عبد الإله بلقزيز *
تُقدِّم الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا مناسبة للتفكير في ظاهرتين جديدتين نسبياً على الحياة السياسية في هذه الدولة الديموقراطية العريقة، وعلى تقاليدها الانتخابية: التراجع المطّرد والمثير في مستوى الطبقة السياسية وفي رمزية رجالاتها، وخاصة أولئك الذين يعرضون أنفسهم وتعرضهم أحزابهم مرشحين للرئاسة، ثم التغيّرات الطارئة حديثاً على نسق القيم السياسي والتمثيلي نتيجة التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها فرنسا خلال العقد والنصف الأخير.
لفترة جديدة، انفردت فرنسا ــــــ أو تكاد ــــــ بكونها الدولة الغربية الديموقراطية التي لا يمكن أن يصل إلى سدّة الرئاسة فيها أي شخص لمجرّد أن حزبه قويّ القاعدة الانتخابية. تختلف تقاليد الجمهورية الفرنسية ــــــ هنا ــــــ عن تقاليد السياسة والانتخابات في النظام الأميركي مثلاً. فالأميركيون لا يضيرهم في شيء أن يكون رئيسهم من طراز رونالد ريغان أو جورج بوش الابن، لأن الآليات التمثيلية عندهم مختلفة، حيث الناخب الأكبر هو مؤسسات المصالح الكبرى (شركات النفط والسلاح والسيارات...) وليس الرأي العام الديموقراطي، إذ ليس من التقاليد أن يكون المواطنون على درجة من الوعي السياسي تسمح لهم بالتمييز بين المرشحين والبرامج. حتى أن الأميركيين لا يكادون يعرفون شيئاً عن المرشح للرئاسة عندهم، إلاّ إذا كان بطلاً قومياً (الجنرال أيزنهاور مثلاً) أو شخصية جماهيرية (ممثل سينمائي مثل رونالد ريغان). فالسياسة في أميركا ليست شأناً عامّاً في كل ولاياتها، بل هي شأن خاص بالعاصمة واشنطن ولدى نخبة صغيرة من السياسيين من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) في باقي الولايات.
يختلف الأمر كثيراً في فرنسا. هناك رأي عام ديموقراطي وشعب مسيّس ومهجوس بالشأن العام، وثمة حياة سياسية ونقابية حقيقية. والأحزاب إذ تتبارى على كسب ولاء المواطنين، تقدّم أفضل ما لديها من وجوه السياسة للانتخابات ممّن يحظون بالصدقية لسمعتهم السياسية والاجتماعية والثقافية. وفي انتخابات الرئاسة بالذات، مَن لم يكن ذا شخصية كاريزمية فلا يحظى بالفوز، وإن كان ينتمي إلى حزب قويّ الحظوظ بالفوز. بل أحياناً ما كانت كاريزما الرئيس أعلى مقاماً من حزبه. فلقد خسر «الحزب الاشتراكي» مثلاً انتخابات الجمعية الوطنية (= البرلمان) إبّان ولاية زعيمه الرئيس فرانسوا ميتران خسارة مروّعة، لكن ميتران كسب انتخابات الرئاسة لولاية ثانية في ظل حكومة الديغوليين، لأن كاريزميّته حمته من انتقام الناخبين الاشتراكيين.
أنتجت الجمهورية الخامسة، منذ ميلادها قبل نصف قرن تقريباً، طبقة سياسية حيّة ومتقدمة من التيارات كافة: من اليمين ومن اليسار، من الأحزاب الحاكمة ومن أحزاب المعارضة، فضلاً عن أنتلجنسيا ضخّت ــــــ منذ النصف الثاني من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات ــــــ حيوية كبيرة في الحياة السياسية من خلال التأليف والحوار والجدل وصناعة الرأي العام. وكان طبيعياً ــــــ والحال هذه ــــــ أن تنتج هذه الطبقة السياسية الفرنسية قيادات حزبية ورجال دولة من طراز مميّز. مَن يستعِدْ اليوم أسماء مثل شارل دوغول، وجورج بومبيدو، وجاك شابان ديلماس، وفاليري جيسكار ديستان، وريمون بار، وفرانسوا ميتران، وميشيل روكار، وبيير موروا، وجاك دولور، وكلود شيسون، وجورج مارشي...، يذكر أيّ نوع من السياسيين ورجال الدولة كانت تنتج فرنسا قبل عقدين. أما اليوم، فالأمر مختلف تماماً. فنحن أمام سياسيين ومرشحين باهتين لا يُطمئن أحدٌ منهم هواجسَ الرأي العام.
من النافل القول أن آخر السياسيين من هذه السلالة، وهو جاك شيراك، لم يكن محسوباً ضمن صفّ الرموز قبل عقد ونصف مثلاً. كان يقال في أوساط الرأي العام الفرنسي إن أعلى منصب يمكن أن يصل إليه شيراك هو المنصب الذي احتلّه طويلاً (عمدة باريس) وإن من المستحيل عليه أن يحلم بمركز رئاسة الجمهورية. لكن «الصدفة» ــــــ أو قُل ضحالة الطبقة السياسية في منتصف التسعينيات ــــــ أتت به إلى سدّة الرئاسة، مستفيداً من إحجام المنافس الاشتراكي الحقيقي عن المنافسة (جاك دولور) ومن وجود منافس اشتراكي باهت (ليونيل جوسبان) ومن الصعود المفاجئ لزعيم «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرّف جان ماري لوبان إلى الدور الانتخابي الثاني الذي فرض التحالف ضدّه بين اليسار ويمين الوسط.
يستفحل الأمر أكثر اليوم. فالذين في المشهد الآن هم دون ــــــ حتى ــــــ شيراك وجوسبان مكانةً وخبرة وشعبية، وبرامجهم من دون طعم سياسي، فلا اليسار يسار ولا يمين الوسط احتفظ من الديغولية بشيء، ولا شيء من العمق في النقاش السياسي. وإذا أضفنا إلى ذلك كله النجاحات التي يحرزها اليمين العنصري المتطرف، ممثلاً بـ«الجبهة الوطنية» وزعيمها جان ماري لوبان، في حيازة التأييد الشعبي واضطرار مرشح اليمين نيكولا ساركوزي إلى استعارة بعض مواقفه لاجتذاب تأييد الأوساط اليمينية، اجتمعت الأسباب للقول إن انحطاطاً في مستوى الطبقة السياسية باتت تشهده فرنسا، وهو يهدد حياتها السياسية بالإفقار.
يترافق هذا الذي يبدو تراجعاً في مستوى الطبقة السياسية الفرنسية ورجالها ورموزها مع تحوّل كبير تشهده منظومة القيم المؤسسة للسياسة والتمثيل السياسي ولمعاييرهما على نحو نلحظ فيه نموّاً متدرّجاً لعلاقات جديدة للمواطَنَة تجسر الفجوة بين المفهوم النظري للمواطنة ــــــ كما تبلور في الفكر السياسي الليبرالي الحديث ــــــ وبين واقعها الفعلي المنقوص في سائر عهود الجمهورية. فإذ تعني المواطنة علاقة سياسية تشدّ أفراد المجتمع، في الدولة القومية أو الدولة ــــــ الأمة، إلى الدولة وإلى قيمها بوصفهم منتمين إليها وإلى الأمة بصرف النظر عن جنسهم ودينهم وأصلهم، ويتمتعون ــــــ من حيث هم مواطنون ــــــ بالحقوق عينها دون تمييز...، فإن التجربة التاريخية الحديثة والمعاصرة أثبتت أن فرنسا ما شهدت تحقيقاً ماديّاً ناجزاً لمعنى المواطنة هذا، وخاصة حينما يتعلّق الأمر بمَن يحكمها من مواطنيها.
نعم، كان في وسع القــــــــــــانون أن يضمن دائماً الحق في المشاركة السياسية وفــــــــــي التــــــــــــــمثيل السياسي لكل الفرنسيين، غير أن الثقافة السياسية العامة ــــــ ثقافة الجمهور وثقافة الطبقة السياسية نفسها ــــــ كانت تـــــــــقيم التمييز بين نوعين من المواطنين: بين مواطنين من أصول فرنسية وآخرين من أصول غيـــــــــر فرنسية، ثم بين فـــــرنسيين مسيحيين وفرنسيين مسلمين، بل بين فرنسيين كاثـــــــــوليك وفرنسيين بروتستانت. لم يكن التعبير عن هذه الـــــــــفروق والـــــــــفواصل جهيراً يجري على الألسن في أحاديث السياسة، لكنه كان يجري في البواطن كالكلام النفسي بلغة أبي الحسن الأشعري. وقد يقال إن في برلمانات فرنسا وبلدياتــــــــــها ممثلين فرنسيين من أصول مغاربية وأفريقـــــــــية وأوروبية شرقية، وهذا صحيح، لكن منصب الرئاسة كان بعـــــــــــــــيداً باستمرار عن الحق العمومي في التداول وفي الحيازة. وهذا ســـــرى حتى على فرنسيين من أصول فرنسية من غير الكاثـــــــــــــــــوليك. ولــــــــــقد قيل إن ميشيل روكار وليونيل جوسبان لا يستطيعان الوصول إلى الرئاسة ــــــ رغم مكانتهما السياسية ــــــ لأنهما بروتستانتيان! ويكفي أن يقرأ المرء أدبيات «الجبهة الوطنية» اليمينية وخطابها العنصري ضد المهاجرين، وشعبية هذا الخطاب لدى الفرنسيين، ليقف بالدليل على محنة فكرة المواطنة في المجتمع الفرنسي.
تحدث اليوم ملامح تغيُّر في نسق القيم الفرنسي المغلق. المناسبة هي الصعود المدوّي للمرشح نيكولا ساركوزي في استطلاعات الرأي واحتمال فوزه في انتخابات الرئاسة. فهو من أصول غير فرنسية (أوروبية شرقية)، وبزوغ نجمه أتى سريعاً، ومؤيدوه من الفرنسيين «الأقحاح»، ثم إن احتمال تحويل أصوات اليمين العنصري إليه ــــــ في حال مواجهته في الدور الثاني للمرشحة الاشتراكية سيغولين روايال ــــــ احتمال وارد. وإذا حصل هذا كله، فستكون فرنسا قد دخلت حقبة من التحوّل الراديكالي في نسق القيم السياسي لديها.
* كاتب عربي