مهدي شحادة *
تحتل فرنسا مكانة بارزة تقليدياً في رسم الخيارات الدبلوماسية وبعض الخيارات الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي منذ قيامه عام 1957.
وتمكنت الحكومات الفرنسية المتعاقبة من صد باب أوروبا عدة مرات في وجه خطط الولايات المتحدة ،الهادفة إلى إحكام القبضة العسكرية والدبلوماسية والتجارية على توجهات التكتل الأوروبي.
كما أن فرنسا، منذ قرار الرئيس الراحل شارل ديغول الخروج من الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي، تبنت في الغالب سياسات وتوجهات متناقضة مع الخط الأطلسي العام الذي ترسمه واشنطن وتنفذه لندن داخل القارة الأوروبية وخارجها. ومع اقتراب ساعة الحسم في فرنسا وتنصيب مشرف جديد على قصر الإليزيه في باريس لمدة خمس سنوات مقبلة، تتذكر الولايات المتحدة والقوى الأكثر التصاقاً بها، وفي مقدمتها إسرائيل، مجمل هذه المعطيات الموضوعية بالنسبة إلى توجهات فرنسا الداخلية والخارجية(...).
ويفسر هذا الشق من التعامل الأوروبي والدولي مع أية حكومة مقبلة في باريس التركيز المتصاعد للقوى المحافظة الجديدة في فرنسا نفسها واللوبي الإسرائيلي على السعي للتأثير على مجرى الاقتراع الفرنسي وتوجيهه بشكل يخدم مصالح البيت الأبيض بالدرجة الأولى ومصالح إسرائيل من ورائها. وواشنطن، منذ الخريف الماضي، لم تنتظر سير الحملة الانتخابية الفرنسية، حيث فتحت أبوابها على مصراعيها للمرشح نيكولا ساركوزي الذي سُخِّرَ للتهجم على سياسة بلاده في العراق ومن خارج فرنسا هذه المرة.
وفيما بدت، حتى أسابيع قليلة خلت، مرشحة اليسار الفرنسي سيغولين رويال الأكثر قرباً من القوى المؤيدة لإسرائيل، وخاصة في صفوف من يطلقون على أنفسهم، وتطلق عليهم وسائل الإعلام الموالية لحكومة تل أبيب، المثقفين والفلاسفة الجدد، فإن المعادلة بدأت تتغير وبدأت هذه الأصوات نفسها تعلن الواحد بعد الآخر ولائه لنابليون فرنسا الجديد المعلن نيكولا ساركوزي.
وتصفق هذه الأجهزة للمرشح ساركوزي عندما يعلن جهاراً أن حركة حماس هي حركة إرهابية، وأن حزب الله هو المعتدي على إسرائيل الصيف الماضي، وأن مشكلة العالم الأولى هي الإرهاب الإسلامي!
وإن لم تُخفِ الأوساط اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة والمقربة من إدارة الرئيس بوش، إطلاقاً دعمها المفتوح للمرشح ساركوزي وفتحت له أبواب البيت الأبيض وخصصت له مساحات إعلامية واسعة، وبُثَّت مقابلات معه عبر الشبكات التلفزيونية النافذة، ونُشرت مقالات عنه في كبريات الصحف، فإن الأوساط المؤيدة لإسرائيل ترددت في دعمه لعدة أسباب، وأهمها قرب أطروحاته من أطروحات اليمين المتطرف وحتمية ركونه لدعم هذه الأصوات خلال الجولة الثانية والأخيرة من الاقتراع نهار السابع من أيار المقبل.
ومع تراجع أدائها في عمليات استطلاع الرأي، بدأت تدفع بما يعرفون بالمثقفين اليهود والمحافظين الجدد إلى التحالف لنصرة ساركوزي، خير ضامن للمصالح الأميركية الإسرائيلية في فرنسا وخير رائد للإرث الديغولي (...) وخاصة أن ساركوزي هو يهودي من أصل مجري، وقد اعتنق والده لاحقاً الكاثوليكية.
ورغم ما يسعى المرشح اليميني للإيحاء به هذه الأيام عبر مغازلة أبناء الأحياء الشعبية في باريس وضواحيها، وعبر تعيينه ضمن فريق الحملة المحيط به لسيدة مغربية الأصل/رشيدة داتي/ وجعلها ناطقة باسمه، فإن ساركوزي يبدو المرشح النقيض لمبادئ الديغولية.
وفي مؤشر على التعبئة الأميركية الإسرائيلية الكاسحة لمصلحة ساركوزي، وهي الحملة الي تعتبر سيغولين رويال الضحية الأولى لها، أعلن العديد من المفكرين اليهود المؤيدين بشكل مطلق لإسرائيل والمقربين من المحافظين الجدد في أمريكا دخولهم الأسبوع الماضي رسمياً الحملة الانتخابية لجانب نيكولا ساركوزي.
ومن بين هؤلاء المفكر الساحر المعروف أندريه غليكسمان، وقد اشتهر بقيامه بحملات لصالح الشيشان ضد روسيا قبل أن يعلن تأييده للحرب الأمريكية على العراق عام 2003 وينضم لتكتل المحافظين الجدد بزعامة ريتشادر بيرل ودونالد رامسفيلد في واشنطن. ونشر غليكسمان مقالة مثيرة منذ أيام في صحيفة لوموند برر فيها خياراته الجديدة لصالح مرشح اليمين على حساب أقاويله اليسارية السابقة.
كما أن اثنين آخرين من المفكرين اليهود المعروفين وهما باسكال بروكنار وألان فينكلكراوت اللذين تبجحا طوال العقود الأخيرة بفكرهم اليساري انضما إلى جوقة المؤيدين لساركوزي مثلهما مثل الناطق السابق باسم الرئيس ميتران نفسه، ماكس غالو والمغني انريكو ماسياس الذي كان هو الآخر أحد أنصار الرئيس الاشتراكي الراحل!
وأمام هذا الانهيار من قبل من كانوا يصفون أنفسهم بمفكري فرنسا لا يمتلك الفرنسيون العاديون أية وسائل للتصدي للحملات الإعلامية المنظمة لدعم نيكولا ساركوزي، الذي ــــــ في إشارة الى أصوله ــــــ يصف نفسه بالمرشح الخليط الدماء!
ولا يحمل الفرنسيون عموماً أية أوهام تذكر بشأن نتيجة الانتخابات المقبلة في فرنسا، التي يبدو أن أجهزة الإعلام الفرنسية التي تحركها إسرائيل وتغذيها واشنطن قد حسمتها قبل أن تبدأ(...)
  • * مدير مركز الدراسات العربي ــــــ الأوروبي