غسان العزي *
كان يفترض أن يكون دومينيك دوفيلبان مرشحاً، من الأوفر حظاً في هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مدعوماً من الرئيس شيراك الذي عينه وزيراً للخارجية فلمع في مواجهة الأميركيين ووزير خارجيتهم كولن باول عشية الحرب على العراق قبل تعيينه رئيساً للوزراء خلفاً لجان ــ بيار رافاران الذي تحمّل مسؤولية الاستفتاء الشعبي ضد الدستور الأوروبي المشترك في أيار 2004. لكن قانون «عقد التوظيف الأول» (CPE) الذي صاغه دوفيلبان وأصر عليه في وجه الإضرابات النقابية الرافضة له والتي لم تنته إلا بعدما أجبرته على التراجع، قضى عملياً على مستقبله السياسي. واستفاد وزير الداخلية نيكولا ساركوزي من إخفاق رئيسه وعدوّه اللدود دوفيلبان كما سبق أن استفاد من كل شيء في صعوده السريع من عمدة بلدية نيللي ــ سور ــ سان الى مركز «الشرطي الأول» مروراً بالنيابة ووصولاً الى رئاسة حزب «التجمع من أجل حركة شعبية» (UMP) الذي رشحه بقوة لخلافة الرئيس شيراك. هذا الأخير اضطر بعد تردد طويل الى الإعلان بأنه «بطبيعة الحال» يدعم رئيس الحزب ساركوزي على رغم ان هذا الأخير جعل من القطيعة مع الحقبة الشيراكية شعاراً لحملته الانتخابية.
في الثاني والعشرين من الشهر الجاري يتوجه الناخبون الفرنسيون للتصويت لأحد المرشحين الاثني عشر في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. لكن فقط ثلاثة من هؤلاء يملكون حظوظاً حقيقية في الوصول الى الإليزيه غداة الدورة الثانية في السادس من أيار المقبل حيث يتنافس المرشحان اللذان يحصلان على العدد الأكبر من الأصوات:
ــ نيكولا ساركوزي الملقب بـ«ساركو» (52 سنة) من أصل هنغاري ومن أم يهودية، معروف بطموحه المفرط وحيويته الهائلة وقدرته على تسلّق الجبال السياسية الوعرة. يدعو طوراً الى «تغيير هادىء» وتارة الى «تبدل عميق» يكون بمثابة «قطيعة» مع الممارسات السياسية السائدة في الإليزيه حتى اليوم. التزم أن لا تتخطى نسبة البطالة خمسة في المئة في نهاية ولايته الأولى، إذا انتخب رئيساً للبلاد. وتعهّد بخفض قوي للضرائب وبممارسة «الصدق والشفافية» في السعي الى صياغة نموذج فرنسي جديد يقوم على قيمة العمل والابتكار. يتهمه خصومه بالانتهازية والفساد والكذب وبأنه يجسّد الإنكلوساكسونية و«الكابوس الأميركي» لإعجابه المفرط بالولايات المتحدة ومحافظيها الجدد وانتقاداته العلنية لسياسة شيراك المناهضة للاحتلال الأميركي للعراق وتأييده إسرائيل التي أعلن اللوبي الفرنسي المؤيد لها تبنّيه الكامل للمرشح ساركو. في المقابل تسبب هذا الأخير عندما كان وزيراً للداخلية في انتفاضة الضواحي الباريسية الشهيرة في العام الماضي بعد وصفه سكانها بالحثالة والأوباش. لذا يستنفر المهاجرون من أصول عربية قواهم من أجل التصويت ضده في هذه الانتخابات التي إذا فاز فيها فسيكون أصغر رئيس يحكم فرنسا في تاريخها المعاصر.
ــ سيغولين رويال (53 سنة) مرشحة الحزب الاشتراكي PS، التي لم يكن أحد يتوقع ان تصل الى خوض معركة انتخابات رئاسية عن هذا الحزب الذي يضم الكثير من الشخصيات المخضرمة ذات التجربة القديمة في الممارسة السياسية والحزبية. تحاول رويال الاستفادة من أنوثتها وأناقتها فترفع شعار «فرنسا الرئيسة» التي آن الأوان كي ترأسها امرأة هي زوجة (لرئيس الحزب فرانسوا هولاند) وأم لأربعة أولاد. لذلك لا تنفك تذكر الناخبين أنها تنظر إليهم نظرة الأم الحنون التي تعرف همومهم وتفهمهم وستبذل الجهود لمساعدتهم ولمحاربة العنف ضد النساء وسوء معاملة الأطفال. وتدعو الى «الديموقراطية التشاركية» التي تقضي بتأليف لجان من الأهالي لمراقبة عمل المنتخَبين. يأخذ عليها خصومها افتقارها إلى الخبرة والتجربة، على رغم أنها كانت في البدء مستشارة للرئيس ميتران بعد تخرّجها من المدرسة العليا للإدارة (ENA)، التي يتخرّج منها عادة كبار المسؤولين الفرنسيين، قبل أن تدخل الى البرلمان وتتبوّأ حقائب البيئة والتعليم المدرسي والعائلة والطفولة. إذا نجحت في الانتخابات فستكون أول امرأة تحكم فرنسا في التاريخ المعاصر.
ــ فرانسوا بايرو (55 سنة) مرشح الوسط هو الآخر فاجأ الجميع بوصوله الى هذا الموقع المتقدم في الصراع على الإليزيه. في البدء لم تكن تعطيه استطلاعات الرأي أكثر من عشرة في المئة من الأصوات، ربما بسبب ضعف حزبه (الاتحاد من أجل الديموقراطية الفرنسية UDF) الذي انصرفت عنه الى الحزب الحاكم شخصيات كبرى مثل رئيس الوزراء الأسبق جان ــ بيار رافاران ووزير الخارجية الحالي فيليب دوست ــ بلازي، ولأن بايرو تسبب في إضرابات طالبية عاصفة عندما كان وزيراً للتربية في عام 1994 أثّرت في مكانته السياسية. لكن خطابه في الأسابيع الأولى للمعركة الانتخابية دفعه الى المركز الثالث وربما الثاني بحسب استطلاعات الرأي. على غرار الآخرين يعد بايرو بالتغيير وبإحداث «ثورة سلمية» تكسر الشرخ ما بين اليمين واليسار عبر برنامج «اقتصادي ــ اجتماعي» هو خليط من أفكار اليسار واليمين والوسط يعمل على تطبيقه «نساء ورجال ذوو كفاءة وشجاعة من المعسكرين» بعد إغلاق مدرسة «الاينا» النخبوية البورجوازية واستبدالها بمعهد عالي المستوى مفتوح على كل الكفاءات. يفاخر بأصوله الفلاحية وبكونه يقود جراراً زراعياً عندما يذهب الى قريته وبأنه مؤمن كاثوليكي يرتاد الكنيسة بانتظام على رغم أنه من أشد الحريصين على الفصل ما بين السياسة والدين. يأخذ عليه خصومه ضبابيته وعدم وضوح برنامجه في سعي محموم الى اكتساب الأصوات من اليمين واليسار، الأمر الذي يقود في حال فوزه الى رئاسة مربكة ومشلولة هي عكس التغيير «الثوري» الموعود.
يبقى المرشح اليميني المتطرف جان ــ ماري لوبان زعيم «الجبهة الوطنية» FN صاحب شعار «فرنسا أولاً» الذي وإن وصل الى الدورة الثانية فإن حظوظه في تبوّؤ الرئاسة تبقى منعدمة لأن الأصوات سوف تذهب عندها الى خصمه أياً يكن هذا الخصم، كما بيّنت التجربة في انتخابات عام 2002. وقتها وخلافاً لكل التوقعات، وصل لوبان الى الدورة الثانية في مواجهة جاك شيراك على حساب المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان الذي كان متقدماً على الجميع في استطلاعات الرأي. اضطرت كل الأحزاب المتخاصمة في ما بينها الى استنفار قواها لدعم شيراك منعاً لاحتمال فوز لوبان، فكان أن حصل شيراك على ثمانين في المئة من الأصوات للمرة الأولى في التاريخ الفرنسي.
المفارقة هذه المرة أن مجرد وصول مرشح الوسط فرانسوا بايرو الى الدورة الثانية يعني فوزه بالرئاسة لأنه بالإضافة الى أصوات ناخبيه سيحصل عندها على أصوات اليسار إذا كانت المواجهة مع ساركو أو لوبان، وعلى أصوات اليمين إذا كانت هذه المواجهة مع رويال.
ودوماً في مجال المفارقات يلاحظ المراقب للانتخابات الفرنسية الحالية افتقارها إلى النقاش السياسي الحقيقي ليس فقط بسبب غياب المواجهات المتلفزة المعتادة بين المرشحين بل لأسباب عديدة أخرى. هناك غياب للفروق القاطعة الواضحة في خطاب المرشحين الذين يستعير بعضهم من بعض الشعارات (التغيير والهوية الوطنية والموقف من العولمة وإصلاح المؤسسات وغيرها). رويال تشبّه نفسها بجان ــ دارك على ما اعتاد فعله اليمين المتطرف. زعيم هذا الأخير المعروف بكراهيته للعرب والمهاجرين لا يتردد في الذهاب بنفسه الى»ارجانتاي» الضاحية التي يسكنها هؤلاء ليقول لهم إنهم فرنسيون بالكامل منتقداً وصف وزير الداخلية ساركوزي لهم بالحثالة والأوباش. وهو نفسه يستحضر معارك فرنسا التاريخية ضد الممالك الأوروبية في مديحه روح الجمهورية. رويال تطلب من مؤيديها في المهرجانات الانتخابية إنشاد النشيد الوطني ورفع العلم الثلاثي الألوان على شبابيكهم في الأعياد الوطنية. ساركوزي يتكلم بافتخار عن زعماء فرنسا التاريخيين من جان جوريس وليون بلوم الى جول فيري وجورج ماندل وهم يساريون، من دون أن ينسى كليمنصو وديغول متوجّهاً الى العمال والفلاحين والفقراء والمهمشين. فيما بايرو يقدم نفسه مرشحاً للشعب آتياً من صفوف المزارعين لا البورجوازية على غرار منافسَيْه، ويستحضر مآثر الملك هنري الرابع.
في المحصلة يتكلم كل المرشحين عن الشعب والأمة والهوية الوطنية وروح الجمهورية والأمجاد الفرنسية والتاريخ المجيد... بهدف طمأنة الفرنسيين حيال العولمة والمهاجرين وتوسّع الاتحاد الأوروبي.
* كاتب لبناني