خليل شاهين *
كثيرون لا يدركون معركة من يخوض د. عزمي بشارة، ومن أمامه وورائه التجمع الوطني الديموقراطي. ثلّة من المقاتلين تعلن «حالة التأهّب» القصوى في «التجمع» و«فصل المقال» وموقع «عرب 48»، استعداداً لصدّ هجوم يستعد جهاز «الشاباك» لشنّه تحت شعار «العرب تهديد استراتيجي» في إسرائيل. مقاتلون سلاحهم القلم والتعبئة الجماهيرية، ولكن قبل ذلك حركة وطنية ينخرطون في بنائها من مواقع القيادة اليومية للجماهير الفلسطينية.
يرفع عوض عبد الفتاح «حالة التأهب» بالتحذير من «السقوط في معادلة السلطة: متطرف ومعتدل»، يليه حسن عبد الحليم في التأكيد أن «بشارة هو شوكة في حلق الشاباك وعملائه»، ثم يشحذ سعيد نفاع الهمم مطلقاً صيحته «ارفع رأسك يا أخي».
«خرج ولم يعد».. ينوي الاستقالة من عضوية الكنيست.. تلقى أموالاً من مكان لا نعرفه، زوّد «العدو» معلومات أثناء الحرب.. وغير ذلك من أنباء تتركز على شخص بشارة في محاولة لإبعاد الأنظار عن الأهداف الحقيقية للمعركة، وإظهار الأمر كأنه يتعلق بملفات «أمنية» تخص بشارة فقط.
معركة من هذه؟ تباً! أي سؤال كهذا يطرح وقد ثار غبار المعركة قبل أن تبدأ؟ هي كطبخة تفوح رائحتها فنعرف ما في القدور قبل أن نأكل.
هكذا يكون ترف السؤال في أوساط المتخلّفين عن خوض المعركة، كأن لسان حالهم يقول «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون». والمتخلّفون عن خوض المعركة ليسوا فقط، من يطلقون التسريبات المغرضة في حق بشارة في صحفهم، أو الأحزاب العربية التي ما زالت تنتظر انجلاء غبار المعركة، بل ونحن أبناء جلدة بشارة و«التجمع» في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات. يتفرّج الجميع على ثلّة المقاتلين المدافعين عنّا جميعاً، من دون أن يحرّكوا ساكناً، كأنما المعركة تدور خارج «وعي الجغرافيا»، على أطراف الديموغرافيا، أي في مكان آخر خارج معادلة التكيّف مع «جغرافيا أوسلو»، بل وبعيداً من نطاق دور الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده!
كأننا أصبحنا هنا في رام الله بيت القصيد، كل الشعب، واختُزلت الجغرافيا في «المقاطعة»، مقر السلطة ومنظمة التحرير والمتحدثين باسمنا، حيث التيه بات في تحديد اسمنا: من نحن؟ أين نبدأ في الجغرافيا، وأين ننتهي في السياسة؟
هي السياسة تُحشر في الجغرافيا، والأخيرة تضيق حتى تتحول إلى معازل، فتصبح السياسة شبيهة بها، وفي ذلك تتكيّف السياسة في نطاق جغرافيا المعازل. فماذا يحدث؟ يستنتج الفلسطينيون ما دفعهم الإسرائيليون إلى استنتاجه: الفلسطينيون قادرون على التكيف مع الحصار، يواصلون العيش في القدس المهوّدة، ونابلس المحاصرة، وجنين المفتوحة على الاجتياحات اليومية، والخليل المستباحة بحثالات المستوطنين، ورام الله السعيدة بتقمّص دور «العاصمة»، وغزة المختنقة بالإغلاق والفوضى الداخلية.
في كل ذلك، يرى القادة الفلسطينيون انتصاراً على جدران الحصار بالتكيّف داخله. يفرحون لأن كلاً من معازلهم بات يمتلك مركزاً تجارياً خاصاً به، حتى البلدات والقرى تغلّبت على الحصار والإغلاق وبات كل منها يمتلك مركزه التجاري، فاستغنى عن مركز المدينة في محيطه الجغرافي، واشتد عود كل من البلدات المحاصرة حتى باتت قادرة على إدارة شؤونها داخل «نعيم» كانتونها الخاص. هكذا يفضي استنتاج «الانتصار على الحصار» إلى تكيّف السياسة في نطاق جغرافيا المعازل، فينشأ «فكر المعازل السياسي» على مقاس الكانتونات، ويقع في أسره دور الممثل الشرعي الوحيد.
أما الاستراتيجيون الإسرائيليون، مصممو المعازل في مؤتمرات هرتسليا السنوية، وفي جلسات «الشاباك» وهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، فيستنتجون من تجربة الفلسطينيين «الرائدة» في التكيف مع الظروف الصعبة انتصاراً لمشروع الفصل العنصري الإسرائيلي.
فالفلسطينيون تكيّفوا مع النتائج الكارثية للنكبة عام 1948: اللاجئون في الأردن تكيّفوا مع القوانين وباتوا مواطنين أردنيين، وفي سوريا عاشوا في كنف كل الأنظمة السياسية منذ هجروا إلى مخيماتهم من شمال سوريا إلى جنوبها، وما زالوا في مخيماتهم في لبنان. باختصار، تمكّن اللاجئون الفلسطينيون من التكيّف بالعيش في شتى بلدان اللجوء، وتحت سقف قوانينها.
وفي الضفة الغربية، تكيّف الفلسطينيون مع العيش تحت الإدارة الأردنية وطُبّقت عليهم القوانين الأردنية نفسها، ثم تكيفوا مع الاحتلال الإسرائيلي والأوامر العسكرية منذ عام 1967، وبعد ذلك تكيفوا مع العيش في كنف السلطة الفلسطينية في المناطق الخاضعة لسيطرتها وفق اتفاقية أوسلو. وبعد فرض إقامة المعازل وبناء الجدار، نجح الفلسطينيون بالتكيف مع العيش في المعازل، فيما تكيف المقيمون خلف الجدار، و«التزموا» الحصول على تصاريح للتنقل من «الإدارة المدنية» الإسرائيلية.
وفي قطاع غزة، تكيف الفلسطينيون مع العيش تحت الإدارة المصرية والقوانين التي طبّقتها، ثم تكيفوا مع الاحتلال وأوامره العسكرية، وبعدها تكيفوا مع العيش في كنف السلطة، ويواصلون التكيف مع ظروف العيش داخل كانتونهم المغلق بإحكام.
وفي أراضي 1948، تكيف الفلسطينيون الذين بقوا على أرضهم مع فترة الحكم العسكري، ثم حملوا الجنسية الإسرائيلية، وما زالوا يتكيفون مع شتى السياسات والقوانين العنصرية للدولة، بل وارتضى كثيرون منهم تسميتهم «عرب إسرائيل».
أما منظمة التحرير الفلسطينية، ومعها فصائل الحركة الوطنية، فقد تكيفت واقعياً مع هذه الفسيفساء الجغرافية لانتشار الشعب الفلسطيني. هي ظلت تدّعي دوماً أنها تمثل الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، لكنها لم تنطق يوماً باسم الفلسطينيين داخل أراضي 48، ولم تتبنّ الدفاع عن قضاياهم، ولم تنتصر لهم في مواجهة سياسة التمييز والعنصرية، ولم تلتفت إلى حقوقهم ومصالحهم ورأيهم عندما وقّعت اتفاقية أوسلو، وحافظت على مسافة واضحة تفصلها عن حركتهم الوطنية. لذا لا تستطيع المنظمة أن تعلن حقها في التمثيل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في الأردن، وربما في مناطق أخرى من العالم.
في وضع كهذا، تفقد معارك الشعب الفلسطيني بُعدها «الجمعي»، وتتحول إلى معارك «محلية» تُخاض في تجمّعات الفلسطينيين المنتشرة في شتى بقاع الأرض. الفلسطينيون في لبنان يخوضون معركة الحقوق ورفض البؤس بانتظار العودة، وفي العراق يواجهون الموت وينتظرون تهجيراً آخر إلى بلدان ليس الوطن بينها، وفي مخيم جنين يقاتلون وحدهم، وكذلك في قباطية وطمون ومخيمات بلاطة وعسكر ونور شمس، كلها معارك «محلية». أما في أراضي 48، فالمعركة ضد العنصرية والمصادرة لا تعني أحداً على الجهة الأخرى من «الخط الأخضر». هكذا تفقد المعارك بعدها «الجمعي»، ما دامت منظمة التحرير تفقد هذا البعد في دورها.
وفي المقابل، تخوض الحركة الوطنية في أراضي 48 معركتها على مستوى الشعب برمته، هي تقاتل يومياً سياسات الدولة العنصرية وتتشبّث بحق الفلسطينيين في البقاء على أرض الوطن، وترفض التنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الديار التي هجروا منها، وتتصدّر الصفوف في الدفاع عن المسجد الأقصى والتصدي لمخططات تهويد القدس، وتحدّي الحصار المفروض على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وترسيخ التواصل بين أبناء الشعب الفلسطيني أينما وجدوا، من يافا والناصرة إلى غزة ورام الله، إلى سوريا ولبنان وغيرهما. وفي إطار هذه السياسة ذات الطابع الوطني الجمعي، كان من الطبيعي، مثلاً، أن يكون عزمي بشارة أول من نصب خيمة اعتصام عند الجدار في قلنديا؟ وأول من تحدى الترهيب الإسرائيلي في تنظيم الزيارات بين الفلسطينيين من أراضي 48 وأقاربهم في «البلدان العدوة»؟
إذاً، من يمثل من؟ منظمة التحرير تمثل الفلسطينيين في أراضي 48، أم التجمع الوطني الديموقراطي، محمود عباس أم عزمي بشارة؟ ومن يمثلني أنا؟ من يخوض المعركة في تجمعات المعازل في نطاق جغرافيا أوسلو، أم من يخوض المعركة على مستوى جغرافيا تشتّت الشعب الفلسطيني من الناصرة، مروراً بالقدس، وليس انتهاء بلبنان؟ من يكيّف السياسة على مقاس جغرافيا الدولة الوهمية، أم من يسعى لإعادة رسم الجغرافيا على مقاس حقوق الشعب في كل الوطن؟
أسئلة افتراضية ليس الهدف منها التشكيك في التمثيل الشرعي الوحيد لمنظمة التحرير، بل تحفيز التفكير في حدود التمثيل المجزوء والدور المنقوص بينما تجري الاستعدادات للتحاور في دمشق حول «تفعيل وإحياء دور» منظمة التحرير. وهي عملية لن يُقدّر لها النجاح ما لم تنطلق من استراتيجية شاملة لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية في سياق قيادتها الشعب الفلسطيني في كل مكان، بشكل يتجاوز نطاق التكيف مع جغرافيا التجمعات الفلسطينية في كانتونات الضفة والقطاع.
التجمع الوطني الديموقراطي ليس عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك الحال لبقية القوى السياسية في أراضي عام 48، لكن عزمي بشارة ورائد صلاح يتقدمون الصفوف دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين في القدس ورام الله وغزة. وفي تجربة «التجمع» من حيث بناء الحركة الوطنية في أراضي 48 ما يعين فصائل المنظمة على استلهام الدروس في سياق إعادة بناء الحركة الوطنية الأم. وحينها فقط، يمكن الانتباه إلى أن معركة بشارة و«التجمع» هي معركة الجميع، ولا متسع للتخلّف عن خوضها بشكل موحد.
* كاتب فلسطيني