ألبير خوري *
حرب العراق أدت إلى سقوط ضحايا كثيرين من كبار المسؤولين في الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم. سوف يذكر التاريخ جورج بوش وديك تشيني، الرئيس ونائبه، أنهما صانعا أبشع وأشرس حرب عبثية في بدايات الألفية الثالثة. دونالد رامسفيلد أقيل من منصبه، بعدما أكدت استطلاعات الرأي في الفترة الأخيرة، أنه «أسوأ وزير دفاع في تاريخ الولايات المتحدة، القديم والحديث».
وحسب بعض التحاليل، أصيب الرجل بـ «جنون العظمة»، وهو ما جعل قراراته «المتفردة والخاطئة»، عبئاً وخطراً يهدد القوات والمصالح الأميركية حول العالم. ويتردد في واشنطن، أن كولن ما زال مسكوناً بالدور الذي قام به حين كان وزيراً للخارجية، وساهم بمواقفه بين آخرين في غزو العراق، خصوصاً ما تضمنه خطابه الشهير في الأمم المتحدة، عن امتلاك صدام حسين أسلحة الدمار الشامل وتعاونه مع «قاعدة» بن لادن. جون بولتون، من جهته، فشل في الحصول على نسبة أصوات داخل الكونغرس، تمكنه من التجديد له سفيراً لواشنطن في المنظمة الدولية.
غير أن بين هؤلاء وكثيرين غيرهم في موقع القرار، يحتل لويس ليبي المعروف بـ «سكوتر»، أقله حتى الآن، رأس قائمة الضحايا، وقد أصابته الاتهامات على الصعيدين الشخصي والمهني من كل الجهات، وأيضاً الشخصية الأكثر إثارة وغموضاً في الأوساط السياسية والمخابراتية الاميركية.
في عام 2003، تسلّم ليبي موقعه، مديراً لمكتب نائب الرئيس، وسرعان ما أصبح «تشينياً» أكثر من تشيني نفسه.. نافذاً مطلق الصلاحيات، وقراراته غير قابلة للنقاش، الأمر الذي أثار الكثير من الغيرة بين كبار الموظفين حيناً، والكثير من الشكوك أحياناً أخرى حول طبيعة مهماته والأهداف التي جعلت تشيني يتنازل عن العديد من مسؤولياته لمصلحة نائبه.
و«البيوت» السياسية الاميركية غير معزولة بعضها عن بعض، على الرغم من صراع المصالح فيما بينها. انكشفت الصورة تباعاً، حتى استحقت شكلها البانورامي الفاضح لأسابيع قليلة مضت، بعدما تمكنت أجهزة الاستخبارات من تركيب قطع «البازل» في مواقعها الحقيقية.
أجرى ليبي عدة مكالمات هاتفية مع صحافيين تناولت حياة عميلة الاستخبارات المركزية الاميركية فاليري بالم، زوجة السفير السابق وأحد كبار الموظفين في البيت الأبيض جوزف ويلسون، الذي سبق أن شكّك في ما سبق من معلومات عن امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل وارتباطه بـ «قاعدة» بن لادن. ومع توالي الاتصالات بين ليبي والإعلام يوماً بعد يوم، صار اسم فاليري بالم يتردد على أقلام الصحافيين، ووجهها مكشوفاً على الشاشات، دونما أدنى اعتبار للقضاء الاميركي الذي يرى في الكشف عن اسم اي عميل في الـ «سي.آي.ايه» جريمة فدرالية، وهي التهمة التي يحاول ليبي التنصل منها بما يمتلك من وسائل وسائط ومستندات.
والحقيقة أن نائب الرئيس النافذ والمستبد، تعرض خلال السنوات الثلاث الأخيرة لملاحقات قضائية «بطيئة» لكن ضاغطة ومؤلمة، وظل على مواقفه وصموده حتى السادس من آذار الجاري، يوم تبلغ قرار المحكمة وبغالبية أعضائها وجوب مثوله أمامها لاتهامه بمخالفة القانون الاميركي والكذب والافتراء وتقديم شهادات تضليل القضاء الاميركي، وهو ما يجعل منه أكبر مسؤول في البيت الابيض يواجه مثل هذه الجرائم منذ فضيحة «ايران غيت» في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وفي انتظار أواخر حزيران حين يلفظ القضاء الاميركي حكمه النهائي، يستمر ليبي أسير الألم والاحزان والإحباط.
والحقيقة الثانية أن لجنة التحكيم لم تتوصل الى قرار الاتهام في اجواء مريحة خالية من الشكوك والانقسامات. دنيز كولينز، الصحافي السابق في جريدة «واشنطن بوست» وعضو لجنة التحكيم، تساءل وبعض الأعضاء، على سبيل المثال لا الحصر، عن الأسباب الموضوعية التي حالت دون مثول كارل روف، المستشار السياسي للرئيس بوش، ومثله نائب الرئيس ديك تشيني أمام القضاء المختص ومحاكمتهما؟ كولينز لم يشكك في عدالة المحكمة التي استندت في اتهاماتها «الى معطيات تقنية صرف» ويضيف: يبدو أن ليبي هو حتى الآن، الحلقة الأضعف في قضية شائكة ومتشابكة، قد تؤدي في حال انكشافها الى سلسلة فضائح تضع أصحابها في قفص الاتهام».
وفي مطلق الأحوال، كشفت محاكمة ليبي، وما أثير حولها من ردود فعل متباينة، حجم الفساد والصراع داخل السلطة الأميركية. الجناح اليميني رآه خارج مرماه، ورأى المحافظون أن ليبي بريء من تسريب اسم العميلة السرية فاليري بالم الى الإعلام. موجهين أصابع الاتهام الى ريتشارد أرميتاج، نائب وزير الخارجية السابق. اليسار وجد في محاكمة ليبي اتهاماً صريحاً ومباشراً للإدارة الأميركية، مثلما جاء على لسان نانسي بيلوسي رئيسة الاكثرية الديموقراطية في مجلس النواب: «هذه القضية كشفت عن عمق المشكلات التي تعانيها حكومة بوش وتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في داخل الولايات المتحدة وخارجها».
وفي المجال نفسه، رأى السيناتور الديموقراطي عن ولاية نيويورك شاك شومر، محاكمة ليبي، الذي ظل حتى الأمس القريب، الذراع الأقوى لتشيني، محاكمة مباشرة لهذا الأخير، «الذي، عاجلاً أم آجلاً، سوف يجد نفسه في قفص الاتهام»... ويذهب المدعي العام باتريك فيتزجيرالد أبعد من ذلك، ليؤكد سقوط تشيني بـ «الضربة القاضية» أمام التهم التي تلاحقه من كل صوب، وبالتالي «غياب سلطة سياسية نافذة، خصوصاً على الصعيد الخارجي»، أدخلت واشنطن في حروب سوف تبقى وصمة عار في التاريخ الاميركي». ورأى فيتزجيرالد أن أكاذيب تشيني والمعلومات الخاطئة التي أدلى بها قبل غزو العراق، «تؤلف وحدها مادة اتهامية لسوقه أمام القضاء».
يبقى أن فضيحة ليبي انفجرت في مرحلة هي الأكثر حرجاً لحكومة بوش مجتمعة. ذلك أن سيد البيت الأبيض يواجه رزمة أزمات خارجية على السواء، بدءاً من انتصار «الديموقراطيين» في الكونغرس إلى ما تدعيه واشنطن «طموحات إيران النووية».. مع الأخذ في الحسبان أن الحكم على ليبي المتوقع في حزيران المقبل، قد يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى تهديد مستقبله السياسي، خصوصاً إذا ما تبين أن الأكاذيب التي سوقتها «عصابة بوش» هي التي دفعت القوات الاميركية الى الرمال المتحركة في العراق، وهو ما يعني بالتالي أن الاميركيين وقعوا ضحية إدارة أولوها ثقتهم فقادتهم إلى مغامرات قضت على الآلاف من شبابهم في حرب عبثية، فضلاً عن تدمير ثقة العالم بنظام ادعى لنفسه دون غيره القدرة على تصدير الديموقراطية، ومحاربة الإرهاب، فإذا به يتحول إلى دكتاتورية النظام الواحد والأوحد، تزرع الموت والخراب في كل مكان دخلته قواته وأسلحته الحديثة والمتطورة، ولا بد أن مثل هذا التحول، يكشف بوضوح عجز البيت الأبيض وإدارته الجمهورية عن قيادة البلاد في الاتجاه الصحيح. وهذا ما كشفت عنه مؤسسة «برس ابسوس» الاميركية لاستطلاع الرأي، حيث تبين في آخر استفتاء أجرته أن 68 بالمئة من المواطنين يرون أن الولايات المتحدة تسير في الطريق الخطأ مقابل 28 بالمئة أبدوا تفاؤلاً حذراً.
* كاتب لبناني