نسيم ضاهر *
السؤال عن الحرب الأهلية نكءٌ للجراح. في الذاكرة أودعناها ركن الأشياء المنسية بين أغراض قديمة لا «عازة» لها، من مخلّفات المقتنيات. ثمة رواسب تأبى مغادرة المكان، ترتاح إلى قاع مخزون، وصور تقبع في خفايا الذكريات، لا يفتح بابها بسهولة، يزور المرء مواقعها بمرارة، عابر سبيل يتحاشى التوقف وإمعان النظر.
ما من أحد بقادرٍ على كتابة الحرب الأهلية. الشاهد العيان يلمّ بالجزئيات التي عايشها، ويسلّط الضوء على أحداث وتفاصيل من طرف وقوفه ومقلبه. الصورة المُستخرجة من الذاكرة ظرفية مكانية قبل كل شيء، بمعزل عن الهوى السياسي والذاتية الملتصقة بمعيارية من دائرة القناعات، التي قد تضفي قيمة مبالغة، وردية أو مأساوية، على المجريات.
من يحاول التفلّت من أحاسيسه والمعطى البيئي المشحون باللاشعوري فهو كمن يحاول التواجد على ضفتي النهر في آن. فليس معاش الحرب تأريخاً نزيهاً وتدويناً محايداً، ولن يكون هكذا، ولو على مسافة زمنية وقواطع فكرية. المفارقة أن دافع النسيان يغالب إعادة تكوين المشاهدات واللقطات، ومهما كان سموّ الاعتبارات وصدق الخيارات آنذاك ــ كما في جميع الحروب الأهلية ــ فإنّ الحرج والألم العميق لا يغادران المخيّلة، وليس من مباهاة تقوم على بناء الاقتتال الداخلي، إلاّ وكانت وليدة سادية مرضية.
ذهب جيلنا إلى الحرب الأهلية باندفاع وحبور بالغد الآتي المشرق. الكلّ اعتقد بأن الأيام حبلى بموعود خلاصي رآهُ على صورته ومثاله بشارة بمولود مفعم بالحياة. أطلقت حادثة عين الرمّانة شرارة الحريق الأولى، أو هكذا أراد تسلسل الأحداث، غير أن العوارض كانت قد أشبعت جسد المجتمع خصاماً ونوازع فرقة، وغرست صواعق التفجير في غير ظرف ومكان. كُتب علينا الانزلاق الى الحرب حين غاب عنّا أن طعم الانتصار على الداخل والشريك مُرّ بالضرورة، وأن تمزيق النسيج الاجتماعي فخّ عاقبته الخسارة العضوية، يستأصل دمّلاً ولا يشفي من داء. أغفلنا رواية غلبة بيرُّوس ومغزاها، طرحنا جانباً وأبعدنا عمداً صور المآسي، المادية والمعنوية، المرافقة للنزاع، والدمار الوجداني على صعيد الفرد ومعاناته، قرأناها لدى همنغواي وشولوخوف وخبرناها في المكسيك لدى زابّاتا وبانشوفيلا.
استفاقت عندنا العصبيات (أيْنَكَ يا ابن خلدون)، مناطقياً وطائفياً، اجتاحت العقل وجرفت العُقَّال، وفجّرت شلّال الغرائز، تبارى في سوقها المُتخندقون الصعاليك حقداً على واقع حالهم الأصلية وربما طلباً وافتتاناً بسلطان حرمتهم الولادة إيّاه، وغسلاً بالدم لقتامة أسطورة قايين وهابيل. للمزيد يروي إسماعيل قدري ويصف اجتماع العنف والحرية، والشقاوة والبطولة، ومحوريّة الثأرية وعامل الثأر.
كذب مدّعي كُره الحرب الأهلية وإبعاد شبحها، إذا لم يقرن القول بالفعل، ويبتعد عن حقل المحظور واستباحة السياسة. القسمة غير الشراكة، ولو جاءت عادلة، تبدأ حيث تنتهي الألفة ويُفقد الودّ. القسمة فعل يوم والشراكة دأب ألف يوم. ما بال المنظّرين يتلهُّون بخرافة قرار الفتنة والإمساك العادِم لمفتاحها، فيما يستشري وباء الجفاء في النفوس. من قال إن للعنف ميقاتاً وللتصعيد مقداراً مضبوطاً بإيقاع، ومتى كان قياس ردود الفعل والتداعيات من دائرة العلوم الصحيحة والتوقعات الدقيقة؟ فضيلة الحكماء المعرفة بالإنسان، لا بأحوال الناس، وجلّ تعاليمهم ضوابط تنهي عن المزالق خوفاً على الذات ومخافة سقطاتها.
وددت لو يتطلَّع أفرقاء اليوم إلى رفاق الأمس، وحلفاء الساعة إلى خصوم البارحة، ربّ يدرك النافخون في أبواق الحسم ان سياسة شؤون الناس في بلادنا، منقلبة، متقلِّبة، شأن مصائر الأمم الصغيرة، يتجاذبها المحيط ويمغنط شرائح منها. نختلف في المسبّبات قبل اختلافنا على النتائج، وننكر على الآخر حق مساءلتنا في جوف مختزناتنا، وكأنما الدنيا عقارات ممسوحة وأوقاف. ما العيب في إعلان مصادر رزقنا وخلفيات سياساتنا، وبيان صوابية هندساتنا وكيفية تآلفها مع المصلحة العامة وأفراد مساحة نقد معتبرة للمواطن، صاحب الأمر في الديموقراطية وغاية العمل السياسي بالمكان الأول. وإلامَ نحتكِـم لفضّ الخلافات إذا أوقعتنا المؤسسات في دوّامة المصادرة والتشكيك في كمالها وصدقية تمثيلها وجعلنا من عيوب طراوتها ملهاة تكاد تدوّي بأساسها وتُشرعِن تجاوزها بناءً على وعد من هنا أو إخبار ظنّيني من هناك.
معاذ أن تكون الحرب الأهلية قد صنعت الرجال، فلقد تحوَّلَت مدرسة للنياح، تبكي شهداء طيشها وتذرف الدمع على ضحاياها بعشرات الآلاف. غير أن نصيبنا منها اتسم ببعض الفرادة، نسبة إلى الربع الذي أحاط بنا، وأجلسنا في خندق المواجهة مع الجبهة اللبنانية، نحمل هموم مسيحيي الأطراف، ونتبع منهج المستقيمي الرأي الأرثوذكس ذوي النفحة القومية والتمايز من الجبل. وبالنتيجة أصابنا ما حلّ بأجدادنا عام 1860 (عام النهب في الذاكرة المحلِّية)، فسال الزيت من الخوابي واقتلعت البيوت والناس. مذ ذاك، انتقل التوجّس من الحملات «الحضارية» جيلاً بعد جيل، وتأكد مجدداً هزال الاحتماء بالسياج الديني المشترك وتوقع الرحمة والرأفة بعامل تكاتف الأقليات في وحدة المصير.
أولانا المناصرون ثقتهم وخصَّنا مُحايدون بحُسن التدبير وآخرون بالتبجيل. لا غرو، فقد كنّا نوفّر المحروقات والمواد الغذائية بانتظام، نفرض النظام العام بهيبة السلاح لمنع التعدّيات. بالقليل، حلّت علينا نعمة احترام الناس لنا، أو بالأحرى من بقي منهم، في مجتمع كفاية بالحد الأدنى، فخلنا أن السلطة في متناول أيدينا واختزلنا المواطن بالكائن البيولوجي المطواع، وجعلنا من صمته تأييداً وإنابة في السّراء، سارت الأمور في الظاهر العلني، وحينَ لاحت غيوم الضرَّاء انفكّ الجمع عنّا وتكسَّرت شبكة الأمان البشرية المُحصِّنة لنا، إيذاناً بعُزلة موحشة، اكتملت عند بدء الهجوم الشامل على المنطقة من محاور عِدَّة. في لحظات حاسِمة معدودة، انقلبت مشاعر من أحاطنا صادقاً، وباتَ ينظر إلينا كعبءٍ على سلامته ومصدر تهديد لعيشه وصغاره.
ويلٌ للخاسرين وهيهات من خبر سقوط تل الزعتر، المحبط والمشؤوم. ساعتئذٍ، سادَ الوجوم، وبالحدس علمنا (المشفوع طبعاً بكمّ من الفظاعات)، أن مشروعنا لن يُكتب له النفاذ. صدق الحدس حيث عميت بصيرتنا، وانتقم التاريخ من براءتنا. عبثاً حاولنا الالتفاف على قدر محتوم، إذ عاجلنا إلى هجوم شكّا الاستباقي، بقيت مآسيه وصمَة محفورة على جبيننا، أودى إلى مجزرة بشعة أصابت الأبرياء وحطَّمَت معنويات مقاتلينا أمام زحف جحافل القتل والسرقة في ركاب اندفاعة كان لها شرف القتال، ولسواها الحقد الطائفي والعدم.
هي كذلك الحرب الأهلية، كتلة من دم الناس ولحمهم، الضحية فيها مرآة الجزّار، والفارس على قاب قوسين أو أدنى من الافتراس. أبطالها أناس عاديون، ومنبتها نزعة العنف الكامنة، لا قانون يحميها بعدما يُضرب القانون الحامي منها ومن شرورها. القول برفسِها في معرض الاتكال على الذات المُروّضة، هراء وطمأنة مجانية يبلعها السُذّج ويرفضها العقلاء. إن وسائل اتقاء الحرب الأهلية من عمر البشرية، منذ أن ارتضت المجتمعات ووجدت ضوابط للشحنات والعنف عبر قوننة السلطة وحصرية امتلاك الدولة للسلاح واستخداماته. المسألة ليست مراداً ظرفياً أو إرادوياً مبنياً على الثقة، لكنها قبول رضائي وتفويض مسبق للمؤسسات المنوط بها وحدها ضمان السلم الأهلي واستيعاب الحراك الاجتماعي والسياسي من خلال بدائل دستورية ثابتة في استحقاقاتها، دورية ناظمة. الفتنة نائمة، ليس في بلادنا وحسب، بل في كل البلدان، يوقظها خروج المكوّنات على العقد المجتمعي، بادؤهـا وسواس الظن بالآخر وأبلسته، ومنتهاها تدمير أواصر العيش المشترك والجسور الجامعة لأوصال الوطن الواحد. الأصل في المآخذ على العورات والأعطاب، مشروع بلا جدال، تتفاوت درجاته، بين كيان سياسي وآخر، وتستدعي تحوّلات عاجلة أو طويلة المدى، بهذا القدر من العمق والجذرية، أو ذاك، حتمية من إفراز صراعي إطاره حركية التاريخ. والفصل في الوسائط المعتمدة دفاعاً عن حقوق مهضومة وخيارات قابلة للنقاش، شرطه الجهر بالمراد على وجه حق يضيف ولا يسلب، يصحح ولا يقتطع، بغية غرسه وإبرامه في فصول قانونية ومواد دستورية، وفق الأصول والأعراف، طبقاً للمواعيد وأنظمة المؤسسات.
قد تلفت مجانبتي التطرق إلى الحوار وفضائله. الحال أن الإهمال مقصود، بعيد من العفوية، مردّه طلاق الحَذلقة اللفظية وتسمية الأشياء بأسمائها صوناً للشفافية ودفعاً للمواربة. الحوار بدل من ضائع مؤسسي واستثناء يؤكد قاعدة موطنها دستوري بامتياز. لذا حلَّ في الحياة السياسية دخيلاً على ممارسة أصيلة مفقودة، يختزل (ويصادر إلى حد كبير) نقاشاً أوسع وأعمق عصبته المشاحنات. إلا أن الحوار الجاري ثنائياً بالوكالة، على علّاته البنيوية وقصوره المفهومي، يدلّ على مرونة النظام السياسي اللبناني واستعارته بعضاً من الأعراف التقليدية والعوائد الشرقية في ما يتصل بالزعامة وشخصية البطل، وتوظيفها إيجابياً مسكناً في الحقل السياسي. هكذا أرادَ الطائف بين سطوره، وما أدخل جديداً على النظام الطوائفي الساكن في متن المجتمع قبل النصوص. عَلامَ تقوم الديموقراطية التوافقية المركبة إلّا على أطراف قابلين بهويّات ما دون الوطنية، وهل يُغفل أن ترجمتها جغرافياً هي الفيدرالية، وواقعياً تقاسم الطوائف لمواقع ومناصب أضحت أقرب إلى المتاريس ومنصّات الرمي المشحوذة بعتاد الشجار!
لن تقطع شعرة معاوية، وستأتي الأيام بتسوية معقولة. إلى حين ذلك، يحتدِم السجال ويتصاعد فصولاً وشللاً عاماً وضياعاً. مع ذلك، ما أخفّ وطأة السياسة أمام خداع الحرب الأهلية، عسانا نذكرها وحسب، ولا تُعاد.
* كاتب لبناني