فؤاد خليل *
من نافل القول أن السُنّة في لبنان يشكلون جزءاً عضوياً من الأكثرية السُنّية في بلاد العرب. وقد أمكنهم ذلك من أن يمثلوا جماعة تنتمي إلى امتداد محيطي، وتنتظم في موقع مختلف عن سواها. فكانت تتهيّأ لها القدرة على أن تنضوي إلى التركيبة اللبنانية كجماعة مركزية، أي كجماعة تستشعر وجوداً أكثرياً بين جماعات أقلوية متعددة...
والجماعة حين تستبطن مثل هذا الشعور، تتوافر لها شروط الأهلية لكي تؤدي دور الاستيعاب، وتتموضع في الوسط في علاقتها بالآخر مهما يكن انتماؤه أو هويته الفكرية أو السياسية أو الدينية.
من هنا حمل التركيب الإجمالي للسُنّة في لبنان ميزات الاستيعاب والوسطية. ومنهما تولد الاعتدال لديهم وتحوّل بين ظهرانيهم إلى رؤية ونهج وسلوك وممارسة. أما انتظامهم في موقع الجماعة المركزية فقد جعلهم يرون أنفسهم بأنهم أهل الدين الحنيف أو الجماعة المؤتمنة على حراسته والذود عنه، وبأنهم حافظو العروبة هوية الأمة، يعرفون به ذاتهم الجمعية، وتعرف بهم حقيقة وجودها حتى غدت علاقتهم بها بمثابة العلاقة القائمة بين المادة والصورة...
هذا هو باختصار البنيان الأصلي لأهل السُنة في لبنان، وهو بنيان استولد تبدياته في السياسي والأيديولوجي والثقافي، وأنتج تراثه الخاص في العلاقة مع الكيان والدولة...
وهكذا، عندما تجاوز قادة منهم مرحلة مؤتمر الساحل 1936 أي مرحلة الدعوة إلى الوحدة مع سوريا، دخلوا في لبننة سياسية محسوبة لم تلبث أن انطبعت بمميزاتهم الموصوفة، ولا سيما أنها جاءت انعكاساً أو تعبيراً عن موقعهم المجتمعي الوسطي.
مذ ذاك أخذت تلك اللبننة توظّف قوامها الخاص في بناء دولة الاستقلال مع الشريك المسيحي وبخاصة الماروني. فكان أن انتهجت طريق التمايز السياسي والثقافي عن الدعوة إلى كل من الكيانية المسيحية والوحدة الإسلامية. وهما اتجاهان عرفهما لبنان في فترة الانتداب، ثم انزويا بعد إعلان الميثاق الوطني. لكن أثرهما بقي حاضراً بشكل أو بآخر في تضاعيف النسيج اللبناني... بتعبير آخر، لقد رفضت اللبننة أعلاه كلا الاتجاهين من منطلق وسطيتها كرؤية تقوم على الاعتدال والتعقّل والانفتاح، وكموقع ينهض على ضبط التوازنات في حال اختلالها وعلى إمكانية استيعاب التناقضات في زمن تفجّرها وحسن تدبير الاختلافات أثناء وقوعها...
وفي المساق نفسه، مارس قادة السُنّة ورجالاتهم من موقع رئاسة مجلس الوزراء شراكتهم الوطنية والسياسية مع الطرف الآخر. فلبنان ذو الوجه العربي أو الوجه العربي الميثاقي، هو بمعنى ما وجهٌ سنّي جاء يتوسط آنذاك بين تغريب كامل كان قد دعا إليه بعض اللبنانيين وهم في أغلبهم من المسيحيين، وتعريب تام أو وحدة مندمجة مع سوريا كان قد دعا إليها بعض آخر منهم وهم في معظمهم من المسلمين. لذا كان الوجه العربي منفتحاً على الإسلام المعتدل كما على المسيحية المعتدلة، غير أن انفتاحه على الاعتدال لم يكن يعني حياده السلبي تجاه أي نزعة متطرفة تريد أن تكسر وسطيته أو تتغلب عليها لمصلحة طرف دون آخر...
فعندما حاول العهد الشمعوني أن يطيح وسطية اللبننة السياسية التي أرادها رجالات السُنة نهجاً ورؤيةً في العلاقة مع الكيان والدولة، أو أن ينقلب على التعريب لمصلحة التغريب السياسي، وجد نفسه في خضم صراع أهلي انتهى بإعادة إنتاج التوازن في قواعد المشاركة في الحكم وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، أو بمعنى آخر، بإزاحة مشروع الهيمنة والعودة إلى خط الاعتدال في تسيير شؤون البلاد...
في ضوء ذلك، كان التعريب الذي أجراه العهد الشهابي في سياسته الخارجية نوعاً من الترجمة العملية للوجه العربي الميثاقي، وهو ما شكل بيئة ملائمة لترسيخ اللبننة السياسية التي اختطّها رجالات السُنّة منذ الاستقلال، ولتعزيز دورهم كرجالات دولة، في دولة يعرفون أنها استبطنت القلق الكياني منذ تأسيسها، مثلما يعرفون أن علاج هذا النوع من القلق أو ما ينجم منه من اهتزاز عند كل منعطف محلي أو إقليمي، لا يكون إلا بالوسطية، أي برؤية الاعتدال لموقع لبنان من محيطه، ومن ثم لتثبيت عيشه المشترك على قواعد متوازنة.
تابع أولئك الرجالات دأبهم السياسي في ممارسة رؤيتهم كلما اختل التوازن الوطني أو أصيب لبنان باعتلال. فالأزمة التي عصفت بالشهابية في نهاية الستينيات، لم يكن ممكناً علاجها إلا بجبه محاولات كسر التوازن الداخلي الذي أراده بعض القادة اللبنانيين وذهب إليه مستفيداً من تداعيات هزيمة حزيران 1967. ومن ثم لم يكن ممكناً إنهاء الأزمة إلا بخط وسطي يقف على حقائق المتغيّر المحلي والإقليمي من دون أن ينقلب على توازنات العيش المشترك، أو يدير ظهر المجنّ إلى التعريب الميثاقي الذي تجدد في التسوية الناتجة من الصراع الأهلي 1958.
وفي الحرب الأهلية حيث تفككت الدولة وانهار العيش المشترك وتنامت هويات كيانية قاتلة شطرت البلد إلى كانتونات متجاورة، بقي قادة السُنة على عهدهم في الوسطية والاعتدال. فلم يبنوا ميليشيا خاصة بهم، ولم ينخرطوا في حرب لا مآل لها سوى ضرب الدولة وتفكيك الكيان المجتمعي. لذلك عملوا ما أمكنهم على المواءمة بين المأمول والممكن، أي على ترميم هيكل الدولة المتهاوي، وعلى كبح تداعيات التفكيك المجتمعي على المصير الوطني، مثلما جهدوا من أجل صون الحد الأدنى من التوازن في معادلات العيش المشترك، وشكلوا ضامناً سلطوياً للتعريب لئلا يتآكل من الغمر الطائفي أو من انتماءات فئوية ضيقة ازدهرت بها الساحة في الثمانينيات. ثم لم يتوانوا تالياً عن محاولات إطفاء لهيب الحرب بعدما تحولت إلى حرب عبثية وفق كل المقاييس...
بعد توقّف الحرب ودخول لبنان مرحلة الطائف أو ما عرف بالجمهورية الثانية، حظي السُنة برجل كبير آخر هو رفيق الحريري. الرجل شغل منصب رئاسة مجلس الوزراء طوال عقد من الزمن، وطبع المرحلة باسمه على غير صعيد. ذلك ان الرئيس الحريري مثّل مشروعاً تقاطع فيه المحلي بالإقليمي والدولي. وقد قيل في مشروعه الكثير وخُصَّ بتحليل واسع من أكثر من مشرب واتجاه. ولقي التجاوب والترحيب من قوى، وقوبل بالتوجّس والريبة من قوى، ورُئي عنواناً للتحديث والعصرنة من فئة واعتُبر وصفةً مؤذيةً للجسم اللبناني من فئة.. لكن مهما يكن القول في المشروع ومقاصد القول، يبقى من الأكيد ان صاحبه انتهج خط الوسطية والاعتدال. وهو خط أراده ناظماً لمعادلات العيش المشترك وتوازنات الحكم في الدولة، وأراده اللحمة الحقيقية للوحدة الوطنية ومقياساً للنظر في علاقات لبنان بدول محيطه العربي...
آمن الرئيس الحريري بنهجه، ورأى ان لبنان يقوم بالوسطية والاعتدال. بهما يترسخ بنيانه. وبنقيضهما يهتز كيانه. لذا، كان الطائف في نظره مدوّنة تعاقدية بين الفرقاء اللبنانيين، تحفظ ثوابت الكيان وتوازنات الدولة على قواعد وفاقية لا يمكن ان تكون إلا وسطية ومعتدلة. وكل انتهاك محلي أو إقليمي لهذه القواعد، كان يعتبره افتئاتاً على حقيقة لبنان التي تتجسّد برأيه عيشاً بالاعتدال العاقل وهويةً بالعروبة واستمراراً بالدولة العصرية...
لكن ذلك كله، لم يحجب بروز الأزمات، من وقت إلى آخر في عقد التسعينيات، التي اتخذت أشكالاً ومظاهر متنوعة، من مثل التباين في تحديد حجم المرجعيات الطائفية، وتداعيات الترويكا على الحياة السياسية، والتجاذب حول رسم التوازنات في تركيبة النظام. غير أن تلك الأشكال والمظاهر كانت تعكس في جانب، مفاعيل الرعاية الإقليمية على الواقع السياسي في البلد، وكانت تعبّر عن الاختلال العميق في أداء النظام اللبناني أو في آليات اشتغاله في جانب آخر.
ومع حلول عام 2004 أي بعد الأحداث المتلاحقة منذ الحادي عشر من أيلول 2001 سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي، دخلت الأزمة في لبنان في طور جديد. وقد تركزت على الوجود السوري فيه. ثم أدى التشابك في أبعادها الثلاثة إلى صدور القرار الدولي 1559 والى قرار التمديد لرئيس الجمهورية. فانطلقت في إثرهما حركة «معارضة» أخذت تدعو إلى إخراج السوريين من البلد. ونشأت في المقابل حركة «حليفة» أخذت تنادي بالدعم والتأييد لهم... إذ ذاك برزت معالم استقطاب ثنائي ما لبثت أن تعززت بعد محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة... ووسط ذاك المناخ الانقسامي، وقف الرئيس الحريري على خط سير الوسطية. فترجم سيره في أنه كان معارضاً وليس في حركة المعارضة، مثلما كان مؤيداً وليس في الحركة الحليفة. لكن التجاذب الدولي ــ الإقليمي حول لبنان ما كان ليدعم الوسطية فيه أو أن يصونها. بل على العكس، أراد له أن يدخل في مسار من التوتر والاضطراب. وهو ما وجد تحققه الأمثل في اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط من عام 2005...
أحدثت جريمة الاغتيال، لدى الطائفة السُنية، صدمة بنيوية غير مسبوقة أو ما يمكن أن يسمى بمعنى ما صدمة جيولوجية هزت أعمق طبقات وجدانها الجمعي، فأدخلتها في حالة من القلق الوجودي الذي سرعان ما استحضر صورة الراعي الإقليمي وهو يصنع تاريخ الاغتيال السياسي في صفوف قادتها، وأزاح النقاب عن ذاكرتها المشبعة بالجروح والندوب العميقة. ثم سرعان ما وضعها في حاضر ثقيل غُيّب عنه زعيمها الأول، وتُركت عرضة لدويّ عاصف ومنطوٍ على نزوعات ليست أصلية في تراثها الفكري والسياسي...
وجراء ذلك، دخلت الطائفة السُنية في واقع جديد. فوسط دويّها الداخلي اختلجت أوساط منها في تيار المستقبل وفي خارجه بنزوع نحو الفئوية أو بانشداد نحو التمذهب الذي راح يتبدّى في أشكال ضمنية أو صريحة من التعصّب ضد الطائفة الشيعية. إلا أن تلك الاختلاجات التي وجدت ما يماثلها في المقلب الآخر، لم تُترك لتنمو أو تنتعش أكثر، بل جرى تطويقها من القيادات الزمنية والدينية في الطائفتين في ضوء جملة من المواقف المتعقّلة ومن خلال التحالف الرباعي الذي تشكل في سياق الانتخابات النيابية في صيف 2005.
لكن انهيار هذا التحالف جدّد حالة التعصّب التمذهبي عند الطائفة السُنية كما عند سواها، ولا سيما أنه اندرج في ظل انقسام طائفي واسع جعله ينفتح على ما هو أبعد وأخطر... وبالفعل، ما إن انتهت حرب تموز في آب من عام 2006، حتى انفتح التعصب المتبادل على العمق والاتساع والشمول، أي إنه دخل في طور متقدم ما فتئ أن أفصح عن نفسه في دينامية من التوتر السني ــ الشيعي، الأمر الذي هزّ الأمان الداخلي في صفوف كل طائفة، ووضع السلم الأهلي على حافة الهاوية. ولعل أحداث اليومين المشهورين في كانون الثاني 2007، جاءت تكشف بالملموس عن عمق القعر الذي يصنعه التوتر المذهبي لتلك الهاوية...
* باحث واستاذ جامعي