نبيل المقدم *
مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ظهرت الى العلن نقطة جديدة في العالم جاذبة للصراعات الإقليمية والدولية، وهي منطقة بحر قزوين في آسيا الوسطى التي كانت تابعة للحكم السوفياتي طوال سبعين سنة. وسبب هذا الصراع ليس فقط كون هذه المنطقة طافحة بالثروات الطبيعية من نفط وغاز طبيعي، إذ تشير تقديرات وزارة الطاقة الأميركية الى وجود احتياطي نفطي في تللك المنطقة يصل الى 240 مليار برميل من النفط، فيما مصادر أخرى تتحدث عن وجود ما بين 50 إلى 100 مليار برميل، أما الدكتورة شيرين اكنير الباحثة في جامعة لندن في شوؤن النفط والطاقة فإنها تقول إن هذه الأرقام مبالغ فيها وإن الاحتياطي النفطي هناك لا يتجاوز 30 مليار برميل وهو رقم ضخم جداً. والسبب الآخر للتجاذب على تلك المنطقة هو كونها معبراً استراتيجياً للنقل بين روسيا وإيران وتربط كلاً من دول أوروبا الشرقية والشمالية مروراً بالشرق الأوسط والهند وهو مكان يعرف قديماً بدرب الحرير. وفي مناسبات عدة دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى استغلال هذا الخط الرابط الشمال بالجنوب الى الحد الأقصى من خلال تسيير المبادلات التجارية التي تحسّن المردود الاقتصادي بنسبة 20% وتوفر مدة زمنية تصل الى أسبوعين مقارنة مع الخط البحري الذي يمر عبر قناة السويس والبحر الأحمر.
وبعدما كانت الدولتان تتقاسمان النفوذ في تلك المنطقة وهما روسيا وإيران، أصبح هذا النفوذ موزعاً بين خمس دول هي، بالإضافة الى الدولتين المذكورتين، تركمنستان وكازاخستان وأذربيجان التي استقلت عن روسيا، ونظراً إلى أن هذه الدول خرجت من تحت الحكم السوفياتي وهي في وضع اقتصادي بائس ولا تمتلك الإمكانات الاقتصادية والتقنية لاستغلال مواردها الطبيعية، فكان أن فتحت أبوابها أمام الشركات العالمية النفطية ولا سيما البريطانية والأميركية للقيام بهذه المهمة ما أتاح فرصة أكبر للولايات المتحدة للهيمنة على مصادر جديدة للطاقة، وذلك تنفيذاً لاستراتيجية وُضعت في عهد الرئيس كارتر عام 1979 بعد الثورة الإيرانية وتقضي بتنويع مصادر الطاقة والتقليل من الاعتماد على دول أوبيك وبالسيطرة على منابع النفط خارج منطقة الشرق الأوسط، فها هو بيل ريتشاردسون وزير الطاقة في عهد كلينتون يقول: إن منطقة بحر قزوين تناسب تلك السياسة القاضية بتحقيق أمن الطاقة اعتماداً على تنويع مصادر النفط في جميع أنحاء العالم. ويضيف: يجب أن نحرّك الدول المستقلة في اتجاه (دول آسيا الوسطى) الغرب بدل أن يسلكوا طريقاً آخر.
وقد وجدت الولايات المتحدة أن وضع اليد على منطقة قزوين يمكّنها أيضاً من الحؤول دون أن تتحول روسيا الى مزوّد رئيسي لأوروبا واليابان بالنفط، ما يبقيهما تحت أحادية السيطرة السياسية الأميركية. وتستهدف السيطرة على تلك المنطقة أيضاً منع إيران من أن تكون الناقل الرئيسي للنفط القزويني إلى الخليج العربي وتركيا. ومن أجل ذلك دعمت الولايات المتحدة بناء الخط النفطي الذي يربط باكو في أذربيجان بميناء سيحان التركي المطل على المتوسط والذي سلك طريقاً طويلة جداً وبلغت كلفة بنائه حوالى ثلاثة مليارات دولار وبطول ألف وستمئة كيلومتر وكان من الممكن بدلاً من ذلك بناء خط يربط ميناء نفورسيك الروسي بالسواحل الإيرانية بتكاليف أقل بكثير. ولكن رفض واشنطن لمرور خط قزوين بإيران لأن هذا الخط سيصبّ في النهاية في الخليج العربي ليمر بناقلاته عبر مضيق هرمز، ما سيجعل السيطرة الأميركية على النفط القزويني عرضة لأي تأثيرات سياسية وعسكرية تصيب منطقة الخليج وتأتي غير متوافقة مع السياسات الأميركية في المنطقة. وإن ممانعة الولايات المتحدة لها هدف آخر هو منع إيران من تطوير صناعتها النفطية والاستفادة من الرسوم على الكميات النفطية التي تُنقل عبر أراضيها. قبل أحداث الحادي عشر من أيلول التي اتخذتها الولايات المتحدة ذريعة لمهاجمة أفغانستان بحجة اجتثاث جذور القاعدة وطالبان، كانت السياسة الأميركية تجاه دول قزوين باستثناء إيران تقوم على جهود ديبلوماسية مكثّفة تهدف الى حمل الدول القزوينية على فتح حقولها أمام الشركات الأميركية النفطية، وذلك في عهد الرئيس كلينتون الذي ركّز جهوده على بناء خط باكو ــ سيحان.
أما مع مجيء بوش ونائبه تشيني الى الحكم وهما ربيبا الشركات النفطية الأميركية، فقد أصبح لهذه الشركات اليد الطولى في القرار السياسي الأميركي. وفي عام 2001 كتبت مجلة نيوزويك أنه منذ أن أُنشئت صناعة سكك الحديد قبل مئة سنة لم تتمكن صناعة واحدة (صناعة النفط) من إيصال هذا العدد من جنودها الى الإدارة العليا. وفي خطاب ألقاه أمام مسؤولي صناعة النفط في واشنطن عام 1998 قال ديك تشيني وكان لا يزال يومها نائب الرئيس التنفيذي لشركة هاليرتون للإمدادات النفطية: لم أكن أتصور أن يأتي يوم تظهر فيه منطقة وتصبح بمثل هذه الأهمية الاستراتيجية مثلما حدث في بحر قزوين. وفي عام 2001 نُشرت خطة بوش للطاقة التي جاء فيها أن أي نقص في موارد الطاقة، يعني تهديد الأمن القومي الأميركي، ما يعني ان سياسة تأمين الطاقة يجب ان تسير بمحاذاتها خطة أخرى هي خطة أمن الطاقة، التي تعني نشر قواعد عسكرية لحماية خطوط تدفّق النفط، ولا سيما في البلدان المضطربة أو تلك التي تفتعل فيها الولايات المتحدة اضطرابات للسيطرة على مواردها النفطية. ومما لا ريب فيه ان النفط كان المحرك الأساسي للحرب على أفغانستان، إذ ان أفغانستان تمثل موقعاً مثالياً لنقل النفط والغاز من قزوين، وليس أدل على هذا الاتجاه من تعيين زلماي خليل زاد السفير الأميركي السابق في العراق مبعوثاً للرئيس الأميركي جورج بوش في كابول بعد أيام قليلة على تولّي حميد قرضاي رئاسة الوزراء هناك. والمثير في الأمر ان زلماي زاد كان يعمل مستشاراً لشركة يونوكال الأميركية للنفط التي سعت لدى طالبان لإقناعها بمد أنابيب للنفط والغاز عبر الأراضي الأفغانية ولكن من دون جدوى. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه القواعد التي أقامتها الولايات المتحدة هناك هي من أجل إحكام قبضتها على النفط القزويني فقط أم لها أهداف أخرى؟ وما علاقتها باحتمال توجيه ضربة عسكرية أميركية الى إيران؟ بفعل الوجود الأميركي في منطقة قزوين وفي دول آسيا الوسطى، أصبحت إيران بين نقطتي حصار، بحر قزوين من الشمال والخليج العربي في الجنوب، وخاصة ان أذربيجان، التي وضعت فيها الولايات المتحدة محطات رادار متطورة تمكّنها من التشويش على كل من روسيا وإيران، تشكل نقطة عازلة بين روسيا وإيران.
وفي عودة الى الموضوع الإيراني يمكننا ان نرى السيناريو نفسه الذي اتبعته الولايات المتحدة مع العراق وأفغانستان يتكرر مع إيران والحجة دائماً هي محاربة الإرهاب. ولكن الحقيقة المرعبة هي ان الولايات المتحدة تريد أن تضع أكبر احتياط نفطي في العالم تحت سيطرتها وفي دائرة مغلقة تمتد من الخليج الى قزوين، مروراً بإيران وتحت إشراف الأمن القومي الأميركي المباشر، ما يمكّنها من التحكم بسياسات العالم الاقتصادية لفترة طويلة من الزمن، من خلال التحكم بأسعار النفط. وإذا كانت حرب أفغانستان شكلت منصة انطلاق نحو السيطرة على نفط قزوين، فإن هذه السيطرة لن تكتمل إلا بوضع اليد على النفط الإيراني. لذلك كان لا بد من منصة انطلاق ثانية، فكانت السيطرة على العراق تكملةً لعناصر الضربة المزمع توجيهها شرقاً الى إيران، إذ ان السيطرة على ايران تُكمل السيطرة على نفط قزوين.
ولعل المفارقة الكبرى أن تأتي حرب تموز الأخيرة التي شنّتها إسرائيل على لبنان لتحمل في طياتها بعضاً من ملامح الخطة الأميركية للسيطرة على النفط القزويني، وذلك من خلال دخول اسرائيل على خط استثمار هذا النفط. والمتابع لمؤتمر هرتزليا الأخير، الذي عقد في الشهر الأخير من العام الماضي، يلاحظ ما كشفه وزير البنية التحتية الاسرائيلية بنيامين أليعازر عن مخطط بناء بنية تحتية لخط باكو ـ تبليسي ــ سيحان الذي يعتبر أطول خط نفطي في العالم بطول يبلغ 1600 كلم ويربط بحر قزوين بشرق المتوسط، وينقل أكثر من برميل يومياً الى الأسواق الغربية في ميناء إيلات على البحر الأحمر وتطمح اسرائيل من خلال ذلك إلى ان تستفيد من نفط قزوين ليس فقط لاستهلاكها المحلي، بل بهدف ان تتحول الى المفتاح الرئيسي لإعادة تصدير نفط قزوين الى الأسواق الآسيوية عبر مرفأ إيلات على البحر الأحمر.
* كاتب سياسي