات الصين وأوروبا واليابان. إن أداة القوّة ضرورية إذاً لحماية مشروع الهيمنة الرأسمالية الغربية.
يقول توماس فرديمان إن سلسلة مطاعم ماكدونالد وغيرها لا تستطيع أن تعمل بحرّية في العالم من دون الحماية التي تؤمّنها حاملات الطائرات والصواريخ الأميركية. ولذلك فإنه من غير المقبول، من منظور الولايات المتحدة، أن تتعرّض تلك القوة لأي تهديد أو منافسة من قبل أي دولة من دول العالم الثالث، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الجيوستراتيجية بالنسبة لها، حيث يوجد أكبر احتياطي للنفط في العالم، هذا النفط الذي أصبح عصب الاقتصاد العالمي والمتحكّم به يكون هو المتحكّم بصنع القرار السياسي على المستوى الدوليّ، كما توجد إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة وقاعدتها المتقدّمة في المنطقة. من هنا يكون امتلاك إيران للسلاح النووي خطراً ذا حدّين على كلّ من المصالح الأميركية في المنطقة ومصالح إسرائيل. وهو أمر غير مسموح به على الإطلاق من وجهة النظر الأميركية والإسرائيلية على حدّ سواء.
* باحث اقتصادي