عشيَّة الحرب الأهلية
  • يوسف شحادي

    مشاهد ما زالت محفورة في الذاكرة، ومن أجل ذاكرة واعية وعلمية مجردة من العواطف الخاصة «قدر الإمكان».
    وكلنا تمنيات بألّا تتكرر، لكن الأسباب لا تزال حاضرة...
    وأبواب الندم التي يقترحها كثيرون، وصفحات التوبة التي ندّعيها للآخرين لا تلغي السبب والمسببين.
    من المفيد اليوم أن نستعرض بعض ملامح الخلافات والصراعات والقوى والتوجّهات والجوّ العام، بالإضافة إلى العوامل المساعدة كالوضع الداخلي والظروف الإقليمية.
    بدءاً بالوضع الداخلي، فإن احتشاداً فائضاً لفصائل المقاومة الفلسطينية خلق خللاً في التوازن الديموغرافي والسياسي لبعض القوى وأطرافٍ سياسية وأبناء العائلات والقصور المرتبطة خدماتهم ووظيفتهم بالسوق العالمية.
    يومها كان مناخ الشارع اللبناني يضجّ بالحيوية والتظاهرات والمهرجانات السياسية.
    كانت قضية فلسطين تطغى على كل العناوين، وأبناء العائلات السياسية والقصور يتهمون اليسار اللبناني بالتحالف مع اليسار العالمي ويستنجدون باليمين الدولي.
    وكانت التظاهرات تعمّ المناطق اللبنانية على كل المستويات النقابية العمالية والطلابية...
    جرى إطلاق نار على بوسطة مدنية تضم لبنانيين وفلسطينيين عائدين من مخيم تل الزعتر إلى بيروت شاركوا في مهرجان تضامني مع القضية الفلسطينية، وصودف مرورهم في عين الرمانة هرباً من زحمة السير، فكان كمين الموت ينتظرهم، أطفال ونساء ورجال، وبتدبير أمني مشابه لاغتيال معروف سعد، وعبر الجهة والأجهزة الأمنية ذاتها. كان من الطبيعي أن تكون ردات فعل عند المواطنين العاديين والجهات السياسية، لكن ظهر الأسوأ. كانت الخطة جاهزة وانتشرت حواجز المُقَنَّعين في مناطق نفوذ الكتائب والأحرار، وظهر مصطلح القناصين لأول مرة في اللغة اليومية للمواطنين المرتبطة بالموت والخوف والحذر ليصطادوا حاملي ربطة الخبز أو قوت يومهم لعيال انتظرت آباء وإخوة وأمهات وأبناء لم يعودوا.
    أما الوضع الإقليمي فكان له التأثير الواضح على الساحة اللبنانية، فقد أخذت الساحة المـــــــــصـــــــرية تتفاوض مع الكيان الصهيوني بعد حرب تشرين، ما شجع بعض الأطراف اللبنانية على تبرير مشروعها، وبالتالي اكتســـــــــاب التغطية الإقليمية والدعم والغرور إلى حد الوصول إلى إعلان العلاقة المباشرة مع الكيان الصهيوني. توّجت علاقة تلك الأطراف مع العدو بالاجتياح الأول والثاني والثالث ومجازر ودمار ومحاولة عقد اتفاق 17 آيار، الذي ما زال يحاول البعض إحياءه بالسر وبالعلن، لكن الأساليب والوسائل تختلف هذه المرة، وبمساعدة قرارات الأمم المتحدة وتغطية من الدول الكبرى.
    في المتغيرات الإقليمية اليوم نجد احتلال بغداد ومحاصرة الشام والشعب الفلسطيني، وأنظمة مهترئة لم تعد تخدم مشروع العولمة والشركات العابرة وانتهاء صلاحية (خريطة سايكس بيكو)، انفلات المشروع الأميركي في المنطقة المؤجل منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد أُنعِشَ.
    هذه المستجدات الإقليمية أخذت تدغدغ أصـحاب الأوهام الإقليميين والطامعين بالسلطة والأموال الذين لا يعرفون من الدولة إلا النهب وطرق الاحتيال والاختلاس والرشوة والسمسرة بدماء أبناء الطائفة أو الشعب. لا مشكلة تقف في وجههم عندما يلهثون وراء نفوذ يلوح للبعض من دول القرار، ضمن خريطة ســـــياسية أو جغرافية جديدة للمنطقة تخدم مصالح شركات ومــــــديري أسواق الاقتصاد العالمي.
    واليوم لملمت بعض القوى والشخصيات بعضها، تحمل من الصفات والتواريخ والأرصدة ما تحمل، وهي مكشوفة للجميع وسمت نفسها بتواريخ بدءاً من تقويم وأحداث اصطنعت خصيصاً لها بمساعدة وتمويل بدل أن تسمي نفسها بمشروع وبرنامج وأهداف تفصح عنها علناً ولا تخجل بها، بدل العناوين المطاطة والمستهلكة. ويضاف إليها عناوين وشعارات عنصرية وعصبيات مناطقية. تلك القوى السياسية تتصاعد وتخبو في عمليات صناعة متقنة لتحريك وتوجيه مزاج الشارع إلى مصالحهم الخاصة.