strong>نصري الصايغ
I ـــ ضد النسيان
الحروب، لا تنسى البتة، ومنها الحروب اللبنانية، وتحديداً، حروب الإخوة الأعداء، في حرب الخمسة عشر عاماً.
الحروب، عقل التاريخ، لا قلبه. ولكنها، عندما تنتهي، تقيم في الذاكرة، ومنها، تطل على التوظيف، إما للعبرة، وإما للانتقام. أي تطل على العقل للإفادة، أو على القلب للثأر المستطاع أو الثأر العاجز.
حروب لبنان الداخلية، التي اندلعت في 13 نيسان/ ابريل 1975، اصطفّت في الذاكرة، وأقامت فيها، تحفر عميقاً في الماضي، وتحفر أكثر في المستقبل. الحروب اللبنانية لم تمت بعد، لم تهدأ بعد، إنها على وشك الحضور العلني، بعد اختبائها في الذاكرة، كلغم معدّ سلفاً، لتشكيل الفوضى الدامية، في لبنان.
لذا، يعيش اللبناني، لدى كل صعوبة أو أزمة، محنة السؤال: هل ستعود الحرب؟ إنها لن تعود. هي هنا، ولكنها محتجبة عن القتل.
II ـــ كأن شيئاً لم يكن
إذاً، الحرب لا تنسى.
ما معنى مصطلحات تتكرر: العفو، التسامح، الغفران؟ أو، ما دلالة: الاعتبار، لا غالب ولا مغلوب، التعايش، أو، ما قيمة ما يردده البعض عن تنظيف الذاكرة اللبنانية، أو، هل بمقدور اللبنانيين النظر الى فصول الحرب اللبنانية بدقة، من دون الوقوع مجدداً في حروب كلامية تفضي الى اندلاع العنف وتسويق الأحقاد وإيقاظ الثارات وتعميم الفجور الأخلاقي؟
لا يقدر لبنان، أن ينظر بطريقة موضوعية الى حربه، إنه جاء منها، وما زال فيها، ويرى هلاكه! أو خلاصه! باستعادة فصولها، مع تعديل في النهايات فقط.
أليس لذلك، لم يجرؤ لبنان على كتابة تاريخه الرسمي، ليتعلمه تلامذته في المدارس؟ أليس خوفاً من حرب أو فتنة أو ما لا تحمد عقباه؟
لذا، يقفز لبنان، بعد حروبه إلى ما يأتي:
«لا غالب ولا مغلوب» و«عفا الله عما مضى».
أي يحدد، بعد كل حرب، أن الجميع قد مني بالخسارة، وأنه لا ضرورة البتة للاعتبار والنظر، وعليه، فإن على اللبنانيين أن يصدروا عفواً عما ارتكب، ويبدأوا حياتهم، كأن شيئاً لم يكن.
... لكن شيئاً كان، لكن أشياء قد حدثت، فليس صحيحاً أن اللبنانيين خرجوا بصيغة لا غالب ولا مغلوب، ولا عفا الله عما مضى». يقبل اللبنانيون، بالتسوية الغامضة، لأن الحروب أسفرت عن عدم القدرة على الحسم العسكري.
III ـــ يربح من لا يخوض حرباً
صيغة «لا غالب ولا مغلوب» غير دقيقة، إن لم تكن كاذبة برمّتها. ففي عام 1958، خسر حلف العروبة قضيته، كما خسر معسكر الغرب أحلافه. أي، بطريقة التذاكي، لم تربح الناصرية، ولا ربحت مشاريع الاحتماء والحماية الغربية. لقد خسر الفريقان، وربح الفريق الثالث، الذي استطاع أن يأخذ لبنان الى موقع الحياد المتصالح، مع الرئيس فؤاد شهاب.
صيغة لا غالب ولا مغلوب مفضوحة بعد حروب 1975 ـــ 1990. فالحركة الوطنية خسرت. مشروع بشير الجميل انتحر. 17 أيار سُفك. التقسيم مات. الكونفيدرالية لُعنت، الاستقلال، يا حرام. حركة المقاومة الفلسطينية طُردت، إسرائيل هُزمت، المارينز دفنوا هنا... وبرغم كل ذلك، قيل: لا غالب ولا مغلوب.
غير صحيح: لقد غُلب لبنان، وغُلبت المارونية السياسية، وغُلبت القوى اللبنانية كافة، ووُضعت تحت الوصاية. خرج لبنان مغلوباً بالمرة، اقتصاداً وسياسة وسلطة ومجتمعاً. لم يتيسّر له، غير مقاومة، جاءت من خارج القوى المتصارعة في لبنان وعلى لبنان، ففازت.
لنتذكر الأمثولة السابقة ونضيف إليها: فازت المقاومة، ولم تشترك في حروب الإخوة الأعداء، إلا لماماً. وفازت مرة أخرى، عندما حررت الأرض من عدوّ مقيم. إنما، عندما حضرت إلى بؤرة الصراع في الداخل، توقفت عند التخوم المرسومة، في داخل الصيغة الوهمية: «لا غالب ولا مغلوب».
IV ـــ العفو الملغوم
الحيلة التي اخترعها اللبنانيون، لإنهاء الحرب وبدء مرحلة جديدة، مأخوذة من المأثور الشعبي «عفا الله عما مضى». وهذا المأثور، يُعفي المتحاربين من أي مسؤولية. فالماضي، المشبع بالحروب والدماء، هو في عهدة الله، وهو غفور رحيم. أي، لا مسؤولية البتة على من ارتكب جرائم الحرب والتهجير والقتل الجماعي، والخطف، والتصفية الجسدية، والتعذيب، والسرقة، والتدمير المنهجي، واللصوصية، والمصادرة، وتجارة الجثث.
كل هذه «المآثر» الدموية، تقع في الحضانة الإلهية، وعليه أن يتدبر أمرها. وما يقال هنا، ليس من باب السخرية أو التشفي، فلبنان، لم يعاقب أحداً على ما ارتكبه إبان الحرب، عفا القتلة عن أنفسهم بالتمام والكمال.
هل كان يمكن أن يحدث غير ذلك؟
في زمن العثمانيين، وبعد فتنة 1860، جرت ملاحقات لمجرمي الحرب، من قبل السلطة العثمانية. في زمن «الحضارة اللبنانية»، يرتع المجرمون بمكاسبهم في السلطة.
جواباً عن السؤال الآنف: ليس باستطاعة لبنان أن يلزم قادته بتقديم جردة حساب عن أفعالهم، ولا بمقدوره استبدال هذه القيادات بسواها، لسبب بسيط جداً، وهو أنه لا يحسن اختيار غيرها أو يتمسك بها تمسكاً مبرماً. (كل فريق يتمسك بقائده، مهما كان سجله الحربي).
ولا يستغرب أبداً، أن لبنان، لا ينتج قيادات جديدة. إنها هي ذاتها، لأنها تخرجت من المدرسة نفسها. لم يتيسّر للبنانيين إنتاج ثقافة سياسية جديدة، بديلة عن الثقافة القبلية والطائفية الموروثة، ولم يجدد في سلّم قيمه وأخلاقه ليصير على سوية المساءلة والمحاسبة، واحترام القوانين، لم يصل بعد الى رتبة مبتدئ قادر على تهجئة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في سلوكه، وعليه، فإنه يتمسك بقياداته المتكررة، بأسماء مختلفة، لتمثيل الدور المرسوم، على مستوى الكفاءة الطائفية، والقيم السافلة للطائفية.
أمثولة للمستقبل: لا يملك اللبنانيون ذاكرة واحدة. إنها موزعة عليهم بعدد طوائفهم. الذاكرة اللبنانية، هي ذاكرة طوائفه المتقاتلة والمتخاتلة. تأسيس ذاكرة موحدة، قد يطول زمنه.
V ـــ نظام المساءلة
من التجارب المفيدة، شعوب تعلمت من حروبها. منظمات مدنية ألزمت سلطاتها بمراجعة تاريخها وإعادة كتابته وفق منطق الاعتراف، لا من ضمن آلية الوصف التاريخي، أعني، أن من ارتكب الحروب، لن يقدم على الاعتراف بها، لا هو، ولا ورثته.
من خلال استقراء تجربة التسامح والغفران التي حصلت في جنوب أفريقيا، وتلك التي ألزمت فيها ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية واليابان، على التعويض، على ما ارتكبوه في بعض حروبهم، يمكن تسجيل ما يأتي:
أولاً: لم يكن مقصوداً، أن يقوم نظام التمييز العنصري على وصف ما أبدعته آلة الإجرام والنبذ والاستعباد والتعذيب والسجن والقتل والنفي والإبادة. كان النظام قوياً، ولما ضعف النظام، وتغيرت وجهة السلطة فيه، واستبدلت ثقافته العنصرية بثقافة المواطنة والمساواة والعدالة وإلغاء التمييز، أقدمت القوى الجديدة على:
أ ـــ وصف موضوعي ومفصّل، لما ارتكبه النظام العنصري في جنوب أفريقيا.
ب ـــ الاعتراف العلني بهذه الارتكابات وإدانتها.
ج ـــ التعويض المادي والمعنوي على الضحايا والمتضررين.
د ـــ الندم على ما ارتكب.
هـ ـــ التسامح والعفو.
ملاحظة: لبنان يبدأ بالعفو عما مضى. ما قبل ذلك، محرّم.
ثانياً: أقدمت ألمانيا، بعد انهيار النازية، على التعويض، مع سويسرا على ضحايا الحرب، وتحديداً على اليهود. (تحولت هذه العملية الى ابتزاز دائم).
ثالثاً: بعد سقوط الأمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وإدانة قياداتها، اعترفت اليابان بما ارتكبته، ودفعت تعويضات كبيرة لضحاياها.
رابعاً: بعدما زال نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة الأميركية، قبلت واشنطن وبصعوبة، وبعد مطالبات امتدت لعقود، بمبدأ التعويض عما ارتكبته من عمليات إزاء الأميركيين من أصل ياباني في الحرب. كما دفعت مبالغ رمزية، لبعض المتضررين من حروب الإبادة الأميركية للهنود في بلادهم.
خامساً: لم تقرّ المجموعة الأوروبية، مدعومة من واشنطن، بالاعتراف بما ارتكبته في زمن الاستعمار، كي لا تلزم بدفع التعويضات لضحايا الاستعباد والقتل والنفي والسرقة في المستعمرات السابقة.
أمثولة للمستقبل: يقول داريدا: الجرائم ضد الإنسانية لا يمحوها الزمن. يجب أن تعاقب، لا مرور زمنياً على جريمة إنسانية. أمام اللبنانيين، في زمن لاحق، فرصة الدينونة، فما ارتكبه زعماء الحروب اللبنانية الحاكمون بعد الحرب أيضاً، لن ينسى.
VI ـــ الموت الأخلاقي
متى يتأهّل لبنان لتتعافى ذاكرته من آثام الحرب؟
التجارب الواردة أعلاه، تفيد بشكل حاسم، أن المسؤول عن ارتكاب جرائم الحرب، اثنان: ثقافة ونظام.
التمييز العنصري ثقافة، استلحقت بنظام عرقي، الصهيونية ثقافة، ابتدع لها نظام وأرض ودولة، الاستعمار ثقافة ونظام. العولمة ثقافة ونظام، النازية ثقافة ونظام، والطائفية كذلك ثقافة ونظام.
الثقافة الطائفية السائدة في لبنان، على مستوى النخب والجامعات والإعلام والمعاهد والمدارس والبيوت والأندية والإنماء «المتوازن»!!! هي ثقافة مؤسسة على التمييز الطائفي، الملزم بالتعايش في زمن السلم، على زغل، والمذهل في زمن الأزمات، للتناتش والتقاتل، هي ثقافة رفض الآخر بالعقل والقلب معاً. هي ثقافة تؤسس مستواها المعرفي من خلال توظيف الذاكرة كحجة على صحة عقيدتها الطائفية.
أما المسؤولية الثانية فتقع على النظام اللبناني، الذي يرعى أو يتساكن مع هذه الثقافات وقواها الطائفية الحية، بذاكراتها الجمعية المفتونة بالانتقاء الدموي.
وعليه، فإن لبنان ليس جديراً، ما دام يرزح تحت وطأة ثقافة ونظام متزاوجين مع الطائفية،أن ينظف ذاكرته، وأن يأخذ العبر من حروبه، وأن يلجأ الى التوبة كأن يعلن ويتبنّى على الملأ:
1 ـــ عدم اللجوء الى العنف أبداً: العنف اللفظي، العنف التمييزي، العنف المادي والعنف الاقتصادي.
2 ـــ احترام القوانين وجعلها السلطة العليا.
3 ـــ القبول بمبدأ المساواة التامة أمام القانون، لمجموع المواطنين.
4 ـــ احترام مبدأ الحرية الفردية ضمن دائرة الوطن.
5 ـــ الحث على المساءلة والمحاسبة.
قبل أن نصل إلى إقرار هذه المبادئ وممارستها، سيبقى اللبنانيون أسرى طلقاء للحروب المقبلة.
أمثولة للمستقبل: لم تقدم سلطة على الاعتراف بمسؤوليتها عن جرائمها المرتكبة في الحروب، إلا بعدما ابتدعت منظمات المجتمع المدني وسائل وآليات ضغط على السلطة، واللبنانيون، في منظمات مجتمعهم المدني، لم يبذلوا بعد الحد الأدنى من الضغط، والدليل، أن عدد المخطوفين والمفقودين يتعدى الخمسة عشر ألفاً، وإذا أحصي أهلهم وأقاربهم وأصدقاؤهم الأحياء فإن عددهم يجب أن يصل الى تسعين ألفاً، ومع ذلك، فإن تلبية الدعوات لدعم مطالب أهالي المخطوفين والمفقودين، لا تصل الى المئات، إننا مجتمع ميت أو يتحضر للموت الأخلاقي.
* كاتب لبناني