نزار صاغيّة *
في هذا الصّدد، تجدر الإشارة بداية الى أنّ موضوع النّقاش الدّائر حاليّاً يتّصل بنصّين أساسيّين: الأول هو نصّ الاتفاق بين الحكومة اللبنانيّة والأمم المتّحدة (21 مادة) الذي يتضمن موضوع التعاون بينهما (إنشاء المحكمة مع تحديد اختصاصها، تكوينها وكيفية تعيين القضاة، تمويلها، مقرها، حصانتها، إجراءات الحماية...) وإطاره العامّ، والثاني هو نصّ نظام المحكمة (30 مادة) الذي يتضمّن: اختصاص المحكمة، القوانين والأصول المطبقة، التنظيم الإداري للمحكمة، لغة العمل، حقوق الدفاع والمدعى عليهم والمجني عليهم، تنظيم الصلاحيّة المشتركة مع المحاكم الوطنيّة، تنفيذ الأحكام...
وقبل استعراض أبرز الإشكاليات في هذا المضمار، أسارع الى القول بأن ثمة مشكلتين رئيسيتين في هذين النصين: الأولى أن واضعيه تجاهلوا الى حد كبير هواجس التسييس التي بدت في ظل الصراع الإقليمي مشروعة، وخصوصاً بعد تقارير ميليس، وهذا ما تجلّى مثلاً في عدم إيلاء ضمانات الاستقلالية لدى المحكمة أو القضاة اهتماماً خاصاً، والثانية أنهم تصرّفوا كأنّما سها عن بالهم أنّ أساس وجود هذه المحكمة مختلف الى حدّ بعيد عن سائر المحاكم الخاصّة أو عن المحكمة الجزائيّة الدائمة.
أ ــ إشكاليّات متّصلة باختصاص المحكمة:
في هذا الصّدد، نلحظ أنّ للمحكمة اختصاصات ثلاثة: الأول رئيس ومؤكّد هو مقاضاة المسؤولين عن الهجوم الذي وقع في 14 شباط 2005 وأدّى الى مقتل الحريري وأشخاص آخرين، والثاني يتناول الهجمات التي وقعت في لبنان بين 1 تشرين الأول 2004 و12 أيلول 2005 والتي تختص المحكمة في النظر فيها فقط إذا رأت أنها مرتبطة بقضية الحريري وأيضاً مماثلة لها من حيث الخطورة والأهمية، والثالثة تتناول الهجمات التي قد تحصل بعد تاريخ 12 كانون الأول 2005 والتي يكون اختصاص المحكمة في شأنها، كما في الحالة الثانية، تبعياً ومشروطاً بما سبق ذكره على أن يتفق الأطراف مجدّداً بموافقة مجلس الأمن على تمديد الاختصاص الزمنيّ للمحكمة على نحو يشمل تاريخ حصولها. وأبرز ما نلحظه هو أنّ اختصاص المحكمة لا يشمل فئة معيّنة ومحدّدة مسبقاً من الجرائم، بل الجرائم المماثلة والمرتبطة بجريمة الحريري التي تصبح هي معيار الاختصاص. وبكلام آخر، يظهر كأنما جريمة الحريري والجرائم المرتبطة بها فئة مستقلة بذاتها لها خصوصيّة معيّنة يقتضي عرضها على المحكمة الخاصّة ذات الطّابع الدّوليّ، مهما يكن وصف الجريمة وبمعزل عما إذا كانت أكثر أو أقل خطورة من سواها. فما هي الخصوصيّة التي تبرّر ذلك؟
إنها تنجم حسب نصوص المحكمة من مجموعة من العوامل المذكورة على سبيل المثال لا الحصر وهي تباعاً القصد الجنائي (الدافع) والغاية من الهجمات وطبيعة الضحايا المستهدفين ونمط الهجمات (أسلوب العمل) والجناة. والغريب في الأمر هو أنّ النّظام لم يشأ حتى تعريف الدوافع أو الغايات التي تبرر اختصاص المحكمة ذات الطابع الدوليّ كأن يعلن أن الدوافع المقصودة هي الدّوافع السياسية أو الدوافع الآيلة الى فرض سياسات خارجيّة على لبنان، أو الى إحداث فتنة فيه أو الى تعطيل مؤسساته إلخ... ما يبقي بنتيجة ذلك ماهية الدوافع والغايات المبررة لاختصاص المحكمة حتى اللحظة مجهولة أو على الأقلّ مفترضة. وما يزيد الأمر غرابة هو أن غالب عوامل الارتباط المذكورة تبقى بطبيعتها افتراضية حتى خواتيم المحاكمة (أقله نظرياً عملاً بقرينة «المتهم بريء حتى إثبات إدانته)، ما يجعل اختصاص المحكمة (هو أيضاً) افتراضيّاً، حتى ذلك التاريخ. وهذا ما قد يحصل مثلاً إذا رأت المحكمة وجود روابط كوحدة الجناة ودوافعهم وغاياتهم بين أي من الهجمات واغتيال الحريري فيما يتأكد لها خلاف ذلك بعد انتهاء المحاكمة التي قد تمتد لسنوات. ففي هذه الحالة، يتحتّم عليها إذ ذاك إعلان عدم اختصاصها مع ما يستتبع ذلك من خلل على صعيد سير العدالة. وليس أدلّ على ذلك من تضمين المحقّق الدوليّ براميرتس في تقاريره الأخيرة، أي بعد ما يناهز سنتين من التحقيق، مجموعة من الفرضيّات في شأن دوافع الجناة في قضية اغتيال الحريري.
وانطلاقاً مما سبق، يظهر مبرّر المحكمة أنه مستمدّ من إرادة المجتمع الدوليّ في التصدّي لا لنوع معين من الجرائم (بسبب خطورتها) بل لمخطّط معيّن قادته جهة معيّنة وهو المخطط الذي أدى الى اغتيال الحريري. وإذا جمعنا هذه الخلاصة مع الاتّهامات السياسيّة الموجّهة الى النّظام السوري بالتورّط في هذه الجريمة، ساغ القول إن اختصاص المحكمة ينحصر، من خلال قراءة سياسية، بمقاضاة الجرائم المرتبطة بالمخطّط السوري في لبنان، دون سواها من الجرائم أو المخططات التي تبقى خارج اختصاص المحكمة وإن كانت أكثر خطورة وإجراماً. وهذا ما يفتح الباب، أقله نظريّاً، أمام غرائب قانونية كأن تضع المحكمة يدها على بعض الهجمات المرتكبة خلال الفترة المشار إليها أعلاه فيما تعرض عن هجمات تماثلها في طبيعتها وربما تضاهيها من حيث الخطورة، لعدم ثبوت نسبتها الى هذا المخطط، ما يجعلها أداة لا تفيد اللبنانيين بشيء في حال انتقل الإجرام من معسكر الى آخر! هذا من دون الحديث عن الآثار السلبية التي قد تنجم من هذا «الاختصاص الافتراضي»، وخصوصاً لجهة إرباك المحاكم اللبنانية الحائرة بين المضي قدماً في تحقيقاتها وإجراءاتــــــــها أو التريّث حتى انتهاء أعمال المحكمة الدولية.
ب ــ إشكاليات متصلة بالتّنازل عن صلاحيّة العفو:
ومن الإشكاليات الأخرى التي لا تقلّ خطورة عما سبق، هو تعهّد الحكومة بعدم إصدار عفو عامّ في حقّ أيّ شخص يرتكب أي جريمة تدخل ضمن اختصاص المحكمة الخاصة، مع الإشارة الى أن «العفو الصادر في حق أي من هؤلاء الأشخاص أو بخصوص أي من هذه الجرائم لا يحول دون المحاكمة».
والواقع أنّ التّنازل عن العفو بهذا الشّكل يشكّل تنازلاً فريداً من نوعه مفاده التّنازل عن صلاحيّات ــ أو بالأحرى مسؤوليّات ــ دستوريّة، تعود للمجلس النيابيّ بصفته التشريعيّة للعفو العامّ. وإذا كان نص هذا التنازل المستمد من نظام المحكمة المختلطة في سيراليون مبرراً فيه ما دام يتصل بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فإنه يشكل مخالفة دستورية في الاتفاق اللبناني ما دام يسفر عن إدخال قاعدة تمييزيّة مفادها عدّ بعض الجرائم غير قابلة للعفو بخلاف جرائم أخرى قد لا تقلّ خطورة عنها. وإذا قاربنا هذا التنازل بقوانين العفو عن سمير جعجع ورفاقه وجرائم الضنية وعنجر التي استباحتها الغالبية نفسها منذ فترة وجيزة في جرائم لا تقل خطورة وعلى نحو تمييزي عار من أي مصلحة عامة (المقلب الآخر)، جاز القول بأنها تتعامل مع صلاحية العفو كأنه امتياز بإمكانها ممارسته أو التنازل عنه كيفما تشاء بمبرر أو من دون مبرر.
والمؤسف أن هذا الواقع ــ أي إلغاء الجدليّة بين المحاكمة والعفو ــ أتى مشابهاً لما شهده لبنان عموماً في فتراته الانتقالية السابقة سواء عند انتهاء حرب (1975-1991) أو بعد انسحاب الجيش الاسرائيليّ. وبنتيجة ذلك، لم ترقَ الإجابات عن هذه الأسئلة أبداً الى مصاف المبادئ أو الرؤى الشاملة بل جاءت دوماً تكريساً للقوّة. فذوو القوّة نجحوا دوماً في استلاب العفو لأنفسهم بحيث بدت قوانين العفو أشبه بأوسمة تعلّق على صدورهم، وهذا ما تجلّى مثلاً في قانوني العفو 1991 و2005. وإن ذوي القوة نجحوا أحياناً في إقامة المحاكمة للتخلّص من بعض خصومهم في أجواء توحي مؤكّداً أنّ المحاكمة «صراع نفوذ» أكثر من كونها عمل عدالة. والواقع أنّ كلا الأمرين خاطئ (أي العفو الامتيازي والمحاكمة الانتقائية لأسباب سياسية)، ما دام كلاهما ينشد القوة ويهيّئ لها فيما ان الفترات الانتقالية تدعو غالباً الى وضع أسس للانتقال من «فظائع القوة» الى دولة القانون. وأكثر ما يخشى في هذا الصّدد هو أن تظهر «المحكمة المحتومة» هي الأخرى في هذه الظروف، بمثابة أداة سياسيّة انتقائيّة يوظفها بعض كبار المجتمع الدولي تحت شعار مساعدة لبنان لتحقيق مكاسب سياسيّة ضدّ النظام السوريّ. وعلى خلفية هذا الهاجس، يصبح السؤال الآتي «لماذا يفرض على الحكومة التنازل عن العفو إذا تمّ إنشاء المحكمة أصلاً لمؤازرتها، وخصوصاً أنّ الجرائم التي يشملها نظام المحكمة لا تدخل ضمن الجرائم التي لا تقبل العفو وفقاً للمعايير الدولية؟» هاجساً مقلقاً يلتقي تماماً مع الهاجس الناجم من كيفية تحديد اختصاص المحكمة وفقاً لما سبق بيانه.
وما قيل في هذا الصدد يصحّ بالدرجة نفسها على ما يتصل بتقييد ممارسة العفو الخاص (أي العفو الرئاسي) بموافقة رئيس المحكمة الخاصة، والذي يشكل هو الآخر مسؤولية دستورية لا يجوز التنازل عنها في جرائم مماثلة. بقي الآن أن نستعرض الإشكاليات المتصلة باستقلالية المحكمة أو القضاة.
ج ــ إشكاليّة استقلاليّة القضاة والمحكمة:
من النّافل القول إنّ الظروف المحيطة بإنشاء المحكمة تولّد شكوكاً مشروعة في شأن استقلاليّتها. فمجرّد إنشاء محكمة خاصّة يعني أنّ الجريمة ستعرض على قاض يُعيّن خصيصاً للنظر فيها، ما يجرّد المحكمة من إحدى ضمانات الاستقلالية الأساسية وهي وجود «القاضي الطبيعي» أي القاضي المعيّن مسبقاً للنظر في جرائم معينة تحصل بعد تعيينه. ومن العوامل الأخرى، هناك الانتقائية الواضحة لدى مجلس الأمن في ملاحقة الجرائم وفقاً لهوية الجناة المفترضين، وأيضاً المعايير المبهمة وغير الواضحة في تحديد اختصاص المحكمة والمشار إليها أعلاه. وإذ بدا مبرّراً في ظلّ هذه الظّروف إيلاء مسألة ضمانات الاستقلاليّة أهميّة فائقة، فإن نصوص المحكمة جاءت مقارنة بأنظمة مماثلة مقلّة، بل معيوبة في هذا الشأن، وكأن استقلاليّة المحاكم الدوليّة هو إحدى المسلّمات التي لا تحتاج الى ضمانة.
وهذا ما نلحظه أولاً في تحديد مواصفات القضاة، إذ هم وفقاً لنصوص المحكمة «أشخاص على خلق رفيع، تتوافر فيهم صفات التجرّد والنّزاهة ويتمتّعون بالخبرة القانونيّة (القضائيّة في النصّين الفرنسيّ والإنكليزيّ) الواسعة». ففضلاً عن أن هذه المواصفات عامّة بالكاد تصلح معياراً مؤثّراً في اختيار القضاة، فإنّ هذه المواصفات المستمدة من أنظمة محاكم دولية خاصة بدت «مبتورة» من ضمانة موضوعية أساسية مفادها أن يتمتّعوا (أي القضاة المعيّنون) بمؤهّلات تمكّنهم من تولّي أعلى المناصب القضائيّة في بلدانهم (مثلاً: مادة 13 من نظام سيراليون، مادة 12 من نظام رواندا..). وبمعزل عن نيّات واضعي النصوص، فإن حذف هذه الصفة «الموضوعية» غير مفهوم ويوحي كأنما بالإمكان تعيين قضاة من الصفّ الثاني وما دون أو ــ وهذا أسوأ ــ تعيين قضاة انقطعوا عن مزاولة القضاء (متقاعدين، مستقيلين..).
والى ذلك، بدت آليات تعيين القضاة هي الأخرى مدعاة للتساؤل.
فالأمين العام هو الذي يختار القضاة وذلك خلافاً لبعض أنظمة المحاكم الخاصة التي أولت الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة حقّ انتخابهم تكريساً لمشروعيتهم الدولية (يوغوسلافيا، رواندا، المحكمة الجزائية الدولية)، ما يجعله شخصاً محورياً في هذا الصدد. وإذا نصّ النظام على أن الأمين العام يمارس مهمة الاختيار بناء على توصية فريق اختيار درءاً للاستنساب، فالجدير ذكره أنه هو الذي يختار أعضاء هذا الفريق الذي يضم ممثلاً عنه إضافة الى قاضيين يعملان أو عملا في محكمة دولية! وإذا كان هامش خياراته ضيقاً في اختيار القضاة اللبنانيين (وعددهم 4 من أصل 11) حسبما نبين أدناه، فإنه يتمتع بالمقابل بهامش واسع جداً في اختيار القضاة الدوليين من بين المرشحين ليس فقط من قبل الدول، بل أيضاً من قبل أشخاص مختصّين، يعطون للمرة الأولى حق الترشيح في سابقة من نوعها في أنظمة المحاكم الخاصة.
وإذا كانت صدقية الأمين العام بنتيجة دوره المحوري أساسية في ضمان استقلالية القضاة، فإن آلية تعيين القضاة اللبنانيين تثير بالواقع هواجس أكبر. فالأمين العام يختار القضاة اللبنانيين ضمن قائمة من 12 اسماً تقدمها الحكومة بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى في «السلطة القضائية اللبنانية». وأول ما يلحظ في هذا المجال هو السعي الى الإيحاء بأن مجلس القضاء الأعلى هو الذي يضع القائمة، فيما يقتصر دور الحكومة (المنحازة حكماً ما دامت تمثل الى حد كبير تيار المستقبل الذي أنشأه رفيق الحريري) على نقلها الى الأمم المتحدة، وتالياً الإيحاء بوجود ضمانات لتعيين قضاة مستقلين!!
وليس أدل على ذلك من تضمين الترجمة العربية الرسمية لنصوص المحكمة عبارة «السّلطة القضائيّة اللبنانية» (وهي كلمات مضافة لا أثر لها إطلاقاً في النصوص الفرنسية والإنكليزية). ولكن من ترى نسي التّجاذب الإعلاميّ المديد في شأن تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى (وفيه 8 من 10 تعيّنهم الحكومة بطريقة أو بأخرى حسب النصوص)، مع ما تخلّله من تأويلات وتحليلات بأن الغالبية النيابيّة تتمتّع فيه بتأييد 7 أعضاء من أصل عشرة؟ ثم، إذا كان هذا المجلس مستقلاً حقاً، فلماذا لا تعيّن الحكومة (بناء على اقتراحه) القضاة اللبنانيين، بما يشكّل عملاً سياديّاً مطابقاً لسابقة المحكمة الخاصة المختلطة في سيراليون، من دون أن يترك هامش الخيار للأمين العام للأمم المتّحدة؟ أم ترك هامش الخيار لهذا الأخير من ضمن القائمة يفتح مجالاً للتحرّر من اعتبارات المحاصصة الطائفيّة التي يبقى المجلس في مجمل تصرّفاته ملزماً بها؟ من هذا المنظور، تبدو آليّة تعيين القضاة اللبنانيّين وكأنّها ستار مزدوج، الأول ستار «استقلالية مجلس القضاء الأعلى» والذي يسمح للحكومة بوضع القائمة، والثاني ستار «الأمين العام للأمم المتحدة» والذي يسمح للجهات الدولية الفاعلة بـ«تشحيل» هذه القائمة بمنأى عن ضرورات المحاصصة أو ما يسمّى التوافقيّة أو الأعراف اللبنانيّة، مع ما قد يستتبع ذلك من مشاعر سلبيّة في الرأي العامّ اللبنانيّ.
والى ذلك، بقيت نصوص المحكمة خلواً من أي إشارة الى احتمال ردّ أحد القضاة لعدم توافر شروط الاستقلاليّة أو الحياديّة لديه. واذا كان من الممكن سدّ هذه الثغرة عند وضع القواعد الإجرائيّة (من قبل قضاة المحكمة أنفسهم) وفقاً للصلاحيّات المفوّضة لهم في هذا الشأن، يبقى أن هذه المسألة تقبل في المجال الدولي أحكاماً تراوح بين تضييق احتمالات الرد (نظام المحكمة الدولية في لاهاي حيث يفترض الردّ توافر إجماع قضاة المحكمة عليه) وتوسيعها (نظام المحكمة الجزائية الدولية حيث يفترض الرد توافر أكثرية مطلقة). والذهاب في اتجاه أو آخر يبقى بالطبع وقفاً على أولويات أصحاب القرار، وتحديداً فيما إذا كانت «صون هيبة القضاة والمحكمة» أو على العكس من ذلك «استبعاد أي عنصر بات محلّ شبهات جدية حرصاً على مثاليات العدالة». ومهما يكن، فإن المخاطر الكامنة في آليات التعيين تشكل في الوقت نفسه مخاطر تحول دون توافر غالبية كافية لرد أي من القضاة الذين قد يشكك في حياديتهم.
وختاماً، يجدر الذكر أن القضاة يعيّنون لفترة ثلاث سنوات، قابلة للتجديد من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، مع ما يستتبع ذلك من إمكانيّة عزل أحدهم قبل انتهاء المحاكمة. وما يزيد الأمر خطورة هو أن الاتفاق نصّ على أن مدته هي ثلاث سنوات، تمدد لمدة إضافية يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية ومجلس الأمن إذا لم تنجز المحكمة أعمالها. وتالياً، كما للقضاة، كذلك للمحكمة مدة انتهاء صلاحية، وذلك بخلاف سائر أنظمة المحاكم الخاصة حيث يبقى الاتفاق سارياً حتى انتهاء مهماتها من دون حاجة إلى أي تمديد. ومهما تكن أهمية التفويض المعطى للأمين العام في هذا الشأن أو غيره من الشؤون، فإن صفته ــ كجهاز تنفيذي في الأمم المتحدة ــ تحدّ حكماً من هامش تحرّكه كلما لقي انقساماً أو معارضة شديدة داخل مجلس الأمن في شأن أي من صلاحيّاته.
* محام وباحث قانوني