نزار صاغيّة *
هنا نلحظ أن أبرز ما يميّز خطاب المحكمة هو المقاربة الرمزيّة لها بمعنى أن إنشاء المحكمة بات رمزاً للحقيقة والعدالة. فإذا تميّز لبنان في سنوات ما بعد الحرب بميل اللبنانيّين الى المسالمة ولو على حساب القيم والحقوق لا بل بالإذعان لكلّ ذي قوّة وبتعميم العفو واللامسؤوليّة كمرادفين ملازمين للمصالحة، بدت التّظاهرات الكبرى التي شهدتها بيروت بعد اغتيال الحريري تحت راية «الحقيقة» وكأنها تشكّل منعطفاً أساسيّاً بين دولة (اللامسؤوليّة) ودولة (القانون)، حيث تلقى كل جريمة عقاباً.
والواقع أن قوّة هذا المطلب لم تجئ نتيجة صحوة أخلاقيّة فحسب، بل بالدرجة الأولى نتيجة تضافر عوامل ومصالح سياسيّة أعطت لمطلب الحقيقة ما أعطته من زخم استثنائي، فإذا كانت تمثّل أول المنعطفات في تنامي نفس تراجيديّ إعلاميّاً كعلامة فارقة عن النّفس الكوميديّ الطاغيّ بعد انتهاء حرب القرن الماضي، فإن تلك التراجيديا لم تصلح فقط لاستدعاء المشاعر الإنسانيّة، بل أيضاً لإذكاء العصبية لدى السنّة وسواهم من الطّوائف. أفلم يُوحَ للدروز بأنّ زعيمهم مهدّد بالتراجيديا نفسها فيما تلمّس المسيحيّون وجعاً مماثلاً في نفي عون واعتقال جعجع؟ وإلى هذه العوامل المساعدة، يُضاف الشعور بالجدوى بفعل نشوء معارضة قويّة تتمتّع بدعم دوليّ غير مسبوق. هذا فضلاً عن سواد شعور بأنّ معرفة الحقيقة ستؤدّي حكماً الى إدانة النّظام السوريّ، ما لن يؤدّي فقط الى معاقبة الجناة بل أيضاً الى تعويض المجتمع اللبنانيّ بأكمله بنعمة الاستقلال!
وما عزّز رمزيّة هذه القضية، هو الانكفاء أو بالأحرى الحضور النسبيّ لزعماء 14 آذار وشعاراتهم، الأمر الذي أوحى للناس ــ على اختلافهم ــ بأنّهم هم اللاعب الفاعل الذي يحدّد مسار الأشياء بتجرّد وبمعزل عن أيّ حسابات سياسيّة. وهذا ما أكّده بعض الزّعماء في مواقف توحي بالصدقية وصحوة الضمير، معلنين في غير مناسبة أن طموحات النّاس «الأبرار» باتت تتجاوزهم. وعززتها من جهة أخرى أدبيات الخصوم السياسيين (سياسيّي 8 آذار) وخطبهم الآيلة الى عدّ الحقيقة مصلحة وطنيّة عليا وإن تمايزوا في رفض الاتّهامات المسبقة التي تطال مسؤولين في السلطتين اللبنانية والسورية.
إضافة إلى ذلك، لقي هذا الشعار قبولاً لدى الفئة التي باتت منذ انتهاء الحرب الأكثر تضرراً من الظلم كأهالي المفقودين، والتي أيّدت شعار «الحقيقة» للمطالبة بـ«كلّ الحقيقة» في إشارة الى وجوب أن لا تشمل المساءلة فقط جرائم الاغتيال الحاصلة في 2005، بل أيضاً جرائم الحرب، ولا سيما جرائم الاختطاف والإخفاء القسريّ.
وإذا رأى البعض، إزاء زخم المطلب، أنه لا بدّ سيتحوّل رافعة لمطلب العدالة، فسرعان ما بدا هذا الاعتقاد مستعصياً من وجهة نظر عقلانيّة، لتعارضه مع كمّ من التصرّفات والأشياء المحيطة به، لا بل إن الاستغلال السياسي للقضية داخلياً ودولياً، وما رافقه من شيوع للاتهام السياسي بما يشبه المحاكمات الشعبية، ولّد ظنوناً قويّةً لدى البعض بأنّ المراد من القضيّة هو استخدام زخمها كرافعة ــ لا لمشروع عدالة ــ بل بالدرجة الأولى لمشروع سياسيّ لا يخلو من المكيافيلّية.
وتبعاً لذلك، تولّدت لدى داعمي المحكمة من منطلقات سياسيّة حاجة ماسّة ومتزايدة الى التّركيز على الأساليب غير العقلانيّة للمحافظة على زخم القضيّة بعدما تعذّرت المحافظة عليه عقلانيّاً، كاللجوء الى الغلوّ والإبهار الإعلاميين وأيضاً الى العصبية، وبشكل أعم الى التقديس. فإمّا أن ينسجم الرّمز مع الأشياء والغايات المحيطة به فيبقى رمزاً واقعيّاً وحيّاً يجدر الاحتذاء به (وهذا ما لم يحصل) وإمّا يصبح في تعارض تامّ مع محيطه (وهذا ما حصل)، فيصبح التقديس ــ بما له من مزايا حاجبة ومحرّمة، ولكن أيضاً... مفتنة ــ ضرورياً ضماناً لتغييب الوعي في انسلاخ تامّ عن الواقعيّة والمنطق. وعليه، وبنتيجة الغلوّ، تبدّت رمزيّة القضية مثقلة بمنزلقات كبرى، من شأنها نقض أصل وجودها أو ما ترمز إليه أي العدالة. وهذا ما سأعرضه باقتضاب أدناه.
(أ) ــ الحقيقة الحاجبة
في هذا المجال، نلحظ أول تجلّيات القدسية التي استدعتها بشكل خاص الغالبية (ولكن ليست وحدها) كباب واسع لغضّ الطّرف عن مطالب كثيرة أو تحجيمها أو طمسها أو حتى التنازل عنها عنوة. فتكريس الرّمز مهمّ الى درجة تضمن تغليب العدالة على المدى البعيد ما يبرّر التّضحية بقضايا عادلة كثيرة على المنظور القريب.
وعلى هذا المنوال، لا بأس في إصدار قانون عفو «امتيازيّ» عن السيّد جعجع ورفاقه (المُدان بالقتل مرّات عدّة وخصوصاً بقتل رئيس وزراء سابق)، لا بل التحالف معه انتخابيّاً وسياسيّاً في لائحة انتخابية تحت راية «الحقيقة والحرية». ولا بأس في إجراء مقايضة طائفية في العفو عن جرائم الضنية وعنجر بمعزل عن أي مصلحة عامة أو فعل تسامح أو غفران، ما دام من شأن أعمال العفو المذكورة أن تعزّز الأطراف «الداعمة» للحقيقة والمحاكمة الدوليّة.
ولا بأس في غضّ الطّرف عن المخاطر والجرائم المتّصلة بشكل مباشر بالاتهام السياسي «الشعبي»، فالتوق الى معرفة «الحقيقة» بات بالنسبة إلى «مسؤولين كبار» مبرراً كافياً لإطلاق التهم المسبقة، مع كل ما يستتبع ذلك من مفاعيل سلبية على الحياة السياسية الاجتماعية ككل، أو حتى من جرائم طالت العمال السوريين وبقيت قيد الكتمان.
ولعلّ أخطر ما في الأمر أنّ هذه «الحقيقة الحاجبة» ألقت ظلالها على جرائم تتعدّى جريمة اغتيال الحريري خطورةً على الصعيدين القانوني والإنساني. وهذا ما تلمّحناه في الخطاب الذي أعقب الكشف عن مقابر جماعيّة في عنجر في أواخر 2005 بحيث تعامل خطاب الغالبيّة معها وكأنّها مجرّد شواهد ضد الجناة إثباتاً لضلوعهم في الجريمة الأخطر التي هي قضية اغتيال الحريري، مع تجاهل كامل (وبليغ) للمقابر الجماعيّة المعزوّة إلى سواهم من الجناة، ممن هم ضمن الغالبية الداعمة للقضية! فكأنّما قضيّة المقابر الجماعيّة مهمّة فقط كدليل في قضيّة الحريريّ وأبداً بذاتها، فيما تصبح نافلة إذا مسّت أياً من القوى الداعمة لقضية الحريري. وكذلك تلمّحناه بوجه خاصّ في ظلّ تمادي إسرائيل في ارتكاب جرائم الحرب بالجملة خلال شهري تمّوز وآب 2006، حيث وجد كثيرون متّسعاً لتبرير الحرب بإرادة حزب الله صرف الأنظار عن المحكمة الدوليّة التي بقيت بالواقع في أعينهم هي الأهم مهما بلغت جرائم اسرائيل! وكأنّهم بذلك يعلنون برودة استثنائيّة إزاء أيّ قضيّة من شأنها عقلانياً حجب قضيّة الحريريّ أو كأنّهم يحجّمون هذه القضايا عبر إظهار أنّها مجرد أحجبة لإخفاء قضية الحريريّ، التي هي إذاً تبقى الأهمّ والأبدى، دوماً وأبداً.
(ب) ــ الحقيقة المحرّمة
وإلى جانب مفعولها «الحاجب»، اكتسبت الحقيقة ومعها المحكمة طابع التّحريم الآيل الى فرض تابوات في مواقع عدّة.
وعلى هذا المنوال، اعتمدت الأطراف المستفيدة أسلوباً مفاده استدعاء القدسية لحظر النقاش في ما يتصل بالمحكمة. فلا يكفي أن يحصل إجماع وطنيّ في شأن مبدأ المحكمة أو جلاء الحقيقة على طاولة الحوار وخلال ثوان، ما يؤكد نجاحاً أساسياً لخطاب التّحريم، بل يقتضي أيضاً الابتعاد تماماً من أي تحفّظ أو انتقاد في شأن تفاصيل نظام المحكمة. وهكذا ردّت ملاحظات رئيس الجمهورية المدوّنة في أكثر من عشرين صفحة شكلاً بعد الطعن في صدقيته ونياته. وإذا طلب وزراء المعارضة إعطاءهم مهلاً لإجراء مشاورات في شأن المحكمة أو نظامها، فإن الأكثرية النيابية عدّت ذلك مساساً بقدسيّة العدالة! لا بل بلغ التّحريم أحياناً حدّ اتّهام أيّ مسؤول يتحفّظ على نظام المحكمة أو يستمهل للتّفكير في شأنها أو يتساءل عن كلفتها بأنّه يحاول حماية الجناة، هذا إذا لم يكن واحداً منهم. وأدى في محلات عدة الى لزوم الصّمت إزاء احتجاز أشخاص عدة، كما هي حال الضباط الأربعة وآخرين، لمدة طويلة تتجاوز السنة من دون أيّ دليل جدي، وفقاً لما تردد في بعض بيانات منظّمات حقوق الإنسان الصادرة أخيراً (سوليد) والصحف العالمية (لوموند ديبلوماتيك، عدد نيسان 2007).
وإذا عدّلت الغالبيّة أخيراً موقفها معلنةً استعدادها للتفاوض في شأن ملاحظات المعارضة، فإنّ بعض أعيانها (وليد جنبلاط) سرعان ما حصر استعدادها للنقاش بالملاحظات الشكلية، وسط أجواء توحي بنيات اللجوء الى الفصل السابع كأقصر طريق لتحريم النقاش. هذا مع العلم بأنّ حصر النّقاش ــ التّفاوض ــ في تفاصيل نظام المحكمة من دون أي تعرّض لمبدئها إنما يشكّل بحدّ ذاته مؤشراً جديداً إلى إجماع الطبقة السياسية برمّتها على تنزيه مبدأ المحكمة ذات الطّابع الدوليّ الذي لا يقبل أي نقاش بمعزل عما يحيطها أو عن المتغيّرات،
لا بل إنّ بعض الأحداث الأخيرة أوحت بأن المساس بمحرّمات المحكمة بات فعلاً مشدّداً من شأنه تبرير توقيف صحافيين احتياطياً لفترات مديدة لأفعال لا تستحق عادة التوقيف، كما حصل مع فراس حاطوم ورفاقه في قضية دخولهم بيت الصدّيق!
(ج) ــ الحقيقة المبيّضة الفاتنة
أما الوجه الثّالث لقدسيّة القضيّة فيكمن في تحوّلها الى محور الانقسام السياسيّ الى حدّ تعطيل المؤسسات والفتنة. وهذا ما نتج من تراكم أمور ثلاثة:
ــ الأوّل، تقويم الشّخصيّات السياسيّة على أساس تأييدهم المحكمة أو رفضهم لها، علماً بأنّ هذا التّأييد أو الرفض يصبح افتراضيّاً في ضوء معايير القدسيّة وفقاً لما أشرت إليه أعلاه. وتالياً يصبح تأييد المحكمة مطهراً كافياً لتبييض ملاحم الماضي، وفقاً لما توحي به خطابات السيّدين جعجع وجنبلاط في حديثهم عن نضالهم المستمر في سبيل الحقيقة والعدالة، هذه العدالة التي سترمي القتلة «السفّاحين» (المقصود طبعاً مسؤولو النّظام السوريّ) في غياهب السجن. وفي مقدوره أن يصبح باباً لتحقير الآخرين الذين يتصرفون كأزلام للنّظام السوريّ في أحسن تقدير. ولا بأس هنا من الإيحاء بأنّ تحفّظ ميشال عون في شأن المحكمة يعني أنّ ثمّة صفقة مشبوهة مع النظام السوريّ! بل لا بأس أحياناً من عدّ التّحفّظ دليلاً كافياً على تورّط بعض المتحفّظين في بعض الجرائم وفق الإشارات التي يرسلها بعض أعيان فريق 14 آذار من فينة الى أخرى باحتمال تورّط «حزب الله» في اغتيال رفيق الحريري. فالأمور تحدث هنا كما لو أنّ هذه التحفّظات تشكّل «كفراً»، يصبح معه الانزلاق الأخلاقيّ ممكناً في مسائل الحياة كافّة!
ــ الثاني، تبرير أيّ اختلاف أو انقسام في شأن أيّ من المسائل السياسيّة كحكومة الوحدة الوطنيّة إثر العدوان الاسرائيليّ أو الانتخابات المبكرة أو سلاح المقاومة باختلاف الموقف من المحكمة على نحو يؤدّي حكماً الى تهميش مجمل الاختلافات الأخرى والتي تصبح كلها بمثابة خلافات ثانويّة! وقد بلغ الأمر ذروته حين علّلت «مغامرة» حزب الله لتحرير الأسرى بإرادته الرامية الى تعطيل إنشاء المحكمة الدولية! وعلى هذا الأساس، صُوّر انكفاء الوزراء الشّيعة في 12-12 أو استقالتهم في تشرين على خلفية استعجال الأكثرية في معالجة المسائل المتصلة بالمحكمة الدولية على أنه دليل قاطع على ذلك، فيما صُوّرت المطالبة بثلث ضامن أشبه بقتل رفيق الحريري ثانية. وهكذا بدا بنتيجة ذلك كأنما الانقسام السياسيّ (clivage) مبنيّ بالدّرجة الأولى على انقسام أخلاقيّ، تظهر بموجبه الغالبيّة الحاكمة مظهراً حسناً وكأنها قوى خير بمعزل عن تاريخ أشخاصها أو أعمالها ومشاريعها المتعلقة بالضرائب أو الحقوق الاجتماعيّة أو الصّراع العربيّ الإسرائيليّ أو سلاح المقاومة، وذلك على نقيض المعارضة التي هي لا توفّر جهداً لحماية الإجرام!
والى هذين الأمرين، أمر ثالث ــ وهو ربما الأخطر لما له من انعكاسات على المؤسسات والسلم الأهلي ــ مفاده الإيحاء بأنّ الاختلاف في شأن المحكمة هو مانع لأيّ عمل أو مستقبل مشترك أو بأقل تقدير، وفي حال الضرورة، مانع لأيّ تشارك يكون فيه للطرف الآخر (المعارضة) حقّ في تعطيل القرار، تماماً كما قد يكون الكفر مانعاً للزواج أو للصداقة وعلى الأقلّ للثقة! وهذا ما فتح الباب «على مصراعيه» أمام التأويلات ومقترحات الوساطة الآيلة الى اشتراط منح الثلث الضامن للمعارضة بإنجاز مشروع إنشاء المحكمة، على نحو يحيّد المعارضة عن تعطيلها. وهذا ما أعربت عنه مبادرة الرئيس نبيه بري الأخيرة. ولكن الأخذ بمشروعية هذا المنطق (أي تحييد المعارضة عن موضوع المحكمة مراعاة لهواجس الغالبية) إنما لا يستتبع بالواقع الامتناع عن إعطاء المعارضة الثلث المطلوب حتى إنشاء المحكمة فقط، بل الامتناع عن إعطائها ذلك حتى إنهاء المحكمة أعمالها بشكل كامل، بما يشكل تعطيلاً كارثياً للوفاق الوطني وللدستور وربما لمجمل مؤسسات الدولة حتى ذلك التاريخ. وهذا ما يتحصل من قراءة متأنّية لاتفاق المحكمة مع الأمم المتحدة حيث تضمن هذا الاتفاق عشرات الأحكام التي تستوجب تدخّل الحكومة، لا للتشاور فقط، بل أيضاً للقيام بإجراءات معينة كوضع لائحة القضاة الوطنيين أو تعيين نائب المدعي العام، أو إبرام اتفاق مقر المحكمة وإنشاء مكتب المحكمة الخاصة في لبنان إلخ... فأي معارضة داخل الحكومة لأي من هذه الإجراءات قد يشكل باباً لإعاقة المحكمة إذا تمتعت بالثلث الضامن. واللافت أن كلا الفريقين يلازم الصمت عن هذا الأمر كأنما يُراد إبقاؤه هاجساً أو سلاحاً خفياً، علماً بأنه قد يكون أحد الأسباب المهمة لتعطيل أي حلّ. وهذا ما يفسّر ربما التصريحات الأخيرة لسعد الحريري الذي ذهب الى حد تشبيه إعطاء الثلث بقتل الحريري مرة ثانية (خطاب سعد الحريري في 1 نيسان)، أو رغبة الغالبية في وضع المحكمة على أساس الباب السابع بمعزل عن أي دور للحكومة اللبنانية.
ولعلّ أسوأ ما في هذا الانقسام في شأن المحكمة هو مزجه بخلاف طائفيّ كأن تصوّر معارضة المحكمة على أنها اعتداء شيعيّ على حقوق السنّة! ما يشرّع الأبواب حكماً أمام الفتنة!
وإزاء هذا الخطاب المبني على قدسية المحكمة، بدت المعارضة للأسف عاجزة تماماً عن مجابهته بشكل مناسب. فإذا هي نجحت الى حد كبير في إظهار مشروعية هواجسها من مسار التحقيقات في بداياتها أو بعض تناقضات الساعين الى فرضها، فإنها بالمقابل سقطت تماماً في الفخّ السياسيّ الآيل الى إظهار القضية على أنها المحور الأساسي للانقسام السياسيّ (clivage)، ما أسهم الى حد كبير في تهميش مسائل مهمة كثيرة وإظهار المعارضة مظهراً غير أخلاقي كما سبق بيانه. ولعلّ أساس ذلك هو أنها لا تجرؤ على المسّ بالطابع المقدّس للقضية، وتالياً على إعطائها الأهمية التي تستحق ضمن مشروع عدالة متكامل وبمعزل عن أي لغو أو شطط. وليس مردّ عجزها المذكور، في رأيي، نيتها مراعاة مشاعر الشارع السنّي درءاً للفتنة وحسب، بل بالدرجة الأولى بتقديري إدراكها السياسي المتعثّر الذي يقيم للمحاصصة مقاماً يتجاوز من حيث أهميته «ضرورات العدالة» بمعناها الواسع. وليس أدلّ على ذلك كثرة حديثها عن التوافقية الطائفية فيما تلتزم بالمقابل صمتاً مزمناً إزاء وضع القضاء الذي يمر حالياً في أصعب أحواله، ولا سيما بعدما امتنع الرئيس لحود عن توقيع المرسوم الخاص بالتشكيلات والتعيينات القضائية. أفليس من المشروع، إزاء اتهامها بتعطيل العدالة الدولية، التساؤل عما فعلته أو تفعله ضماناً للعدالة الوطنية؟
* محام وباحث قانوني